اللذة المفقودة

أحمد عبدالعزيز الشاوي
1446/07/08 - 2025/01/08 21:57PM

الحمد لله الذي حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، المؤمل لكشف كروبنا، ومغفرة ذنوبنا، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله من وقر الإيمان في قلبه، وغفر له ما تقد وما تأخر من ذنبه، أما بعد:

فيا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون.

قفوا قليلا مع هذه الصور

يؤذن المؤذن للصلاة فنجد في أنفسنا تثاقلاً وبعد جهاد ومجاهدة نقوم إلى الصلاة وندخل المسجد وكأننا طير في قفص ونؤدي الصلاة بأجسادٍ بلا روح، وحركات مجردة من الخشوع، وأحدنا لا يبالي أن يتحدث مع زميله واقفاً ربما لساعة أو أكثر ويا ويل الإمام والخطيب إن طال ولو قليلاً فإنه حينئذ في نظرهم من المنفرين، تلك صورة.

نقرأ كتاب الله فلا تحدث قراءته في القلب لنا خشوعاً ولا تجري من أعيننا دموعاً لأنها تلاوة مجردة من التدبر والتفكر، وتلك أيضاً صورة.

 

نُدعى إلى الصدقات والنفقات فمنا من يبخل ويعد الزكاة مغرما ويبحث عن مبررات للتنصل من دفع الزكاة وبذل الصدقات

نصوم رمضان شهراً كاملاً، شهرا حافلا بأنواع العبادات كفيلة بتغيير مجرى القلوب لو كانت حية ومع ذلك ينتهي الشهر كما بدأ بدون أن يُحدث في إيماننا أثراً أو يورث عندنا تقوى.

إذا كانت المجالس عامرة بالغيبة، واللغو، والرفث، طاب بها المقام وصعب منها القيام، ولو كان مجلس ذكر وتعظيم للملك العلام لرأيت التثاؤب وقلة الراغب، ولرأيت من يردد: ساعة ، وإن الله لا يمل حتى تملوا.

لا بأس عندنا في الجلوس أمام الشاشات ومتابعة المباريات ولو كان الوقت ساعات فإذا نادى منادي الرحمن إلى الصلاة اشمأزت القلوب وثقلت النفوس واشتدت الكروب.

تلكم أيها المسلمون بعض صور لداء خطير ووباء وبيل هو فقد لذة العبادة وحلاوة الطاعة وطعم الإيمان وتلك والله مصيبة، وأي مصيبة أعظم من أن نأنس بالشهوات وتثقل علينا العبادات

نحن أيها المسلمون والله محرمون يوم أن نفقد روح العبادة وسبب السعادة، لماذا في صلاتنا لا نشعر بالراحة التي وجدها ﷺ حينما جعلها قرة عين، وراحة بال، فيقول لبلال: «أرحنا بالصلاة»، ويقول: «جعلت قرة عيني في الصلاة» لماذا لا نشتاق إلى الصلاة وتصبح القلوب معلقة بالمساجد كما كان قائل السلف يقول: «ما صليت صلاة إلا واشتقت إلى ما بعدها»، وحتى كان أحدهم يأتي إليها يهادى بين رجلين، لماذا لا نشعر بالجنة وندخل البستان الذي دخله شيخ الإسلام ابن تيمية حين قال: «أنا جنتي وبستاني في صدري» وقال: «إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة».

لماذا لانشعر بلذة الإنفاق وحلاوة البذل والعطاء كما كان سفيان الثوري إذا رأى سائلا عند بابه قال : مرحبا بمن جاء يغسل ذنوبي ، وكما قال الفضيل : نعم السائلون يحملون أزوادنا إلى الآخرة حتى يضعوها في الميزان

أين الشعور بلذة العبادة التي وجدها السلف يوم أن قال قائلهم: «إنه لتمر بالقلب أوقات أقول فيها إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب»، ويقول الآخر: «مساكين أهل الدنيا خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها، قالوا: وما أطيب ما فيها؟ قال: محبة الله والأنس به والشوق إلى لقائه والإقبال عليه والإعراض عما سواه».

لماذا لا نشعر بنعيم الطاعة الذي شعر به أسلافنا يوم أن قال أحدهم: «لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من النعيم لجالدونا عليه بالسيوف»؟

لماذا عدمنا صور التنافس في الخيرات والتسابق إلى الطاعات حتى عند الصالحين فأصبحت لا تستغرب أن ترى متدينا يأتي إلى الصلاة عند الإقامة، وربما فاته شيء منها، وحتى في يوم الجمعة قل من يقرب دجاجة، بل بيضة فضلاً عن أن يقرب كبشاً أو بقرة أو بدنة. وحتى لترى من يؤمون المساجد التي تقدم عروضا في هذّ الخطبة والصلاة .. لايحفظون من النصوص إلا حديث ( قصر الخطبة وطول الصلاة مئنة من فقه الإمام

نعم، لم يعد للعبادات عندنا طعم ولا لذة، وإنما أصبحت مجرد حركات تؤدى لأنه لم يصاحبها استشعار لعظمة الله والتذلل له والاستسلام له والاستشعار للثواب والعقاب.

