القرية الكونية!

عاصم بن محمد الغامدي
1437/10/17 - 2016/07/22 07:02AM
[align=justify][align=justify]القرية الكونيَّة.
الخطبة الأولى:
الحمدلله فالق الحبِّ والنوى، عالمِ السر وأخفى، الذي خلقَ فسوّى، وقدَّر فهدى، لا تخفى عليه نجوى، ولا تعزب عنه شكوى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، بالهدى ودين الحق أرسله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد عباد الله:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله، فلقد اتقى الله من نصح نفسَه، وقدَّم توبته، وغلَب شهوته، فالأجل مستور، والأمل خادع، والحسرة لمن عمره عليه حجة، وقادته أيامه إلى شِقْوة، إنكم في أجل منقوص، وعلمٍ محفوظ، والموت قريب، وكل ما بين أيديكم إلى زوال، فلينظر كل امرئ ما قدمت يداه، فالمصير إما إلى الجنة وإما إلى النار، {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون}.
أيها المسلمون:
قوة التأثير، وسيلة التغيير، والناس والمجتمعات تختلف ما بين مؤثرة على الآخرين ومتأثرة بهم.
والإعلام من أقوى وسائل التأثير قديمًا وحديثًا، علم ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فكان يقول لحسان رضي الله عنه: "اهجهم –أو هاجهم- وجبريل معك"، وعلمت ذلك قريش فكانت تستقبل الوفود تحذرهم من النبي الجديد.
ولما انتهت غزوة حنين، قال كعب بن مالك رضي الله عنه وهو من شعراء النبي صلى الله عليه وسلم:
قَضَيْنَا مِنْ تِهَامَةَ كُلَّ رَيْبٍ *** وَخَيْبَرَ، ثُمَّ أَجْمَعْنَا السُّيوفَا
نُخَيِّرُهَا وَلَوْ نَطَقَتْ لَقَالَتْ *** قَوَاطِعُهُنَّ: دَوْسًا أَوْ ثَقِيفَا
فبلغ البيتان القبيلتين فجاءتا مسلمتين، واتخذ النبي صلى الله عليه وسلم شعراء وخطباء يستقبلون الوفود، ويستنهضون الهمم في المعارك، وكانت الحروب تبدأ بالبيان لتقوية عزائم الجنود، وتثبيط الأعداء، بل إن بعض فرسان المعارك لا يفتأ عن الترنم بأبيات لتشجيع نفسه، والتأثير على نفسية خصمه، ففي غزوة خيبر، خرج يهودي اسمه مرحب، وهو يقول:
قد علمت خيبرُ أني مرحبُ *** شاكي السلاح بطلٌ مجربُ
أطعنُ أحيانًا، وحينًا أضرب *** إذا الليوث أقبلتْ تلَهّبُ
كان حماي لحمىً لا يُقربُ
وسأل: هل من مبارز؟
فخرج له عامر بن الأكوع رضي الله عنه وهو يقول:
قد علمت خيبر أني عامرُ *** شاكي السلاح بطل مغامر
فاختلفا ضربتين، فوقع سيف مرحبٍ في ترس عامر، فرجع على ساقه فقطع أكحله، وكان في ذلك موتُه رضي الله عنه.
وفي اليوم التالي خرج مرحب مرة أخرى وهو يختال، مرتجزًا بتلك الأبيات، فخرج له علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو يقول:
أنا الذي سمتني أمي حيدره
كليثِ غابات كريه المنظره
أوفيهم بالسيف كيل السندرة
فضرب مرحبًا على رأسه ففلقه، وكان الفتح على يديه رضي الله عنه.
أيها المسلمون:
تطورت وسائل التأثير في زماننا، وتنوعت طرقه وأساليبه، وأصبحت القوى المختلفة تحرص على امتلاك أسبابه، ومن أبرزها وسائل الإعلام المختلفة، مقروءة ومشاهدة ومسموعة، فتبث فيها ما يحقق مصالحها، ويؤثر على أعدائها، ومن مَلك زِمام الإعلام، مَلكَ خِطام التأثير.
وأصبح الفضاء يعُجُّ بقنواتٍ سياسية واقتصادية وثقافية، كل واحدة منها لها أهداف ومقاصد، تبثُّ نهار مساء، بكل اللغات الحية.
