القلب الصائم

د. منصور الصقعوب
1433/09/14 - 2012/08/02 22:00PM
جميل أن تظمأ البطون لله, أن تيبس الشفاه طمعاً في ما عند الله, أن نمتنع عن المأكل رغباً في ثواب الله, وذلكم الصيام, به يتقرب المرء للملك العلام, ولكن :
أكمل من ذلك وأتم, وأعلى من ذلك وآكد أن نجمع مع صوم البطون صوم القلوب, فترك ترك الشراب والطعام هو أهون الصيام كما قال السلف الكرام, وأتمه أن تجمع معه صوم القلب
أجل فكم ترى من بطن جائع وقلب في الذنوب والغ, كم ترى من بدن صائم وفؤاد في الأمراض مفطر, ومحط نظر الله إلى القلوب لا الأبدان, وفي مقول سيد ولد عدنانج«ألاوإن في الجسد مضغةً إذاصلحت صلح الجسدكله،وإذافسدت فسدالجسدكله،ألاوهي القلب"وفي صلاح القلب صلاح البدن, وقد قيل: القلوب أوعية , فإذاامتلأت من الحق أظهرت زيادةأنوارهاعلى الجوارح,وإذاامتلأت من الباطل أظهرت زيادةظلمتهاعلى الجوارح.
وفي صلاح قلبك عبادة لربك, وقد قال السلف: ليس
من العبادات شئ أنفع من إصلاح خواطرالقلوب .
القلوب أيها الكرام تمرض,ويُطبَع عليها،وتقفل,بل
وقد تموت.
والمؤمن يُعنى بقلبه, يُداوي أمراضه, ويُعالج أسقامه, ويزيل أدرانه, ويستفيد من شهر الصوم بتهذيب القلب .
فيا ترى كيف يكون صيام القلب, وعن ماذا يصوم ؟
القلب الصائم أيها الكرامقلبٌ متحررمن حب الدنياوالتعلق بشهواتهاوملذاتها, مشغول بالنعيم الباقي, وطالب للراحة الدائمة, ولذا يهون عنده تعب الدنيا لأنه يؤمل في راحة الجنة, وتصغر عنه الدنيا لأنه يرجّي النفس بنيل الآخرة, ولا تأسره شهوات الدنيا, ولا تشغله عن طاعة المولى, لأنه يمني النفس بإمتاعها في الجنة الباقية
وأما غيره فتراه مشغول بحب الدنيا, يؤثرها على الآخرة, هي همه, وطلبته, ولتعلم الفرق بين الاثنين فاسمع قول الرسول ج" من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله وأتته الدنيا وهي راغمة ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عيينه وفرق عليه شمله ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له"
معشر الكرام: والقلب الصائم متعلق بالله, لا يخاف من غيره, لا يتوكل على سواه, لا يرجو إلا إياه, لا يعمل إلا له, له القصد كله, وله التوجه والعبادة كلها, فلا شرك مهلك, ولا تعبد لغير المولى
القلب الصائم إذا عمل وتعبد, فنيته لله, لا يرائي بعمله المخلوق, لا ينتظر الثناء والمدحة من أحد, لأنه يعلم أن غير الله ليس عنده جنة ولا نار, فلِمَ يطلب وجه مخلوق, وطالب مدح الخلاق مغبون, لا هو أبقى أجره, ولا هو استبقى نفسه من نصب عمله
والقلبالصائم : قلبسالممنالأحقادوالضغائن,لايضمرلأحدمنالمسلمينغلاًولاشراًولاحسداً, بليعفوويصفح,ويغفرويتسامح, ويحتمل أذى الناس وجهلهم .
معشر الكرام: والقلب الصائم لا يغيب عن باله أن يؤدي مسئولياته, فصاحب القلب الحي يعلم أنه مسؤل عن نفسه وعن ذريته ومن تحت يده على حد سواء, ونحن في هذه الليالي الشريفة في موسم تسوق للنساء, وهو أوان تسكع لبعض الشباب, وصاحب القلب الحي من يعلم أنه مُسائل عن الذرية فيقوم بحقهم, ويجنبهم الشرور, ويستشعر قول نبيه ج " كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته "
والقلب الصائم أيها الصائمون: يصوم عن الكِبر والتعالي؛فتلك مفطرات القلب, لا تُساكن قلب مؤمن, وفي الحديث القدسي أن الله يقول «الكبرياءردائي،والعظمةإزاري،من نازعني فيهماعذبته». وعنهج أنه قال: «من تكبَّرعلى الله وضعه،ومن تواضع لله رفعه".
