القلب بين مطرقة الشبهات وسندان الشهوات فكيف النجاة؟؟

مريزيق بن فليح السواط
1435/05/27 - 2014/03/28 00:47AM
عباد الله:
إن الله تعالى أمر بتطهير القلوب وتزكيتها، وتطييبها وتنقيتها، وجعل ذلك غاية الرسالة المحمدية، وقدمه على تعلم الكتاب والحكمة النبوية قال تعالى: "هو الذي بعثَ في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياتِه ويزكِّيهم ويعلمُهُمُ الكتابَ والحكمةَ وإن كانوا من قبلُ لفي ضلال مبين".
أيها المسلمون:
القلب هو الموجه والمخطط، والجوارح تبع له، تنفذ أمره، وتصدر عن رأيه، قال أبو هريرة رضي الله عنه: القلب ملك والأعضاء جنوده، فإذا طاب الملك طابت جنوده، وإذا خبث خبثت جنوده. فصلاح الجوارح بصلاح القلب "ألا وإن في الجسد مضغه إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب".
إذا صلح قلبك لم تنظر عينك إلا للحلال، ولم تسمع أذنك إلا الطيب من القول، ولم ينطق لسانك ألا بالحق، فإذا فسد قلبك نظرت عينك للحرام، وسمعت أذنك الآثام، ونطق لسانك بالباطل ورديء الكلام "لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه".
القلب محل نظر الرب تبارك وتعالى "إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" محل نظر الله القلوب والأعمال، ما ينظر إلى رصيدك، ولا إلى منصبك، ولا إلى جمالك!! فالغني والفقير عند الله سواء، والأمير والحقير عند الله سواء، والوسيم والدميم عند الله سواء، فـ يالله العجب من أقوام صرفوا جُلّ اهتمامتهم إلى تحسين ظواهرهم، وغفلوا عن قلوبهم وأرواحهم، قال ابن القيم:
فالفضل عند الله ليس بصورةِ الـ *** أعمال بل بحقائق الإيمان
القلب أساس الأعمال، وأصل حركات البدن، وتفاضل الأعمال إنما يكون بما في القلب من اليقين والإخلاص والمحبة لله، تقف في الصلاة وأنت مقبل على ربك، وبجوارك أخر سارح في بحور الدنيا، شارد قلبه عن مولاه، فلما بين هذا وهذا أعظم مما بين المشرق والمغرب!! يقول عليه الصلاة والسلام: "ما من مسلم يتوضأ، فيحسن الوضوء، ثم يقوم فيصلي ركعتين، مقبلٌ عليهما بقلبه ووجهه إلا وجبت له الجنة".
عباد الله:
القلب الذي نتحدث عنه ليس مُضغة اللحم الصغيرة داخل القفص الصدري!! ولا ذلك العضو المخروطي المكون من أُذين وبطين، فهذا يشترك فيه الإنسان وغيره!! ويشترك فيه المسلم والكافر!! وإنما نريد القلب الذي عليه صلاحك، وفيه فوزك ونجاتك، "يوم لا ينفع مال ولا بنون. ألا من أتى الله بقلب سليم" سليم من كل شهوة تُخالف أمرَ الله ونهيَه، ومن كل شبهةٍ تُعارض خبرَ الله ونبائَه.
والقلب شديد التقلب، سريع التأثر، فهو كالثوب الأبيض أدنى قذر يظهر عليه!! وكالمِرآة الناصعة أقل شيء يؤثر فيه!! قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لقلب آبن ادم أشد تقلبا من القدر إذا استجمع غليانه" فهو عرضة للفتنة، قابل للتقلب، ونحن نعيش في زمن الفتن!! فتنُ شهوات، وفتنُ شبهات، عصفت بالقلوب فأنستها علام الغيوب، فتن شهوات: الدنيا، والمال، والجاه، والكرسي، والنساء، والواقع يُصدق ذلك، فالدنيا أصبحت الغاية التي من أجلها يقضي الناس أوقاتهم، ويبذلون جهودهم، يوالون عليها، ويعادون فيها، يحبون لها،و يُبغضون من أجلها!! المال الذي قَطَعَ الأرحام، وفرّق الإخوان، وأوجد المشاكل بين الجيران والخلان!! الجاه والمنصب، حين جلس على الكرسي ودار به، دار عقله معه، فظن أن الكرسي سيبقى له، وسيخلُد فيه، نسيَّ نفسه، فطغى وبغى، وتجبر وتكبر، وفسد وأفسد!! النساء "ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء" والمرأة صارت اليوم سلعة تباع وتشترى!! وصور النساء الكاسيات العاريات تملأ الشاشات!! هذه فتن الشهوات، التي قلَّ أن يسلم منها أحد ولا حول ولا قوة ألا بالله.