لقد فقدنا لذة العبادة لأننا تساهلنا بالذنوب، وخاصة الصغائر والاستهانة بالذنوب والتساهل مع النفس في مواقعتها يؤدي إلى إدمانها وهذا بدوره يؤدي إلى قسوة القلب وانتكاسته وتقاعسه عن الطاعات وميله إلى الشهوات وبالتالي يفقد لذة الطاعة وحلاوتها والشوق إليها قال تعالى: [وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ]

وأي مصيبة أعظم من فقد حلاوة الطاعة ولذة الإيمان؟ سئل وهيب بن الورد: «متى يفقد العبد لذة العبادة إذا وقع في المعصية أو إذا فرغ منها؟ فقال: يفقد لذة العبادة إذا همَّ بالمعصية».

وفقدنا لذة العبادة يوم أن غفلنا عن ذكر الله ومجالسه  فأصبحت مجالسنا الاستراحات وكثبان الرمال بدلاً من حلق الوعظ ومجالس الذكر ، والذكر فيه حياة للقلوب كما تحيا البلاد إذا ما مسها المطر ويوم أن غفلنا عن الذكر قست قلوبنا وفقدنا لذة العبادة ودب إلى بعضنا التقاعس والقعود وحب الدعة والركود.

وفقدنا لذة العبادة، حينما أغرقنا في المباحات، والإكثار منها قسوة للقلب وإضاعة للوقت وصدق من قال: «لا تأكلوا كثيراً فتشربوا كثيراً فترقدوا كثيراً فتخسروا عند الموت كثيراً»، فبقدر الإفراط في المباحات يكون التفريط في الواجبات والمسؤوليات،

وفقدنا لذة العبادة يوم أن فسد محل الإيمان وهو القلب بدسيسة باطنة وآفة كامنة فيه تتربص ساعة غفلة فتتحرك لتهوي بصاحبها، ولهذا قال ﷺ: «إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار».

لقد فقدنا لذة العبادة يوم أن مرضت القلوب بأدواء الرياء والعجب والغرور والحسد والإعجاب بالرأي.

والقلب مضغة في الجسد إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله. فأصلحوا قلوبكم لتنعموا بلذة العبادة وحلاوة الطاعة وطعم الإيمان

وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد ﷺ، أمَّا بعد:

لم نعد نشعر بلذة العبادة لأننا صاحبنا أهل الأهواء، وأصحاب اللغو وأرباب البطالة دون أن ننكر عليهم، بل أنسنا بمجالسهم وألفنا أحاديثهم وكثرة الإمساس تقلل الإحساس.

لقد فقدنا لذة العبادة حينما فقدنا الإخلاص، والإخلاص هو لب الأعمال وروحها.

وحينما لم نعد نستشعر عواقب الطاعات وآثارها الحميدة في الدنيا والآخرة، فقدنا الشعور بلذة الطاعة ، وصدق ابن الجوزي حين قال: «من لمح فجر الأجر هان عليه ظلام التكليف».

فقدنا لذة العبادة حينما نسينا الموت وسكراته والقبر وظلماته ويوم القيامة وروعاته ولم نحلق في عالم الآخرة حيث النهاية المحتومة إما إلى جنة عالية وإما إلى نار حامية

إن الذين حصلوا حلاوة النعيم الإيماني شغلهم هذا النعيم عن الأهل والأوطان والأموال بل تراهم يبذلون أنفسهم وأموالهم وأولادهم في سبيل من أحبته قلوبهم، وترى الواحد منهم يُغرس الرمح في صدره وهو يقول: «فزت ورب الكعبة»! ويستطيل الآخر حياته فيلقي قُوتُه من يده ويهرول إلى العدو منشداً مستعجلاً الوصول إلى الجنة:

ركـضًـا إلـى الله بغيـر زاد        إلا التـقـى وعـمـل المــعاد

والصبر في الله على الجهاد

وبعد هذا يامسلمون : هل أدركنا السر في أننا ندعو فلا نجاب، ونستغيث فلا نغاث، ونستنصر فلا ننصر، وهل عرفنا سبب قسوة قلوبنا، وضعف إقبالنا على الله؟!

إذا أدركنا حالنا مع العبادات وأيقنا بفقدنا لذة الطاعات وعلمنا أسباب هذا الداء فلنبحث عن الدواء الذي نصل به إلى حلاوة الإيمان، وننال به لذة العبادة ونشعر معه بالشوق إلى العبادات والحنين إلى الطاعات، وما من داء إلا وله دواء.. [وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ]

اللهم أذقنا حلاوة طاعتك، ولذة عبادتك، وبرد عفوك ومغفرتك.

صلوا وسلموا على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين...

المرفقات

1736362634_اللذة المفقودة.doc

المشاهدات 1424 | التعليقات 0