اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} 8/10/1444ه
د عبدالعزيز التويجري
الخطبة الأولى : {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} 8/10/1444ه
الحمد لله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر إنه غفور شكور، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له إليه تصير الأمور ، وأشهد أن نبينا محمد عبده ورسوله صلى الله وسلم وبرك عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما مزيدا..
أما بعد ..
فاتقوا الله أيها المؤمنون "وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا "
إذا عزّ أمرُ فاستعن أنت بالذي ... قديرُ على تيسيرِ كلِ عسيرِ
إذا ضاقت المعيشةُ على فئامٍ من الناسِ، وحلّ الهمُّ على آخرين، واشتدتِ المسغبةُ على البهائمِ والدوابِ، وغلبَ البخلُ والجشعُ والطمعُ والتقتيرُ من أهلِ الأرضِ، فتحَ اللطيفُ الخبيرُ خزائنَ جودهِ، فعمَّ بلطفهِ البرَ والفاجر، وشملَ برحمتهِ وعطائهِ أنعاماً وأناسي كثيرا ..
إذا اشتملت على البؤسِ القلوب ** وضاقَ بما به الصدر الرحيب
ولم نـر لانكشاف الضــر وجهـا ** ولا أغنى بحيلتـــه الأريــــب
أتاك على قنوط منك غوث ** يمن به اللطيف المستجيب
"اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ" برٌّ بليغ البر بعباده، رفيق بهم يفيض عليهم من فنون ألطافه، وصنوف آلائه ما لا تبلغه الأفهام، يعلم دقائق المصالح وغوامضها، وما دق منها ولطف، ثم يسلك في إيصالها إلى المستصلح ما تقتضيه مشيئته وحكمته..
فكمْ للهِ منْ تدبيرِ أمرٍ ** طوتهُ عنِ المشاهدةِ الغيوبُ
وكمْ في الغيبِ منْ تيسيرِ عسرٍ ** و منْ تفريجِ نائبةٍ تنوبُ
ومنْ كرمٍ ومنْ لطفٍ خفيٍّ ** و منْ فرجٍ تزولُ بهِ الكروبُ
كريمٌ منعمٌ برٌّ لطيفٌ ** جميلُ السترِ للداعي مجيبُ
قِيلَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: حَدِّثْنَا مِنْ شَأْنِ الْعُسْرَةِ، قَالَ: خَرَجْنَا إِلَى تَبُوكَ فِي قَيْظٍ شَدِيدٍ، فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا، أَصَابَنَا فِيهِ عَطَشٌ، حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّ رِقَابَنَا سَتَنْقَطِعُ، حَتَّى إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيَذْهَبُ يَلْتَمِسُ الْمَاءَ، فَلَا يَرْجِعُ حَتَّى نَظُنَّ أَنَّ رَقَبَتَهُ سَتَنْقَطِعُ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَنْحَرُ بَعِيرَهُ فَيَعْصِرُ فَرْثَهُ فَيَشْرَبُهُ وَيَجْعَلُ مَا بَقِيَ عَلَى كَبِدِهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ عَوَّدَكَ اللَّهُ فِي الدُّعَاءِ خَيْرًا، فَادْعُ لَنَا، فَقَالَ: «أَتُحِبُّ ذَلِكَ؟» قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَرَفَعَ يَدَيْهِ r فَلَمْ يُرْجِعْهُمَا حَتَّى أَظَلَّتْ سَحَابَةٌ، فَسَكَبَتْ، فَمَلَأُوا مَا مَعَهُمْ، ثُمَّ ذَهَبْنَا نَنْظُرُ، فَلَمْ نَجِدْهَا جَاوَزَتِ الْعَسْكَرَ. أخرجه ابن حبان في صحيحه.
"اللهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ " أَيْ رَفِيقٌ بِهِمْ يُوصِلُ إِلَيْهِمُ الْخَيْرَ وَالرِّزْقَ، بِمُنْتَهَى الْعِنَايَةِ وَالرِّفْقِ، فلَا يَتْرُكُ أَحَدًا بِلَا رِزْقٍ {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} وَفَضَّلَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ جَرْيًا عَلَى مَشِيئَتِهِ {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ}.
وَمِنْ أَجْلَى مَظَاهِرِ اللُّطْفِ اللُّطْفُ عِنْدَ الِاضْطِرَار.. يُري عزته ثم يُبدي لطفه، أُلقي يوسف في الجب، ثم امتحن بامرأة العزيز، ثم رمي في السجن، فلطف الله به فأتاه الله الملك ومكنه في الأرض فقال لأبويه {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}.
وهكذا عندما تضيق الحال ويشتد الكرب من تسلط ألاعداء، أو مرض يفتت الأعظاء يأتي اللُطْفُ من البر الرحيم {وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} فيمتحن أولياءه بما يكرهونه ليُنيلهم ما يحبون.
