القول المبين في ذم التسول والمتسولين

عبد الله بن علي الطريف
1446/08/12 - 2025/02/11 08:59AM

القول المبين في ذم التسول والمتسولين  1446/8/8هـ

ما بعد أيها الإخوة: اتقوا الله حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى.. وعلموا أن ديننا حَرَّم سؤالَ الناس، وعَدَّ التسولَ من قبيح الفعال وذميم الخصال، وذكر ابن القيم رحمه الله فيه كلامًا قيمًا فقال: " إنَّ الطلب من الخلق في الأصل محظور، وغايته أن يُباح للضرورة كإباحة الميتة للمضطرِّ، ونصَّ الإمامُ أحمد رَحِمَهُ اللهُ على أنَّه لا يجب، وكذلك كان شيخنا [ابن تيمية] يشير إليه؛ أنَّه لا يجب الطلب والسُّؤال.

وسمعته يقول في السُّؤال: "ظلمٌ في حقِّ الربوبيَّة، وظلمٌ في حقِّ الخلق، وظلمٌ في حقِّ النفس.

أمَّا في حقِّ الربوبية: فلِما فيه من الذُّلِّ لغير الله، وإراقة ماء الوجه لغير خالقِه، والتعوُّض عن سؤاله بسؤال المخلوقين.

وأمَّا في حقِّ الناس: فبمنازعتهم ما في أيديهم بالسُّؤال واستخراجه منهم، وأبغضُ ما إليهم من يسألهم، وأحبُّ ما إليهم من لا يسألهم، فإنَّ أموالهم محبوباتهم، ومن سألك محبوبك تعرَّض لمقتك وبغضك.

وأمَّا في ظلم السَّائل لنفسه: حيث امتهنها وأقامها في مقامِ ذُلِّ السُّؤالِ، ورضي لها بذلِّ الطّلب وأهانها بذلك، ورضي أن يكون شحَّاذًا من شحَّاذٍ مثلُه، فإنَّ من تشْحَذُه فهو أيضًا شحَّاذٌ مثلك، واللهُ وحده هو الغنيُّ، فسؤال المخلوق للمخلوق سؤال الفقيرِ للفقيرِ".

والربُّ تعالى كلَّما سألته كَرُمتَ عليه ورضي عنك وأحبَّك، والمخلوقُ كلَّما سألته هنت عليه وأبغضك وقلاك، كما قيل:

الله يغضبُ إنْ تركتَ سؤالَه … وبُنيُّ آدمَ حين يُسألُ يغضبُ

وقبيحٌ بالعبد أن يتعرَّض لسؤال العبيد، وهو يجد عند مولاه كلَّ ما يريد.. وفي صحيح مسلم عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:  كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ تِسْعَةً، أَوْ ثَمَانِيَةً، أَوْ سَبْعَةً، فَقَالَ: «‌أَلَا ‌تُبَايِعُونَ ‌رَسُولَ ‌اللهِ»، وَكُنَّا حَدِيثَ عَهْدٍ بِبَيْعَةٍ، فَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ، ثُمَّ، قَالَ: ‌«أَلَا ‌تُبَايِعُونَ ‌رَسُولَ ‌اللهِ» فَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ، ثُمَّ قَالَ: «‌أَلَا ‌تُبَايِعُونَ ‌رَسُولَ ‌اللهِ» قَالَ: فَبَسَطْنَا أَيْدِيَنَا، وَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ، فَعَلَامَ نُبَايِعُكَ؟ قَالَ: «عَلَى أَنْ تَعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَتُطِيعُوا، (وَأَسَرَّ كَلِمَةً خَفِيَّةً)، وَلَا تَسْأَلُوا النَّاسَ شَيْئًا» قال عوف: فَلَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ أُولَئِكَ النَّفَرِ يَسْقُطُ سَوْطُ أَحَدِهِمْ فَمَا يَسْأَلُ أَحَدًا يُنَاوِلُهُ إِيَّاهُ.. وعَنْه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَهُوَ يَذْكُرُ الصَّدَقَةَ وَالتَّعَفُّفَ عَنْ الْمَسْأَلَةِ: «الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى». وَالْيَدُ الْعُلْيَا الْمُنْفِقَةُ وَالسُّفْلَى السَّائِلَةُ. متفق عليه.. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ أَصَابَتْهُ ‌فَاقَةٌ، ‌فَأَنْزَلَهَا ‌بِالنَّاسِ، لَمْ تُسَدَّ فَاقَتُهُ، وَمَنْ أَنْزَلَهَا بِاللَّهِ، أَوْشَكَ اللَّهُ لَهُ بِرِزْقٍ عَاجِلٍ أَوْ آجِلٍ بِالْغِنَى» رواه الترمذي وقال: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ، وفي أبي داود: «إِمَّا بِمَوْتٍ عَاجِلٍ، أَوْ غِنًى عَاجِلٍ» وصحح هذا اللفظ الألباني.

