القلب الصائم

د. منصور الصقعوب
1446/09/17 - 2025/03/17 18:29PM
القلب الصائم
اليوم لا ترى إلا ظامئ البطن، يابس الشفه، لله رب العزة، لن ترى مسلماً إلا وامتنع عن أكله وشربه، تقرباً لله ربه، ولعمر الله فما أروعه من مشهدٍ، مشهدُ الاستجابة، برغم شدة الأمر ، كتب الله لكم الأجر، ومع هذا:
فيكتمل الخير ويعظم، ويعلو ويشرف، حين نجمع مع صوم البطونِ صومَ القلوب، فتركُ الشراب والطعام هو أهون الصيام كما قال السلف الكرام، وأتمُّه أن تجمع معه صوم القلب
والغبن البالغ أن ترى بطناً جائعاً وقلباً في الذنوب والغاً، أن ترى بدناً صائماً وفؤاداً في الأمراض مفطر، ومحطُّ نظر الله إلى القلوب لا الأبدان، وفي مقول سيد ولد عدنان ﷺ «ألا وإن في الجسد مضغةً إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب" وفي صلاح القلب صلاح البدن، وقد قيل: القلوب أوعية ، فإذا امتلأت من الحق ظهر ذلك على الجوارح، والعكس بالعكس.
وفي صلاح قلبك عبادة لربك، وقد قال السلف: ليس
من العبادات شيء أنفع من إصلاح خواطر القلوب .
أيها الصائمون: هل رأيتم قلباً يمرض، بل قلباً يطبع عليه، بل قلباً يموت؟، كل ذلك يكون، لأجل ذا فلزامٌ على كل امريءٍ أن يُعنى بقلبه، يُداوي أمراضه، ويُعالج أسقامه، ويزيل أدرانه، ويستفيد من شهر الصوم بتهذيب القلب، وحبسه عن أدوائه، فكيف يكون صيام القلب؟
القلب الصائم يا كرام قلبٌ متحررٌ من حب الدنيا والتعلق بشهواتها وملذاتها، مشغولٌ بالنعيم الباقي، وطالبٌ للراحة الدائمة، ولذا يهون عنده تعبُ الدنيا لأنه يؤمل في راحة الجنة، وتصغر عنه الدنيا لأنه يرجّي النفس بنيل الآخرة، ولا تشغله شهواتها عن طاعة المولى، لأنه يمني النفس بإمتاعها في الجنة الباقية
وأما غيره فتراه مشغولاً بحب الدنيا، يؤثرها على الآخرة، هي همه، وطلبته، ولتعلم الفرق بين الاثنين فاسمع قول الرسول ﷺ" من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله وأتته الدنيا وهي راغمة ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه وفرق عليه شمله ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له"
معشر الكرام: والقلب الصائم متعلق بالله، لا يخاف من غيره، لا يتوكل على سواه، ولا يرجو إلا إياه.
القلب الصائم إذا تعبد فنيته لله، لا يرائي بعمله المخلوق، لا ينتظر المدحة من أحد، لأنه يعلم أن غير الله ليس عنده جنة ولا نار، فلِمَ يطلب وجه مخلوق، وطالبُ مدحِ الخلق مغبونٌ، لا هو أبقى أجره، ولا هو استبقى نفسه من نصب عمله
والقلبُ الصائم : قلبٌ سالم من الأحقاد والضغائن، لا يُضمِر لأحدٍ من المسلمين غِلاًّ ولا شرّاً ولا حسداً، بل يعفو ويصفح، ويغفر ويتسامح، ويحتمل أذى الناس وجهلهم
والقلب الصائم أيها الصائمون: يصوم عن الكِبر والتعالي؛ فتلك مفطرات القلب، لا تُساكن قلب مؤمن، وفي الحديث القدسي أن الله يقول «الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، من نازعني فيهما عذبته».وعلى أي شيء يتكبر المرء وما منه نعمة إلا وهي من الله، لو أنه عقل، وفي صحيح الحديث " لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر"
والقلب الصائم عباد الله يصوم عن العُجب والغرور، وتلك مكدرات النفوس، فصاحب القلب الصائم ينظر إلى عيوب نفسه، ويتذكر كثرة تقصيره، وتعدد ذنوبه، وعجزه عن شكر خالقه، فيعود على نفسه باللوم والتقريع.