والقلبالصائم عباد الله يصوم عن العُجب والغرور، وتلك مكدرات النفوس, فعلى أي شيء يتكبر المرء وما منه شيء إلا وهو من الله, عِلمُه وصحته, منصبه وماله, أولاده وتجارته, كلها من عند ربه, فعلى أي شيء يتكبر لو أنه عقل, وفي صحيح الحديث " لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر"فصاحب القلب الصائم ينظر إلى عيوب نفسه, ويتذكر كثرة تقصيره, وتعدد ذنوبه, وعجزه عن شكر خالقه, فيعود على نفسه باللوم والتقريع.
هكذا تصوم القلوب أيها الكرام, نفوس مزكاة, وقلوب سليمة, وأفئدة عن الآثام مترفعة, وعن الشرور صائمة, وبذلك يربح المرء, فسلامة البدن في الأخرى مهره صلاح القلب في الدنيا (يوم لاينفع مال ولابنون إلامن أتى الله بقلب سليم ) فيا من قدرتم على صوم البدن, لتصم قلوبكم عن أمراض النفوس, وغوائل القلوب, ولتفطر يوم تفطر على حب الله ورجائه, وحسن الظن به والإخلاص له, ولتمتليء قلوبكم من سلامة القلب من الغل والحسد, وأفئدتكم من التعلق بالله سبحانه ليجتمع لكم صوم البطن وصوم الفؤاد, وصوم الجوارح
وجدير بنا ونحن نتحرز من القطرة تلج الجوف, أن نتحرز أيضاً من مثقال الذرة من النفاق أو الشرك, أو الكبر والعجب والحسد أو الشك, أو غيرها من الأدواء
صيامالعارفين له حنين**إلىالرحمنربّالعالمينا.
تصومقلوبهم فيكلّ وقت**وبالأسحار همْ يستغفرونا
اللهم اهدِقلوبناإلى صراطك المستقيم، وثبّتهاعلى الإيمان يا ربّ العالمين


الخطبة الثانية
الحمد لله وحده
انتصف الشهر, عشنا بحمد ربنا وأدركنا, وبفضله صمنا وصلينا, فلك الحمد ربنا على بلوغ الأيام, ونسأل الله التمام والقبول وحسن الختام
هاقد بلغ الشهر المنتصف فمن منا حاسب النفس ومنها انتصف, وحين بدأ الشهر بالنقص فقمن بنا أن نزيد نحن بالعمل, فكل يوم وشهر منه عوض إلا رمضان فماله عوض.
كم من أيامٍ مرت والملائِكُ من حولنا يكتبون فماذا قدمت فيها من عمل, نفرح بالأيام نمضيها, ذاك يسعد بقرب العيد, وهذا يؤمل بموعد قادم جديد, وكل يومٍ يمضي فهومن الآجال يقربنا
ها هي الأيام العشر قد دنت, والخيرات قد أقبلت, فأرِ الله من نفسك خيراً, وانهل من بركاته
التهجد, الإقبال على القرآن, أعمالٌ لها في العشر شأن فلا يفتك موسمها, كم قصرنا وكم لهونا, وهاهو الشهر قد بدأ بدره بالانحسار, وإن لم تستدرك الآن فربما لم تدرك فرصة أخرى.
الاعتكاف سنة العشر, وجنة الطاعة, قال الزهري عنها:عجباًللمسلمين تركوا الاعتكاف والنبيجلم يتركه منذ دخل المدينة حتى قبضه الله, فإن قدرت فلا تغبنن ولو ليلة أو يوماً, كن في ضيافة الله, وتفرغ من الشغل بغير الله, في بيته وبين يديه, وحينها تتقاصر اللذات, عن لذة العبادة في تلك اللحظات
أيها المبارك:استغلال كل أيام الشهر ولياليه بل دقائقَهُ وثوانيه, هو ما ينبغي أن يشغل البال, ونحن على مشارف العشر, فإن كنت فيما مضى قد قصرت فاليوم اليوم, والحزم الحزم
عشْرٌوأيُّ العشْرِ ياشهرَالتُّقَى**عشْرٌ بهاعتقٌ من النيرانِ
فيهَا من َالأيـامِ أعظـمُ ليلةٍ ** بشرى لقائمِ ليلِها بجنان
المشاهدات 2116 | التعليقات 0