الكذب - خطبة
وائل عبدالله باجروان
الكذب
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله
)يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين(
عبادَ الله، إن من مكارمِ الأخلاقِ التي جاءتِ الشريعة بإكمالها مكرُمةَ الصدقِ، حيثُ كانتِ العربُ في جاهليتها تتفاخرُ بالصدقِ وتُعَظّم الصادقين، وتنفِر من الكَذِب وتهجو الكاذبين.
كما كانوا يعظمون الصدقَ والصادقينَ حتى لقبوا نبينا r قبلَ بعثته بالصادقِ الأمينِ، وصدقُوا فهو عليه الصلاة والسلام حاملُ لواءِ الصدقِ في الجاهليةِ والإسلامِ، وما زادَه الإسلامُ إلا تمسكًا بالصدقِ وعملاً به ودعوةً إليه وصبرًا على الأذى فيه، تقول عائشة رضي الله عنها: ما كان خلقٌ أبغضَ إلى رسول الله r من الكذب، ولقد كان الرجلُ يحدِّث عندَ النبي r بالكِذْبةِ فما يزالُ في نفسِه حتى يعلمَ أنه قد أحدثَ منها توبة. وقال عليه الصلاة والسلام: ((عليكم بالصدقِ، فإن الصدقَ يهدي إلى البرِ، وإنَّ البرَ يهدي إلى الجنةِ، وما يزالُ الرجلُ يصدُقُ ويتحرَّى الصدقَ حتى يكتبَ عندَ اللهِ صِدِّيقًا، وإياكم والكذبَ، فإنَّ الكذبَّ يهدي إلى الفجورِ، وإنَّ الفجورَ يهدي إلى النارِ، وما يزالُ الرجلُ يكذِب ويتحرَّى الكذبَ حتى يكتبَ عندَ الله كذابًا)).
وإن الإنسان العاقل ليغضب أن يقال له بين الناس: يا كاذب، فكيف يرضى أن يكتب عند الله كذابا؟! قال الأحنفُ بنُ قيسٍ رحمه الله: "اثنان لا يجتمعان أبدًا: الكذبُ والمروءةُ".
عبادَ الله، لقد جاء عن النبي r أحاديثُ كثيرةٌ تحذرُ من هذا الخلقِ الرديءِ، وتُبينُ أنَّه من كبائرِ الذنوبِ، وتُبَيِّنُ خطرَه وضررَه ومصيرَ صاحبِه وعقوبتَه في الدنيا والآخرةِ، قال عليه الصلاة والسلام: ((أربعٌ من كُنَّ فيه كانَ مُنَافِقًا خالصا، ومن كانت فيه خَصلةٌ منهن كانت فيه خَصلةٌ من النفاقِ حتى يَدَعَها: إذا ائتمن خان، وإذا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذا عَاهَد غَدَر، وإذا خَاصَم فَجَر)) رواه البخاري ومسلم.
ومن أشد الكذبِ وأشنعه الكذبُ على رسولِ الله r، فهو من الذنوبِ الموجبةِ لدخولِ النارِ، أجارنا اللهُ من النار، وهو أعظم الكذب، وصاحبه معرّض للوعيد الشديد، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى تكفير فاعله.
قال تعالى: )وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ ٱلْكَذِبَ هَـٰذَا حَلَـٰلٌ وَهَـٰذَا حَرَامٌ لّتَفْتَرُواْ عَلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ( [النحل:116].
وعن علي رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تكذبوا عليّ ؛ فإنه من كذب علي فليلج النار)) رواه البخاري.
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من كذب عليّ فليتبوأ مقعده من النار)) رواه البخاري ومسلم.
والكذبُ ـ عبادَ الله ـ له صورٌ متفرقةٌ وأوديةٌ متشعِبة، يجمعها وصفٌ واحدٌ هو: الإخبارُ بخلافِ الحقيقةِ عَمْدًا.
كالكذب في البيع والشراء وما أكثره في زماننا إلا من رحم الله فينبغي التنبه له.