وأعظم منها خطرا، وأشد بالقلبا فتكا، فتن الشبهات: التشكيك في العقيدة وزعزعت الثوابت الشرعية!! فأصبحت مظاهر الشرك تُعرض على الهواء!! تصور أيها المبارك: ما ينفق على السحرة للعام واحد في العالم العربي أكثر من خمسة مليار دولار!! ودجال لكل ألف مواطن عربي!! الدعوة إلى التنصير والبدع والفرق المنحرفة جهارا نهارا!! ولها قنوات تلفزيونية ومواقع الكترونية!! الإلحاد والشك في وجود الله ووحدانيته حتى في بلاد التوحيد وبين أبنائه!! شبهات حول الإسلام وصلاحيته للعصر، والحدود الشرعية وملائمتها للواقع!! شبهات حول الموت وما بعده من عذاب القبر والبعث والنشور!! وشبهات حول الرسول صلى الله عليه وسلم!! وأخرى ضد الصحابة رضي الله عنهم طعنا وتشكيكا!! صورة الجهاد أصبحت مشوهه، ونزع الحجاب، ومساواة الرجل بالمرأة، واختلاطها بالرجال، غدت ضرورة ملحة!! الطعن في العلماء والدعاة وأصحاب الفضل والسبق في خدمة الدين، وتحقير ولمز الصالحين بحجة النقد تارة، وبيان الأخطاء تارة، كلها شبهات، تغشى القلب ونحن لا نشعر، يقول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: "تُعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عُودا عُودا فأي قلب أُشربها نكت فيها نكته سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكته بيضاء، حتى تعود القلوب على قلبيين قلبٍ أسود كالكوز مُجخيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه، وقلبٍ أبيضَ لا تضره فتنة مادامت السموات والأرض".
تصور يا عبد الله: لو كنت مسافرا وفي الطريق انقطع "البنزين" وتوقفت سيارتك في أرض خالية، فجأك أحد المارة ليساعدك، وقال: ما عندي "بنزين" ولكن هذا جالون ماء ضعه في "التانكي" وشغل سيارتك وتوكل على الله!!! ما الذي ستقوله له: ربما تقوا مجنون!! أو يهزأ بي!! لأن مادة حياة السيارة "البنزين" ومن صنعها قال: اذا وضعت شيئا غير "البنزين" تعطلت السيارة؟؟ أنت من خلقك؟؟ الله. والله تعالى هو الأعلم بما يصلحك، وجعل مادة حياة قلبك طاعتك لربك، وتلمُسُكَ لرضاه، ولكنك فرطت في ذلك وجأك الإعلام، وقرناء السوء وقالوا: حياة قلبك في سماع الأغاني!! ومشاهدة القنوات!! والتمتع بالشهوات!! وأوردوا على قلبك الشبهات فقبلتها وصدقتها حتى قست القلوب، ورانت عليها الذنوب، وجعلت من أصيب بها غافلا لاهيا مُنهمكا في جمع الحطام،معلقا قلبه بغير رب الأنام، قال مالك بن دينار: ما ضُربَ عبدٌ بعقوبة أعظم من قسوة قلبه. قال تعالى: "فويلٌ للقاسيةِ قُلُوبُهُم من ذكر الله أولئك في ضلالٍ مُبين".

الحمد لله على إحسانه....
العبرة بأعمال القلوب لا بأعمال الجوارح والأعضاء، قال تعالى: "الذي خلَقَ الموتَ والحياةَ ليَبْلُوَكُم أيُّكُم أحسنُ عملا" فقال أحسن عملا؟؟ ولم يقل أكثر!! ولهذا لم يكن السلف رحمهم الله يهتمون بكثرة العمل بل بصفته وكيفيته وحقيقته، قال ابن القيم يرحمه الله: في قول الله تعالى: "وثيابك فطهر" جمهور المفسرين من السلف ومن بعدهم على أن المراد بالثياب هنا: القلب. إصلاح قلبك الذي بين جنبك، والعناية به، واجب عليك، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يهتم بصلاح القلب غاية الاهتمام، ويعتني به تمام العناية، يدعو ربه: "اللهم اجعل في قلبي نورا" ويستعيذ به: " اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع" فالدعاء أعظم أسباب صلاح القلب، والنبي الكريم من فُطر قلبه على التوحيد، ولُيّنت مفاصله على طاعة العزيز الحميد، يدعو كثيرا: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك" تقول أم سلمه يا رسول الله: أو أن القلب ليتقلب؟؟ فيقول لها: "ما من قلب من بني آدم ألا وهو بين أُصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء" تجلس في محاضرة، أو في مجلس علم، فيلينُ قلبك، وتسكنُ نفسك، وقد تدمع عينك، ويرق جلدك، ثم تخرج إلى السوق، أو تشاهد قناة فضائية، فتسمع ما لا يجوز، وتشاهد ما لا يحل فيقسوا قلبك، ويضعف إيمانك!!