عَنْ ثَوْبَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «‌مَنْ ‌يَكْفُلُ ‌لِي أَنْ لَا يَسْأَلَ النَّاسَ شَيْئًا، وَأَتَكَفَّلُ لَهُ بِالْجَنَّةِ؟»، فَقَالَ ثَوْبَانُ: "أَنَا، فَكَانَ لَا يَسْأَلُ أَحَدًا شَيْئًا" رواه أبو داود وأحمد وصححه الألباني. انتهى كلام ابن القيم.

أيها الإخوة: الأصل في التسول التحريم، والأحاديث كثيرة في النهي عنه وذمه، ومن أعظم أحاديث الترهيب من المسألة وآثارها في الدنيا والآخرة، قَولَ النَّبِيِّ ﷺ: «مَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَسْأَلُ النَّاسَ حَتَّى يَأْتِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ» أي: قطعة لحم. متفق عليه عَنْ عَبْد اللَّهِ بْن عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما.. وقولَه ﷺ: «مَنْ سَأَلَ النَّاسَ وَلَهُ مَا يُغْنِيهِ جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَمَسْأَلَتُهُ ‌فِي ‌وَجْهِهِ ‌خُمُوشٌ، أَوْ خُدُوشٌ، أَوْ كُدُوحٌ» رواه أبو داود والترمذي والنسائي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وصححه الألباني. الخُموش أثر الاعتداء بالأظفار والخدوش بغيرها والكدوح أثر العض، والمقصود من ذكرها التنوع، ولعل المراد بها علامات يُعرفَ ويُشْهَر بذلك بين أهل الموقف.. وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «‌إِنَّ ‌المَسْأَلَةَ ‌كَدٌّ ‌يَكُدُّ ‌بِهَا الرَّجُلُ وَجْهَهُ، [أي: ذُلٌّ يُذِلُ بها وجهَهَ، ويُرِيْقُ بها ماءه.] إِلَّا أَنْ يَسْأَلَ الرَّجُلُ سُلْطَانًا، أَوْ فِي أَمْرٍ لَا بُدَّ مِنْهُ» رواه الترمذي وقال حديث صحيح عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وصححه الألباني. وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «‌مَنْ ‌سَأَلَ ‌النَّاسَ أَمْوَالَهُمْ تَكَثُّرًا، فَإِنَّمَا يَسْأَلُ جَمْرًا فَلْيَسْتَقِلَّ، أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ». خرجاه في الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.  

أيها الإخوة: يكفي من حقارة التسول أنه دليل على ضعف النفس ودناءتها، وأنه يورث سفولًا وانحطاطًا في المجتمع، وينزع البركة من المال، وهو طريق إلى استباحة أموال الناس بغير حق، وهو مظهر من مظاهر تأخر الأمم والشعوب. وفي هذا الزمان دأب بعض من رضوا بذل السؤال اعتياد المساجد لاستعطاف الناس وسؤالهم، ولذلك عظمت الوزارة دور أئمة المساجد وحملتهم مسؤولية حماية بيوت الله من أن تستغل في وجوه الكسب المحرم وإيذاء المصلين وإشغالهم عن الصلاة والذكر والدعاء، وجعلت منع هؤلاء وتوجيههم إحدى مسؤولياتهم.

