«القَصْدَ القَصْدَ تَبْلُغُوا» 11/8/1444هـ
د عبدالعزيز التويجري
الخطبة الأولى: «القَصْدَ القَصْدَ تَبْلُغُوا» 11/8/1444هـ
الحمد لله الذي من علينا فهدانا، وأطعمنا وسقانا، وأسبغ علينا من النعم وأعطانا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له هو حسُبنا ومولانا، وأشهد أن نبينا محمداً عبدُالله ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله واصحابه وسلم تسليما كثيراً.
أما بعد: فاتقوا الله ربكم، واعملوا صالحاً إنه بما تعملون خبير.
أخرج البخاري عن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: «لَنْ يُنَجِّيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ» قَالُوا: وَلاَ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «وَلاَ أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةٍ، وإِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا، وَاغْدُوا وَرُوحُوا، وَاسْتَعِينُوا بشَيْءٌ مِنَ الدُّلْجَةِ، وَالقَصْدَ القَصْدَ تَبْلُغُوا»
ما أعظم هذا الحديثِ، وأجمعه للخير والوصايا والأصول الجامعة، قليلٌ في مبناه عظيمٌ في معناه.
تؤلف اللفظ والمعنى فصاحته ** تبارك الله منشي الدرّ في الكلم
أُسّس عليه الصلاة والسلامُ في هذا الحديثِ العظيم الأصل الكبير. فقال: "إن الدين يسر" أي ميسرٌ مسهلٌ في عقائدهِ وأخلاقهِ وأعمالهِ، وفي أفعاله وتُروكه.
دين كامل شامل {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}
شامل بعقائده "أن تؤمِنَ بالله، وملائكته، وكُتُبه، ورُسِله، واليوم الآخر، وتؤمنَ بالقدرِ خَيرِه وشَرّه"
شامل بأخلاقه «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ» {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}
وبفواتها يفوت الصلاح ويتزعزع الأمن وتضطرب النفوس{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا}
دينُ الإسلامِ ميسر في أحكامه ونظامه وتشريعاته { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} فلا إرهاق في أوامر الله، ولا تكليف بما لايطاق {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} «واعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ» «فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ وَالقَصْدَ القَصْدَ تَبْلُغُوا»
في القصدِ بلوغُ الأملِ وتحقيقُ المؤمل..
والقصدُ: هي المداومةٌ على السير إلى اللهِ بلا إرهاقٍ ولا شطط، ومن لم يقتصد؛ فبالغ واجتهد فربما انقطع في الطريق ولم يبلغ، وقد جاء في رواية ابن عمرو: " إن هذا الدين متين، فأوغل فيه برفق ولا تبغض إلى نفسك عبادة الله؛ فإن المنبت لا ظهرا أبقى ولا سفرا قطع ".
وَالقَصْدَ القَصْدَ تَبْلُغُوا، دَخَلَ رَسُولُ اللهِ r الْمَسْجِدَ، فَإِذَا حَبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ سَّارِيَتَيْنِ، فَقَالَ:«مَا هَذَا الحَبْلُ؟» قَالُوا: هَذَا حَبْلٌ لِزَيْنَبَ فَإِذَا فَتَرَتْ أَمْسَكَتْ بِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ r:«لاَ، حُلُّوهُ لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ، فَإِذَا فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ»متفق عليه.
وفي صحيح مسلم:«إِذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَرْقُدْ حَتَّى يَذْهَبَ عَنْهُ النَّوْمُ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا صَلَّى وَهُوَ نَاعِسٌ لَعَلَّهُ يَذْهَبُ يَسْتَغْفِرُ، فَيَسُبُّ نَفْسَهُ» وقالت عَائِشَةَ، قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ r، وَعِنْدِي امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي أَسَدٍ، فَقَالَ: «مَنْ هَذِهِ؟» فَقُلْتُ: امْرَأَةٌ لَا تَنَامُ تُصَلِّي، قَالَ:«مه، عَلَيْكُمْ مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ، فَوَاللهِ لَا يَمَلُّ اللهُ حَتَّى تَمَلُّوا، وَكَانَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيْهِ مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ». أخرجه مسلم .
