اللسان

إبراهيم بن حمد العقيل
1440/07/09 - 2019/03/16 12:32PM
أَمَّا بَعْدُ: معاشِرَ المُؤمنينَ: فإنَّ اللِّسانَ مِنْ نعمِ اللهِ العظيمةِ, ولطائفِ صُنْعِهِ الغريبةِ؛ فإنَّهُ صغيرُ جِرْمِهِ, عظيمُ طاعتِهِ وجُرْمِهِ؛ إِذْ لا يستبينُ الكُفْرُ والإِيمانُ إِلَّا بشهادةِ اللِّسانِ، وهُما غايةُ الطاعةِ والعِصيانِ.
يقولُ تعالى مُقرِّرًا نِعمَتَهُ: (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ), وقالَ تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ).
(وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ) يَعْنِي: وَاخْتِلَاف مَنْطِق أَلْسِنَتكُمْ وَلُغَاتهَا، فَهَؤُلَاءِ بِلُغَةِ الْعَرَبِ، وَهَؤُلَاءِ تَتَرٌ لَهُمْ لُغَةٌ أُخْرَى، وَهَؤُلَاءِ رُومٌ، وَهَؤُلَاءِ إِفْرِنْجُ، وَهَؤُلَاءِ بَرْبَرٌ، وَهَؤُلَاءِ حَبَشَةٌ، وَهَؤُلَاءِ هُنُودٌ، وَهَؤُلَاءِ عَجَمٌ، وَهَؤُلَاءِ أَكْرَادٌ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ مِنَ اخْتِلَافِ لُغَاتِ بَنِي آدَمَ، معَ أنَّ الأصلَ واحدٌ ومخارِجَ الحروفِ واحدةٌ، ومعَ ذلِكَ لا تَجِدُ صَوْتينِ مُتَّفقينِ مِنْ كُلِّ وجهٍ. وهَذا دالٌّ على كمالِ قدرتِهِ سبحانَهُ، ونفوذِ مشيئَتِهِ, وعنايَتِهِ بعبادِهِ ورحمتِهِ بهِمْ، أنْ قدَّرَ ذلكَ الاختلافَ لِئَلَّا يقعَ التشابُهُ فيحصُلَ الاضطرابُ.
عبادَ اللهِ: لِلِّسانِ في الخيرِ مجالٌ رَحْبٌ, ولهُ في الشَّرِّ ذَيْلٌ سَحْبٌ, فمَنْ أطلَقَهُ وأهملَهُ مُرْخَى العنانِ سلَكَ بهِ الشَّيطانُ في كلِّ ميدانٍ, وساقَهُ إلى شَفَا جُرُفٍ هارٍ إلى أنْ يضطرَّهُ إلى البَوارِ, ولا يَنْجُو مِنْ شَرِّ اللِّسانِ إِلَّا مَنْ قَيَّدَهُ بلجامِ الشرعِ، فلا يُطلِقُهُ إِلَّا فيما ينفَعُهُ في الدُّنيا والآخِرَةِ, ويكفُّهُ عَنْ كُلِّ ما يَخْشَى غَائِلَتَهُ في عاجِلِهِ وآجلِهِ.
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ  قَالَ: «إِذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ فَإِنَّ الأَعْضَاءَ كُلَّهَا تُكَفِّرُ اللِّسَانَ فَتَقُولُ: اتَّقِ اللَّهَ فِينَا فَإِنَّمَا نَحْنُ بِكَ، فَإِنْ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا, وَإِنْ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا».
ومعنى قَوْله: "تُكَفِّرُ اللِّسَانَ"، أي: تخضع لَهُ؛ وَإِنَّمَا خَضعَتْ لِلِّسانِ لِأَنَّهُ بريدُ الْقلبِ وترجُمانُهُ, والواسطةُ بَينَهُ وَبَينَ الْأَعْضَاءِ, وَقَوْلُها: "فَإِنَّمَا نَحْنُ بِكَ"، أَي: نجاتُنَا بكَ وهَلاكُنا بكَ, وَلِهَذَا قَالَت: "فَإِنْ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا وَإِنْ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا".
فإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَسْتَدِلَّ عَلَى مَا فِي الْقَلْبِ، فَاسْتَدِلَّ عَلَيْهِ بِحَرَكَةِ اللِّسَانِ، فَإِنَّهُ يُطْلِعُكَ عَلَى مَا فِي الْقَلْبِ، شَاءَ صَاحِبُهُ أَمْ أَبَى.
فإنَّ لسانَ المرءِ مفتاحُ قلبِهِ *** إذا هو أبدَى ما يقولُ مِنَ الفَمِ
قَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ : "الْقُلُوبُ كَالْقُدُورِ تَغْلِي بِمَا فِيهَا، وَأَلْسِنَتُهَا مَغَارِفُهَا".