وقد حصر النبيُّ ﷺ من تحل لهم المسألة في ثلاثة أصناف، كما في حديث قَبِيصَةَ بْنِ مُخَارِقٍ الْهِلَالِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: تَحَمَّلْتُ حَمَالَةً [وهي المال الذي يستدينه الإنسان ويدفعه في إصلاح ذات البين كالإصلاح بين قبيلتين ونحو ذلك] فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ أَسْأَلُهُ فِيهَا، فَقَالَ: «أَقِمْ حَتَّى تَأْتِيَنَا الصَّدَقَةُ، فَنَأْمُرَ لَكَ بِهَا».. قَالَ: ثُمَّ قَالَ: «يَا قَبِيصَةُ، إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ إِلَّا لِأَحَدِ ثَلَاثَةٍ: رَجُلٌ تَحَمَّلَ حَمَالَةً، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَهَا، ثُمَّ يُمْسِكُ» أي: إلى أن يجد الحمالة ويؤدي ذلك الدين ثم يمسك نفسه عن السؤال.. قال: «وَرَجُلٌ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ» الجائحة: الآفة التي تهلك الثمار والأموال وتستأصِلُها، من حَرْقٍ أو غَرَقٍ ونحوه وكل مصيبة عظيمة، واجْتَاحَتْ أي أهلكت، قال: «فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ» أَوْ قَالَ: «سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ» قال العيني رحمه الله:" يجب على الناس أن يعطوه الصدقة من غير طلب بَيِنَةٍ منه على ثبوت فقره؛ لظهور حاله". ثم قال: «وَرَجُلٌ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ [أي: فقر وضرورة بعد غنى] حَتَّى يَقُومَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ: لَقَدْ أَصَابَتْ فُلَانًا فَاقَةٌ» والحجا العقل، وإنما قال ﷺ من قومه لأنهم هم أهل الخبرة بباطنه، والمال مما يخفى في العادة فلا يعلمه إلا من كان خبيرًا بصاحبه «فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ» أي: إلى أن يجد ما تقوم به حاجته من معيشة، أَوْ قَالَ: «سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ؛ فَمَا سِوَاهُنَّ مِنَ الْمَسْأَلَةِ يَا قَبِيصَةُ سُحْتٌ، يَأْكُلُهَا صَاحِبُهَا سُحْتاً» السحت: الحرام. رواه مسلم. أسأل الله تعالى أن يطهر قلوبنا من الذل والخضوع إلا له، وأن يرزقنا القناعة، ويعيذنا من ذل المسألة، إنه جواد كريم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

الخطبة الثانية:

أما بعد: أيها الإخوة: اتقوا الله حق التقوى واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، واعلموا أن الصدقة لا تحل لقوي مكتسب قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لَغَنِيٍّ، ‌وَلَا ‌لِذِي ‌مِرَّةٍ ‌سَوِيٍّ» رواه أحمد وصححه الأرناؤوط عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وأقسم النَّبِيُّ ﷺ وهو الصادق بلا قسم أن العمل مهما كان مردوده قليلٌ وشاقٌ فهو خيرٌ من سؤال الناس، وإذلال النفس لهم فَقَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ ‌حَبْلَهُ، ‌فَيَحْتَطِبَ ‌عَلَى ‌ظَهْرِهِ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ رَجُلًا فَيَسْأَلَهُ، أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ.» رواه البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وعد العمل خير مصدر يصرف منه الإنسان على نفسه ومن يعول لما فيه من عِفَّةٍ للنفس عن سؤال الناس، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ، ‌خَيْرًا ‌مِنْ ‌أَنْ ‌يَأْكُلَ ‌مِنْ ‌عَمَلِ ‌يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللهِ دَاوُدَ عليه السلام كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ.» رواه البخاري عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

أيها الإخوة: مع كثرة الناس، وقلة الوازع الإيماني عند بعضهم، وعدم المعرفة التامة بالمحتاجين للصدقة والمستحقين للزكاة، أصبح وجود جهات متخصصة تتولى جانب البحث والتحري عن المحتاجين أمرًا لا بد منه.

وقد تنبهت الدولة وفقها الله إلى ذلك فإعطاء الفرصة لأهل الخير لإنشاء جمعيات تتولى جمع الصدقات والزكوات وصرفها على المحتاجين بعد البحث والتحري عنهم بأدوات من البحث لا تتيسر لغيرهم، ومن حاول أن يحتال ونجح في حيلته فليبشر بشر، وفقر في النفس في الدنيا لا تَسُده أموال الدنيا، وبالعذاب الأليم يوم القيامة.

لذلك أحث جميع المسلمين لدعم هذه الجمعيات لأنها تسعى لوضع المساعدة في يد مستحقها بعد بحث وتحرٍّ.. وفي دفع الزكاة لها فكٍ لحرج الأغنياء من أذية المتسولين الذين لا يستحقون الزكاة في كثير من أحوالهم.

وتقوم الجمعيات بتنظيم الإنفاق على الفقراء بأوقات معينة طوال العام، والبذل للجمعيات فرصة لصدقة السر، وقضاء على ظاهرة التسول، ثم إن سؤال الفقير للجمعية إذا كان محتاجًا لا مُتَكَثِرًا ولا مخادعًا فيه حفظ لماء وجهه من إراقته لكل من يلقاه، وحفظ لسره.. والبذل للجمعيات يُعطى المنفق الفرصة لأن ينفق في الأشهر والأيام الفاضلة، والجمعية وكيل الفقير، تقدمها له على مدار العام.

أسأل الله بمنه وكرمه أن يوفقنا جميعاً لكل خير...

 

 

 

المشاهدات 1429 | التعليقات 0