والواقع والمشاهد أن من أخذه الحماس فأراد أخذ العلم جملة واحدة، أو حفظ القرآن في وقت وجيز، أو بالغ في الانقطاع عن الناس وحزم النفس في الأمور الكبار سرعان مايمل وينقطع، قال عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو رضي الله عنهما،: لَأَقُومَنَّ اللَّيْلَ وَلَأَصُومَنَّ النَّهَارَ، مَا عِشْتُ، فدعاه رَسُولُ اللهِ r فقال له: «آنْتَ الَّذِي تَقُولُ ذَلِكَ؟» فَقُلْتُ لَهُ: قَدْ قُلْتُهُ، يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ «فَإِنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ، فَصُمْ وَأَفْطِرْ، وَنَمْ وَقُمْ، وَصُمْ مِنَ الشَّهْرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَذَلِكَ مِثْلُ صِيَامِ الدَّهْرِ» فلما توفي رسول الله r وكبر عبدالله قال: «يَا لَيْتَنِي أَخَذْتُ بِالرُّخْصَةِ، فلَأَنْ أَكُونَ قَبِلْتُ الثَّلَاثَةَ الْأَيَّامَ الَّتِي قَالَ رَسُولُ اللهِ r، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَهْلِي وَمَالِي» متفق عليه.
وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فأوغلوا فيه برفق، وَالقَصْدَ القَصْدَ تَبْلُغُوا ..
لَعَمْرُكَ ، مَا طُرْقُ المَعَالي خَفِيّةٌ ** وَلَكِنّ بَعضَ السّيرِ ليسَ بقَاصِدِ
في الصحيحين قال عَلْقَمَةُ: سَأَلْتُ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ، قَالَ: قُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ كَيْفَ كَانَ عَمَلُ رَسُولِ اللهِ r ؟ قَالَتْ: «كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً، وَأَيُّكُمْ يَسْتَطِيعُ مَا كَانَ رَسُولُ اللهِ r يَسْتَطِيعُ ، وكَانَ إِذَا عَمِلَ عَمَلًا أَثْبَتَهُ»
صلى عليك إله العرش ما غربت ** شمس النهارِ وفي أبراجها طلعت
استغفر الله لي ولكم وللمسلمين والمسلمات فاستغفروه وتوبوا إليه إن ربي رحيم ودود .
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ..: الحَمْدُ للهِ وَكَفَى، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى عَبْدِهِ المُصْطَفَى، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنِ اجْتَبَى. أَمَّا بَعْدُ:
والقصد يكون في الأمور كلها في الماكل والمشرب {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا}
والقصد والاقتصاد في النومِ راحةٌ ونشاطٌ وقوة ، فمن بالغ في النوم ضيع الصلوات، وأصبح ثقيل الروح، خامل النفس كسلان .. ذُكِرَ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ r رَجُلٌ نَامَ لَيْلَةً حَتَّى أَصْبَحَ، قَالَ: «ذَاكَ رَجُلٌ بَالَ الشَّيْطَانُ فِي أُذُنِهِ» متفق عليه.
ومن بالغ في ترفيه نفسه وترويحاها أثقل كاهله، وأرهق راحلته، وضعف في حق الله عليه.
ترويح وترفيه لا يكون غاية المُنى، أو يأخذ بعقول ذوي الحِجى ..لا أمعةً إن سمع هيعة طار لها ، عين على كل منشور، وأذن لك دعاية مأكول .
لا تقبلوا الضيم واحموا منه محارمكم ** إن المحــارم مما تمَنع العـــــــرب
إني أرى أمـــــــم الغبــــــــــراء يشغلهـــــا ** جد الأمور فلا لهوٌ ولا لعب
ومن بالغ في المتاجرة والكسب وتحصيل الغنى عن قريب ، وظن السراب ماءَ، وغنى الأغنياء جاء بين عشية وضحاها، ما يلبث أن ينقطع به الطريق وتتراكم عليه الديون وينسى معها الحقوق ..
رُوَيدَكَ ! لا يخدعنْــك الربيـــــــــــعُ ** وصحوُ الفَضاءِ ، وضوءُ الصباحْ
ففي الأفُق الرحب هولُ الظلام ** وقصفُ الرُّعودِ ، وعَصْفُ الرِّياحْ
فأوغلوا برفق، {وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} وَالقَصْدَ القَصْدَ تَبْلُغُوا .
ومن بالغ في المثالية والمقارنة بغيرة ، احتقر نعمت الله عليه ولم يهنئ برزق ولم يسعد بعطاء .
ليْسَ كلُّ الدَّهْرِ يوماً واحداً ** رُبّما ضَاقَ الفَتى ثمّ اتّسَعْ
إنّمـــَا الدّنْيــــــا مَتَاــــــعٌ زائِــــــلٌ ** فاقْتَصِدْ فيهِ وخُذْ مِنْهُ وَدَعْ
{اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد ..
اللهم آمنا في دورنا وأصلح ولاة امورنا ..
المرفقات
1677758720_«القَصْدَ القَصْدَ تَبْلُغُوا».docx
1677772973_«القَصْدَ القَصْدَ تَبْلُغُوا».pdf