عن أبي ذر عن النبي r قال: ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم، قال: فقرأها رسول الله r ثلاث مرار، قال أبو ذر: خابوا وخسروا من هم يا رسول الله ؟ قال: المسبل، والمنّان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب)) رواه مسلم.
وعن حكيم بن حزام t قال: قال رسول الله r: ((البيّعان بالخيار ما لم يتفرقا)) أو قال: ((حتى يتفرقا - فإن صدقا وبيّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما)) رواه البخاري ومسلم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والله تعالى قد أمر بالصدق والبيان، ونهى عن الكذب والكتمان فيما يحتاج إلى معرفته وإظهاره، كما قال النبي r في الحديث المتفق عليه: ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبيّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما))، وقال تعالى: )يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَاء بِٱلْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ ٱعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ( [المائدة:8].
ومن الكذب الكذب في الرؤيا والحلم، وهو ما يدّعيه بعضهم أنه رأى في منامه كذا وهم غير صادق، ثم يصبح يقص على الناس ما لم ير.
عن ابن عباس عن النبي r قال: ((من تحلّم بحلم لم يره كلّف أن يعقد بين شعيرتين ولن يفعل، ومن استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون - أو يفرون منه - صب في أذنه الآنك يوم القيامة، ومن صوّر صورة عذب وكلف أن ينفخ فيها وليس بنافخ)) رواه البخاري.
قال المناوي: وإنما شدد الوعيد على ذلك - مع أن الكذب في اليقظة قد يكون أشد مفسدة منه إذ يكون شهادة في قتل أو حدٍّ؛ - لأن الكذب في النوم كذب على الله تعالى؛ لأن الرؤيا جزء من النبوة، وما كان من أجزائها فهو منه تعالى والكذب على الخالق أقبح منه على المخلوق.
ومن الكذب تحريم التحدث بكل ما يسمع:
عن حفص بن عاصم قال: قال رسول الله r: ((كفى بالمرء كذباً أن يحدّث بكل ما سمع)) رواه مسلم.
قال النووي: وأما معنى الحديث والآثار التي في الباب: ففيها الزجر عن التحدث بكل ما سمع الإنسان؛ فانه يسمع في العادة الصدق والكذب، فإذا حدّث بكل ما سمع فقد كذب؛ لإخباره بما لم يكن، وقد تقدم أن مذهب أهل الحق: أن الكذب: الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه، ولا يشترط فيه التعمد، لكن التعمد شرط في كونه إثما والله أعلم.
ومن الكذب الكذب في المزاح: والكذب حرام مازحاً كان صاحبه أو جادّاً، كالكذب في غيره. عن ابن عمر قال: قال r: ((إني لأمزح ولا أقول إلا حقّاً)) صححه الشيخ الألباني.
وعن أبي هريرة قال: قالوا: يا رسول الله إنك تداعبنا، قال: ((إني لا أقول إلا حقا)) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
عن عبد الله بن السائب بن يزيد عن أبيه عن جده أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يأخذن أحدكم متاع أخيه لاعباً ولا جادّاً، ومن أخذ عصا أخيه فليردها)) رواه أبو داود وصححه الألباني.
ومن الكذب الكذب في ملاعبة الصبيان: وينبغي الحذر من الكذب في ملاعبة الصبيان فإنه يكتب على صاحبه، وقد حذر منه رسول الله r فقد روي عن عبد الله بن عامر t قال: دعتني أمي يوماً ورسول الله r قاعد في بيتنا فقالت: ها تعال أعطيك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وما أردت أن تعطيه؟)) قالت: أعطيه تمراً، فقال لها رسول الله r: ((أما إنك لو لم تعطيه شيئا كتبت عليك كذبة))، وعن أبي هريرة t قال: قال رسول الله r: ((من قال لصبي تعال هاك ثم لم يعطه فهي كذبة)) رواه أبو داود وحسنه الألباني.
ومن الكذب الكذب للإضحاك: عن معاوية بن حيدة قال: سمعت النبي r يقول: ((ويل للذي يحدث بالحديث ليضحك به القوم فيكذب، ويل له، ويل له)) رواه الترمذي وقال حديث حسن.