والصادق المصدوق  يقول: «أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ، صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ، فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ».
عبادَ اللهِ: «لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ» ،والمُرادُ باستقامةِ إيمانِهِ: استقامةُ أعمالِ جَوارحِهِ؛ فإنَّ أعمالَ جَوارحِهِ لا تَستقيمُ إلَّا باستقامةِ القلْبِ، ومَعْنى استقامةِ القلْبِ: أنْ يكونَ مُمْتلِئًا بمَعرفةِ اللهِ ومَحبَّتِهِ، ومَحبَّةِ طاعتِهِ، وكراهةِ مَعصيَتِهِ، وعَظَمتِهِ، وخَشيَتِهِ، ومَهابَتِهِ، ورَجائِهِ، والتَّوكُّلِ عليهِ، وهذا هوَ حَقيقةُ التَّوحيدِ، «ولا يَستقيمُ قلْبُه حتّى يَستقيمَ لِسانُه»؛ فاللِّسانُ والقلْبُ مُرتبطانِ، واللِّسانُ تَرْجُمانٌ لِما في القلْبِ، وهو الَّذي يُعبِّرُ عمّا يَعقِدُ عليه مِن الإيمانِ أو الكُفرِ، فيَجُرُّ صاحِبَه إمَّا إلى جنَّةٍ، وإمَّا إلى نارٍ.
وفي الحديثِ أنَّ معاذًا سألَ النَّبِيَّ  عَنِ الْعَمَلِ الَّذِي يُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ وَيُبَاعِدُهُ مِنَ النَّارِ، فَأَخْبَرَهُ النَّبِيُّ  بِرَأْسِهِ وَعَمُودِهِ وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ، ثُمَّ قَالَ: «أَلَا أُخْبِرُكَ بِمِلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟» قَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَخَذَ بِلِسَانِ نَفْسِهِ ثُمَّ قَالَ: «كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا»، فَقَالَ: وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ: «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى وُجُوهِهِمْ -أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ- إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟».
قالَ ابنُ رجبَ : "هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَفَّ اللِّسَانِ وَضَبْطَهُ وَحَبْسَهُ هُوَ أَصْلُ الْخَيْرِ كُلِّهِ، وَأَنَّ مَنْ مَلَكَ لِسَانَهُ، فَقَدْ مَلَكَ أَمْرَهُ وَأَحْكَمَهُ وَضَبَطَهُ.
وَالْمُرَادُ بِحَصَائِدِ الْأَلْسِنَةِ: جَزَاءُ الْكَلَامِ الْمُحَرَّمِ وَعُقُوبَاتُهُ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَزْرَعُ بِقَوْلِهِ وَعَمَلِهِ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، ثُمَّ يَحْصُدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا زَرَعَ، فَمَنْ زَرَعَ خَيْرًا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، حَصَدَ الْكَرَامَةَ، وَمَنْ زَرَعَ شَرًّا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، حَصَدَ غَدًا النَّدَامَةَ.
وَظَاهِرُ حَدِيثِ مُعَاذٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَكْثَرَ مَا يَدْخُلُ بِهِ النَّاسُ النَّارَ النُّطْقُ بِأَلْسِنَتِهِمْ، فَإِنَّ مَعْصِيَةَ النُّطْقِ يَدْخُلُ فِيهَا الشِّرْكُ وَهِيَ أَعْظَمُ الذُّنُوبِ عِنْدَ اللَّهِ ، وَيَدْخُلُ فِيهَا الْقَوْلُ عَلَى اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَهُوَ قَرِينُ الشِّرْكِ، وَيَدْخُلُ فِيهَا شَهَادَةُ الزُّورِ الَّتِي عَدَلَتِ الْإِشْرَاكَ بِاللَّهِ U، وَيَدْخُلُ فِيهَا السِّحْرُ وَالْقَذْفُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ؛ كَالْكَذِبِ وَالْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ، وَسَائِرِ الْمَعَاصِي الْفِعْلِيَّةِ لَا يَخْلُو غَالِبًا مِنْ قَوْلٍ يَقْتَرِنُ بِهَا يَكُونُ مُعِينًا عَلَيْهَا".