هكذا تصوم القلوب أيها الكرام، نفوسٌ مزكاة، وقلوبٌ سليمة، وأفئدة عن الآثام مترفعة، وعن الشرور صائمة، وبذلك يربح المرء، فسلامة البدن في الأخرى مهرُه صلاح القلب في الدنيا (يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ) فيا من قدرتم على صوم البدن، لتصم قلوبكم عن أمراض النفوس، وغوائل القلوب، ولتفطر يوم تفطر على حب الله ورجائه، وحسن الظن به والإخلاص له، ولتمتليء قلوبكم من سلامة القلب من الغل والحسد، وأفئدتكم من التعلق بالله ليجتمع لكم صوم البطن وصوم الفؤاد، وصوم الجوارح.
وجدير بنا ونحن نتحرز من القطرة تلج الجوف، أن نتحرز أيضاً من مثقال الذرة من النفاق أو الشرك، أو الكبر والعجب والحسد أو الشك، أو غيرها من الأدواء
صيام العارفين له حنين ** إلى الرحمن ربّ العالمينا.
تصوم قلوبهم في كلّ وقت ** وبالأسحار همْ يستغفرونا
اللهم اهدِ قلوبنا إلى صراطك المستقيم، وثبّتها على الإيمان

الخطبة الثانية
الحمد لله وحده
الليلة ينتصف الشهر، ويكتمل البدر، عشنا بحمد ربنا وأدركنا، وبفضله صمنا وصلينا، فلك الحمد ربنا على بلوغ الأيام، ونسأل الله التمام والقبول وحسن الختام
ها قد قاربنا المنتصف فمن منا حاسب النفس ومنها انتصف، وحين يبدأ الشهر بالنقص فقمن بنا أن نزيد نحن بالعمل، فكل يومٍ وشهرٍ منه عوض إلا رمضان فماله عوض.
يا مؤمن: إن كان أقلقك سرعةُ مرور المنتصف، فباقي الشهر سيمر كذلك، وأرجو أن لا نتحسر عليه حين يرحل
كم من أيامٍ مرت والملائِكُ من حولنا يكتبون فماذا قدمت فيها من عمل، نفرح بالأيام نمضيها، ذاك يسعد بقرب العيد، وهذا يؤمل بموعدٍ قادم جديد، وكل يومٍ يمضي فهو من الآجال يقربنا
ها هي الأيام قد تسارعت، وها هي الأيام العشر قد دنت، والخيراتُ قد أقبلت، وحين تحل العشر بأنوارها، فليتغير كل شيء، لأنها الفرصة الكبرى، والموسم الأبرز، والليالي الأشرف، فأرِ الله من نفسك فيها خيراً
في العشرِ التهجدُ في الليالي، والاستغفارُ في الأسحار، والوقوفُ بين يدي الكريم الغفار عملٌ له فيها شأنٌ وأي شأن.
الاعتكاف سنة العشر، وجَنة الطاعة، لم يتركه النبي ﷺ طيلة كونه بالمدينة، فإن قدرت فلا تغبنن ولو ليلة أو يوماً
كُنْ في ضيافة الله، وتفرغ من الشُّغل بغير الله، في بيته وبين يديه، وهناك، وبين جدران المسجد تتقاصر اللذات، عن لذة العبادة في تلك اللحظات
أيها المبارك: استغلال كل أيام الشهر ولياليه بل دقائِقِه وثوانيه، هو ما ينبغي أن يشغل البال، فإن كنت فيما مضى قد قصرت فما بقي خير مما مضى
عشْرٌ وأيُّ العشْرِ يا شهرَ التُّقَى**عشْرٌ بها عتقٌ من النيرانِ
فيهَا منَ الأيـامِ أعظـمُ ليلةٍ ** بشرى لقائمِ ليلِها بجنان
المشاهدات 181 | التعليقات 0