واعلموا ـ عبادَ الله ـ أنه لا يوجدُ كَذِبٌ أبيضٌ ولا أسود، ولا يَحِل شيءٌ من الكذبِ إلا في أحوالٍ ثلاثٍ: في الحرب، وللإصلاح بين المتخاصمين، وكذب الزوج على زوجته والعكس لأجل المودة وعدم الشقاق.
عن أم كلثوم بنت عقبة أنها سمعت رسول الله r يقول: ((ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيراً أو يقول خيراً)) رواه البخاري ومسلم.
وعن أسماء بنت يزيد قالت: قال رسول الله r: ((لا يحل الكذب إلا في ثلاث: يحدث الرجل امرأته ليرضيها، والكذب في الحرب، والكذب ليصلح بين الناس)) رواه الترمذي وحسنه الألباني.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، فيا فوز المستغفرين.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه. وبعد..
أيها الإخوة المؤمنون،،،
من عقوبات الكذب ما رواه سمرة بن جندبٍ رضي اللّه عنه قال كان رسول الله r ممّا يكثر أن يقول لأصحابه: ((هل رأى أحدٌ منكم من رؤيا؟)) قال فيقصّ عليه من شاء اللّه أن يقصّ، وإنّه قال ذات غداةٍ: ((إنّه أتاني اللّيلة آتيان، وإنّهما ابتعثاني وإنّهما قالا لي انطلق.. فانطلقنا فأتينا على رجلٍ مستلقٍ لقفاه وإذا آخر قائمٌ عليه بكلّوبٍ من حديدٍ وإذا هو يأتي أحد شقّي وجهه فيشرشر شدقه إلى قفاه ومنخره إلى قفاه وعينه إلى قفاه)) قال: وربّما قال أبو رجاءٍ ((فيشقّ قال ثمّ يتحوّل إلى الجانب الآخر، فيفعل به مثل ما فعل بالجانب الأوّل فما يفرغ من ذلك الجانب حتّى يصحّ ذلك الجانب كما كان ثمّ يعود عليه فيفعل مثل ما فعل المرّة الأولى، قال: قلت: سبحان اللّه ما هذان؟ قال قالا لي: انطلق انطلق)).
(ثم قال في تفسير الملكين للمشاهد التي رآها): ((وأمّا الرّجل الّذي أتيت عليه يشرشر شدقه إلى قفاه ومنخره إلى قفاه وعينه إلى قفاه فإنّه الرّجل يغدو من بيته، فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق)) رواه البخاري.
فاتقوا الله يا عبادَ الله، ولا يَغُرَّنَكُم باللهِ الغَرور، ولا يَفتِنكُم كثرةُ الهالكين، وكونوا مع الصادقينَ، واسمعوا إلى ما أعدَّه الله عزَّ وجل لمن تركَ الكذبَ، قال r: ((أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا، وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ)). رواه أبو داود وحسنه الألباني.
ويقولُ النبيُّ r داعيًا إلى الصدق: عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الصدق بر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن العبد ليتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صدّيقا، وإن الكذب فجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن العبد ليتحرى الكذب حتى يكتب كذاباً)) رواه البخاري ومسلم.
قال الصنعاني: وفي الحديث إشارة إلى أن من تحرى الصدق في أقواله صار له سجية ومن تعمد الكذب وتحراه صار له سجية، وأنه بالتدرب والاكتساب تستمر صفات الخير والشر.
والحديث دليل على عظمة شأن الصدق وأنه ينتهي بصاحبه إلى الجنة، ودليل على عظمة قبح الكذب وأنه ينتهي بصاحبه إلى النار، وذلك من غير ما لصاحبهما في الدنيا؛ فإن الصدوق مقبول الحديث عند الناس، مقبول الشهادة عند الحكام محبوب مرغوب في أحاديثه والكذوب بخلاف هذا كله.
عبادَ الله، وصلوا وسلموا عن من أمرتم بالصلاة والسلام، حيث قال سبحانه وتعالى: )إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا(.
عباد الله،،، إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
المرفقات
خطبة-2
خطبة-2