قالَ ابنُ القيِّمِ : وَفِي اللِّسَانِ آفَتَانِ عَظِيمَتَانِ، إِنْ خَلَصَ الْعَبْدُ مِنْ إِحْدَاهُمَا لَمْ يَخْلُصْ مِنَ الْأُخْرَى: آفَةُ الْكَلَامِ، وَآفَةُ السُّكُوتِ، وَقَدْ يَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمَا أَعْظَمَ إِثْمًا مِنَ الْأُخْرَى فِي وَقْتِهَا، فَالسَّاكِتُ عَنِ الْحَقِّ شَيْطَانٌ أَخْرَسُ، عَاصٍ لِلَّهِ، مُرَاءٍ مُدَاهِنٌ إِذَا لَمْ يَخَفْ عَلَى نَفْسِهِ، وَالْمُتَكَلِّمُ بِالْبَاطِلِ شَيْطَانٌ نَاطِقٌ، عَاصٍ لِلَّهِ، وَأَكْثَرُ الْخَلْقِ مُنْحَرِفٌ فِي كَلَامِهِ وَسُكُوتِهِ فَهُمْ بَيْنَ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ، وَأَهْلُ الْوَسَطِ -وَهُمْ أَهْلُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ- كَفُّوا أَلْسِنَتَهُمْ عَنِ الْبَاطِلِ، وَأَطْلَقُوهَا فِيمَا يَعُودُ عَلَيْهِمْ نَفْعُهُ فِي الْآخِرَةِ، فَلَا تَرَى أَحَدَهُمْ يَتَكَلَّمُ بِكَلِمَةٍ تَذْهَبُ عَلَيْهِ ضَائِعَةً بِلَا مَنْفَعَةٍ، فَضْلًا أَنَ تَضُرَّهُ فِي آخِرَتِهِ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ الْجِبَالِ، فَيَجِدُ لِسَانَهُ قَدْ هَدَمَهَا عَلَيْهِ كُلَّهَا، وَيَأْتِي بِسَيِّئَاتٍ أَمْثَالِ الْجِبَالِ فَيَجِدُ لِسَانَهُ قَدْ هَدَمَهَا مِنْ كَثْرَةِ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَا اتَّصَلَ بِهِ. أهـ
قالَ : «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ»., "فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ": أُمِرَ بِقَوْلِ الْخَيْرِ، وَبِالصَّمْتِ عَمَّا عَدَاهُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ كَلَامٌ يَسْتَوِي قَوْلُهُ وَالصَّمْتُ عَنْهُ، بَلْ إِمَّا أَنْ يَكُونَ خَيْرًا، فَيَكُونُ مَأْمُورًا بِقَوْلِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ غَيْرَ خَيْرٍ، فَيَكُونُ مَأْمُورًا بِالصَّمْتِ عَنْهُ.
واللهُ  يقولُ: (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا).
وكانَ مِنْ دُعائِهِ : "وسَدِّدْ لِسانِي"، أي: صَوِّبْ لِسانِي؛ حتَّى لا يَنطِقَ إلَّا بالحقِّ، ولا يَقولَ إلَّا الصِّدْقَ. وفِي حِكْمَةِ لُقْمَانَ أَنَّهُ قَالَ لِابْنِهِ: "يَا بُنَيَّ الْعِلْمُ حَسَنٌ وَهُوَ مَعَ الْحِلْمِ أَحْسَنُ، وَالصَّمْتُ حَسَنٌ وَهُوَ مَعَ الْحِكْمَةِ أَحْسَنُ، يَا بُنَيَّ، إِنَّ اللِّسَانَ هُوَ نَابُ الْجَسَدِ فَاحْذَرْ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ لِسَانِكَ مَا يُهْلِكُ جَسَدَكَ أَوْ يُسْخِطُ عَلَيْكَ رَبَّكَ".
أَقْلِلْ كلامكَ واستَعِذْ مِنْ شرِّهِ *** إنَّ البلاءَ ببعضِهِ مقرونُ
واحفَظْ لسانَكَ واحتَفِظْ مِنْ غَيِّهِ *** حتى يكونَ كأنَّهُ مسجونُ
وَكِلْ فؤادَكَ باللِّسانِ وقُلْ لَهُ *** إنَّ الكلامَ عليكُما موزونُ
فَزِنَاهُ وَلْيَكُ مُحْكَمًا ذا قِلَّةٍ *** إنَّ البلاغةَ في القليلِ تكونُ
أَمَّا بَعْدُ: معاشِرَ المُؤمنينَ: فبكلمةٍ تُشْعَلُ نارُ الفتنِ والحُروبِ!
وبكلمةٍ خُرِّبَتِ البُيوتُ، وتألَّمَتِ القُلوبُ، وبَكَتِ العُيونُ!
وبكلمةٍ فُرِّقَ بينَ زوجينِ، وبكلمةٍ فُرِّقَ بينَ الأخِ وأخيهِ، وبينَ الوالدِ وولدِهِ، وبينَ الولدِ ووالدِهِ! كلُّ ذلِكَ بسببِ كلمةٍ أَيُّها الكِرامُ.