الأخذ بالقرآن تلاوة وحفظا وتدبرا من أعظم أسباب صلاح القلب "اللهُ نزَّلَ أحسنَ الحديثِ كتابا مُتشابها مَثَانِيَ تقشعرُّ منهُ جلودُ الذين يخشونَ ربهُم ثم تلينُ جُلُودُهُم وقُلُوبُهُم إلى ذكر الله ذلك هدى اللهِ يَهدي به من يشاءُ ومن يضللِ اللهُ فماله من هاد" فالقرآن أبلغ موعظة "يا أيها الناسُ قد جأتْكُم موعظةٌ من ربِّكُم وشفاءٌ لما في الصدورِ وهدىً ورحمةٌ للمؤمنين" انفع دواء لما في الصدور من أمراض الشبهات والشهوات هو كلام الله، فأقبلوا على كتاب ربكم، وتمسكوا به، فإنه لا صلاح لقلوبكم، ولا سعادة لنفوسكم، ولا استقامة لأحوالكم، ألا بالتمسك به "ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم" أُبي بن كعب رضي الله عنه، لما أخذ بالقرآن في كل حال من أحواله، صلح قلبه، واستقام دينه، وعظمة منزلته، وحاز منقبة شريفه: ناداه يوما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: "أن الله أمرني أن أقرأ عليك (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب)" _ أول سورة البينة_ قال وسماني؟؟ قال أُبي باسمي!! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم" فبكى رضي الله عنه فرحا بفضل الله ورحمته، منقبة عظيمة لما عاش مع القرآن أن سماه الله باسمه، ولذا لما وقعت الفتنه في زمن عثمان رضي الله عنه قال أبن أبزى: أتيت إلى أُبي بن كعب فقلت: أبا المنذر ما لمخرج؟؟ قال: كتاب الله ما ستبان لك فاعمل به، وما اشتبه عليك فكله إلى عالمه.
من أسباب صلاح القلب واستقامته، إعماره بمحبة الله، فتحصل له اللذة والمتعة "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان، أن يكون اللهُ ورسولُه أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا في الله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار" وأعظم طُرق نيل محبة الله أداء الفرائض والواجبات، والاجتهاد في النوافل والمستحبات.
ذكر الله سبب عظيم لاستقامة القلب، وصلاحه وزكاته "الذين أمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب" فالذكر جلاء القلب يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكره، كمثل الحي والميت" وأعظم الذكر الاستغفار يقول عليه الصلاة والسلام: "إنه ليُغان على قلبي وأني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة".
مجالسة الصالحين، ومصاحبة الأخيار، وحضور مجالس الذكر، سبب لصلاح القلب لأنهم يُذكرون بالآخرة، ويُُزهدون في الدنيا قال الحسن: أخواننا أحب إلينا من أهلينا، لأن أهلينا يذكرونا الدنيا، وإخوننا يذكرونا بالآخرة".
ترك الذنوب من أسباب صلاح القلب واستقامته
رأيت الذنوب تميت القلوب *** وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب *** فخير لنفس عصيانها
لما جلس الشافعي عند مالك ورأى من وفور فطنته، وتوقد ذكائه، وكمال فهمه، قال له مالك: أرى الله قد قذف في قلبك نورا، فلا تطفئة بظلمة المعصية.
ترك مجالسة أهل الشبه والاستماع اليهم من أسباب صلاح القلب، واستقامته، قال تعالى: وإذا رأيتَ الذين يخوضُونَ في أياتِنا فأعرضْ عنهم حتى يخوضوا في حديث غيرٍه" فالجلوس مع أهل الشبهه والاستماع لحديثهم، مفسد للقلب، قال رجل مبتدع لأيوب السختياني أسمع مني كلمة واحدة؟؟ سد أذنيه وقال ولا نصف كلمة، مع عمق علمه، وقوة إيمانه، فكيف بمن هو دونه؟؟ وكيف في زمن أصبح لأهل الشبه قوة وجرأة؟؟ وبيدهم المال ووسائل الإعلام التي زينت الباطل، ولبست على الناس دينهم، وغرتهم بمعسول الكلام، وقوة العرض، حتى وقعوا في شراكهم، وأفسدوا قلوبهم
لكل ساقطةٍ في الحي لاقطةٌ *** وكل كاسدة يوما لها سوقُ
والسلف حذروا من مجالسة أهل البدع:
وسمعك صُْن عن سماعِ القبيحِ *** كصون اللسان عن النطق به
فإنـك عنــد استمــــاع القــبيــح *** شـــريكٌ لــقائــلِه فأـنتبــه
النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى في يد عمر قطعة من التوراة أصابها من بعض اليهود غضب!! وقال: أَمُتَهَوّكُونَ _أي متحيرون_ فيها يا بن الخطاب والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقيه" فالشبه إذا جاءت على قلب خاو، وعقل ضعيف، تهاوى أمامها، ولم يتماسك وربما صدقها فأضاع نفسه، وخسر دنياه وآخرته.
المشاهدات 2289 | التعليقات 0