فكم لله من لطف وكرم لا تدركة الأفهام، ولا تتصوره الأوهام، وكم استشرف العبد على مطلوب من مطالب الدنيا المحبوبة فيصرفه الله عنها ويصرفها عنه رحمةً به لئلا تضره في دينه، فيظلُ العبدُ حزينا من جهله وعدم معرفته بربه، ولو علم ما دخر له في الغيب وأريد إصلاحه لحمد الله وشكره على ذلك، فإن الله بعباده رؤوف رحيم، لطيف بأوليائه.
ثم يختم الله آية لطفه بقوله {وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} إشارةً إلى أن لطفه مقرونٌ بقهره.
فسبحانَ منْ تعنو الوجوهُ لوجههِ ** ويلقاهُ رهنَ الذلِّ منْ هوَ جبارُ
ومنْ كلِّ شيءٍ خاضعٌ تحتَ قهرهِ ** تصرفهُ في الطوعِ والقهرِ أقـدارُ
عظيــمٌ يهــونُ الأعظمــونَ لـــــعزهِ ** شديدُ القوى كافٍ لذي القهرِ قهارُ
لطيفٌ بلطفِ الصنعِ فضلنا على ** خلائقَ لا تحصى وذلكَ إيثارُ
تسبــحُ ذراتُ الوجـــــودِ بحمــــــــدهِ ** ويسجدُ بالتعظيمِ نجمٌ وأشجارُ
ويبكي غمامُ الغيثِ طوعاً لأمرهِ ** فتضحكُ مما يفعلُ الغيثُ أزهارُ
وينشقُّ وجهُ الأرضِ عنْ معشبِ الثرى َ ** وتجري ولا يجري سوى َ الله أنهارُ
تباركَ ربُّ الملكِ والملكوتِ مـنْ ** عجائبَ يرويهنَّ بدوٌ وحضارُ
سبحان ربي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مُلكًا ومِلْكًا، قد أحاط بهم قدرةً وعلمًا، فهو الْغَنِيُّ عن كل شيء، المفتقر إليه كل شيء، المحمود بنعمته قبل ثناء من في السموات والأرض عليه، المستحقُ للحمدِ جل جلاله "أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى".
قضى وقَدَّرَ سبحانه أَنْ لَا يَخْلُوَ عُسْرٌ مِنْ مُخَالَطَةِ يُسْرٍ وَأَنَّهُ لَوْلَا ذَلِكَ لَهَلَكَ النَّاسُ "وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ"
وفي الغيبِ للعبدِ الضعيفِ لطائفٌ ** بها جفتِ الأقلامُ وانطوتِ الصحفُ
أستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ..
الخطبة الثانية .. الحمدلله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه وصلى الله على عبده ورسوله الداعي على رضوانه وعلى اله وأصحابه وأعوانه ، أما بعد
"اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ" يلطف بهم فلا يعاجلهم بالعقوبة ليتوبوا ، أعطاهم فوق الكفاية، وكلَّفهم دون الطاقة "لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا".
وأما الكافر فأقل لطفه به أنه لا يعاجله في الدنيا ولا يعذبه فوق ما يستحق في الأخرى.
من لطف الله بالمستظعفين: أنه "يُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إذا أخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ".
من لطفه بعباده: توفيق الطاعات، وتسهيل العبادات، وتيسير الموافقات «اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ».
ومن لطيفِ لُطفِ اللهِ بعبدهِ أن يأجره على أعمال لم يعملها "فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا، كَتَبَهَا اللهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، وَإِنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا، كَتَبَهَا اللهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً".
"اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ" يكتب للمريض والمسافر مثل ما كان يعمل في الصحة والإقامة من الحسنات «إِذَا مَرِضَ العَبْدُ، أَوْ سَافَرَ، كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا».
من لطفه سبحانه إبهام العاقبة لئلا يتكلوا أو ييأسوا "وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا".
من لطفه سبحانه بالعبد: إخفاء أجله عليه لئلا يستوحش إن كان قد دنا أجله. "لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى"
"اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ" ومِن لطفه سبحانه: تسهيله الأرزاق، وتيسير الارتفاق {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ }.
ومن لطفه، أنه يُري عبده عزته في انتقامه وكمال اقتداره، ثم يظهر لطفه بعد أن أشرف العبد على الهلاك، فكم يسوق إلى عبده الخير، ويدفع عنه الشر بطرق لطيفة خفية.
وَمَنْ لُطْفُهُ مَا لَسْتُ أَبْلُغُ كُنْهَهُ ** وَلَا حَدُّهُ الْأَجْزَاءُ مِنْ عَدَدِ الْقَطْرِ
وَمَنْ هُوَ رَبَّانِي وَغَـذَّى بِلُطْفِــــــــهِ ** وَجَلَّلَنِي بِاللُّطْفِ وَالْمَنِّ وَالسِّتْرِ
وأَنْعَشَنِي مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ وَحَيْرَةٍ ... وَفَهَّمَنِي مِنْ بَعْدِ أَنْ كُنْتُ لَا أَدْرِي
{ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ }
اللهم كن بنا لطيفا رحيما اللهم اللطف بنا وبالمسلمين في قضائك وقدرك ..
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد ..
اللهم آمنا في دورنا وأصلح ولاة امورنا ...
المرفقات
1682616840_{اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ}.pdf
1682617038_{اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ}.docx