فالكلمةُ سلاحٌ خطيرٌ، وهيَ سِلاحٌ ذُو حدَّينِ، إِمَّا أنْ يؤدِّيَ إلى البِناءِ والإِعمارِ، وإِمَّا أنْ يؤدِّيَ إلى الهدْمِ والخرابِ؛ ذلكَ لأنَّ الكلمةَ هيَ التي تُشَكِّلُ التَّصُوُّرَ، وتُوَجِّهُ الفِكْرَ، وتُحَرِّكُ الوُجدانَ، ومِنْ ثَمَّ تُحَدِّدُ الموْقِفَ وتدفَعُ إلى السُّلوكِ، فإنْ كانَتِ الكلمةُ صادقةً أمينةً صالحةً أدَّت إلى الخيرِ والبناءِ، وإنْ كانتْ كاذبةً باطلةً فاسدةً قادَتْ إلى الشرِّ والدَّمارِ. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا), فالْقَوْلُ يَكُونُ بَابًا عَظِيمًا مِنْ أَبْوَابِ الْخَيْرِ وَيَكُونُ كَذَلِكَ مِنْ أَبْوَابِ الشَّرِّ.
سُئِلَ رَسُولَ اللَّهِ : أَيُّ الإِسْلاَمِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ، وَيَدِهِ». وقالَ : «مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الجَنَّةَ». فدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ أَعْظَمَ الْبَلَاءِ عَلَى الْمَرْءِ فِي الدُّنْيَا لِسَانُهُ وَفَرْجُهُ، فَمَنْ وُقِيَ شَرَّهُمَا وُقِيَ أَعْظَمَ الشَّرِّ.
قالَ ابنُ القيِّمِ : وَمِنَ الْعَجَبِ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَهُونُ عَلَيْهِ التَّحَفُّظُ وَالِاحْتِرَازُ مِنْ أَكْلِ الْحَرَامِ وَالظُّلْمِ وَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَمِنَ النَّظَرِ الْمُحَرَّمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَيَصْعُبُ عَلَيْهِ التَّحَفُّظُ مِنْ حَرَكَةِ لِسَانِهِ، حَتَّى تَرَى الرَّجُلَ يُشَارُ إِلَيْهِ بِالدِّينِ وَالزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ، وَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَاتِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَنْزِلُ بِالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ مِنْهَا أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَكَمْ تَرَى مِنْ رَجُلٍ مُتَوَرِّعٍ عَنِ الْفَوَاحِشِ وَالظُّلْمِ، وَلِسَانُهُ يَفْرِي فِي أَعْرَاضِ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ، وَلَا يُبَالِي مَا يَقُولُ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «قَالَ رَجُلٌ: وَاللَّهِ لَا يَغْفِرُ اللَّهُ لِفُلَانٍ، فَقَالَ اللَّهُ : مَنْ ذَا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلَيَّ أَنِّي لَا أَغْفِرُ لِفُلَانٍ؟ قَدْ غَفَرْتُ لَهُ وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ». فَهَذَا الْعَابِدُ الَّذِي قَدْ عَبَدَ اللَّهَ مَا شَاءَ أَنْ يَعْبُدَهُ، أَحْبَطَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ الْوَاحِدَةُ عَمَلَهُ كُلَّهُ.قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَوْبَقَتْ دُنْيَاهُ وَآخِرَتَهُ.
وقالَ : «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا؛ يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا؛ يَهْوِي بِهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ». 
قَالَ الْمُهَلَّبُ لِبَنِيهِ: «اتَّقُوا زَلَّةَ اللِّسَانِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ تَزِلُّ قَدَمُهُ فَيَنْتَعِشُ، وَيَزِلُّ لِسَانُهُ فَيَهْلِكُ». فأَيْسَرُ حَرَكَاتِ الْجَوَارِحِ حَرَكَةُ اللِّسَانِ وَهِيَ أَضَرُّهَا عَلَى الْعَبْدِ.
قالَ الله تعالى: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ), قَالَ قَتَادَةُ: ابْنَ آدَمَ، وَاللَّهِ إِنَّ عَلَيْكَ لَشُهودًا غيرَ مُتَّهَمَةٍ مِنْ بَدَنِكَ، فَرَاقِبْهُمْ وَاتَّقِ اللَّهَ فِي سِرِّكَ وَعَلَانِيَتِكَ، فَإِنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، وَالظُّلْمَةُ عِنْدَهُ ضَوْءٌ وَالسِّرُّ عِنْدَهُ عَلَانِيَةٌ.
المشاهدات 733 | التعليقات 0