ألا يحتار المرءُ وهو يتابع عددًا من المحطات الفضائية، من تباينِ رواياتها في بعض ما يحصل في الكون من فتنٍ واضطرابات؟
ألا يتعجبُ من نوعية بعض الأخبار الهزيلة، التي تتحدث عن قصة فنان، أو رقصة ممثلٍ، ويتساءل من المنتفع بهذه الهراءات؟
هل فكرتم لماذا تحرص عددٌ من كبريات المحطات الأجنبية، على البث بلغتنا العربية؟
أليس في ذلك وصول إلى كثير من الأطفال والنساء والعوامِّ الذين يسهل اختراقهم بثقافة خاطئة تغير منهجهم وسلوكهم؟
ولا تكاد وسيلة من هذه الوسائل تسلمُ من مقصد خفي تسعى إليه، والموفق من عرف النافع فاستزاد منه، والضارَّ فاجتنبه وابتعد عنه.
عباد الله:
يكفي في بيان خطورة الإعلام في زماننا، أنه تجاوز الحدود الجغرافية، وتقاربت معه المسافة الزمانية والمكانية.
وأصبح دوره متعاظمًا في حياة الأفراد والأسر، والمجتمعات والشعوب.
وإن مما يُفزِع العقلاءَ، أن معظم هذه الوسائل لا يزال في يدِ حفنةٍ من الظالمين، الذين يصدُّون عن سبيلِ اللهِ ويبغونها عِوَجًا، ويحبون أن تشيعَ الفاحشةُ في الذين آمنوا، ويريدون أن نميلَ ميلاً عظيمًا، ومما يزيدُ الطينَ بِلَّةً، أن كثيرًا من الناسِ في غفلةٍ، حتى أسلموا لهذه الوسائلِ قيادَهم، وعطَّلوا بها عقولَهم وفطرَهم.
عباد الله:
إن صناعة الإعلام في العقود الأخيرة تطورت تطورًا مذهلاً، فالخبر ينتقل من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب خلال ثوانٍ معدوداتْ، بل أصبحت القنوات الفضائية ووكالات الأنباء العالمية تتنافس في تغطية الأحداث على الهواء مباشرة، حتى ظهر اصطلاح القرية الكونية تعبيرًا عن سرعة وسهولة انتقال الخبر.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلاً}.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:
الحمدلله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد عباد الله:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله فتقوى الله هي الوصية الجامعة، والذخيرة النافعة، واستعدوا للمنايا فهي لابد واقعة، واحذروا زخارف الدنيا المضلة، فمن استكثر منها فما ازداد إلا قلة، وليكن استكثاركم وازديادكم من التقوى، فهي خير زاد، {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون}.
عباد الله:
يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي-أي: في المنام- فَأَخَذَا بِيَدَيَّ، فَأَخْرَجَانِي إِلَى أَرْضٍ فَضَاءٍ، فأتينا على رجل مستلق لقفاه، وإذا آخر قائم عليه بكلوب من حديد، وإذا هو يأتي أحد شقي وجهه فيشرشر شدقَه إلى قفاه، ومنخرَه إلى قفاه وعينَه إلى قفاه، ثم يتحول إلى الجانب الآخر فيفعل به مثلما فعل بالجانب الأول، فما يفرغ منه حتى يَصِحَّ الأول كما كان، فيعود فيفعلُ به مثل ما فعل المرة الأولى"، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم: "ما هذا؟" فقيل له: "إنه الرجل يغدو من بيته فيكذب الكِذْبَة تبلغ الآفاق". [رواه البخاري في صحيحه].
وإن كانت الكذبة التي تبلغ الآفاق قديمًا تستغرق أيامًا وشهورًا، فإنها لا تحتاج في زماننا إلا ضغطة زر، لتصل إلى العالم كله.
وفي هذا البحر المتلاطم من الوسائل الكبيرة، يجب على المرء تذكر قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قومًا بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين}.
ولا يغفلَ عن ولده وأهل بيته، فقد قال صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه: "الأمير راعٍ على الناس ومسؤولٌ عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته، ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية لزوجها، ومسؤولة عن بيتها وولدِها، وكلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته، فأعدوا للمسائل جوابًا"، قالوا: يا رسول الله: وما جوابها؟ فقال:" أعمالُ البر". [رواه الهيثمي في مجمع الزوائد، وقال: رجاله رجال الصحيح].
فليحذر الإنسان على نفسه وأهل بيته أن يكونوا معاول لهدم عرى الدين من حيث لا يشعرون، فقد أصبح في مقدور الأشخاص منافسةُ الوسائل الإعلامية الضخمة، في جذب الناس، والتأثير عليهم، وأكرم الله أقوامًا فأحسنوا استغلال الوسائل الحديثة في تبصرة الناس وتوعيتهم، وأضلَّ آخرين فزادهم فجورًا.
فاحذَروا رحمكم الله من سبيل أهل العقول التائِهَة الحائِرَة الغافِلَة الذين قال الله عنهم: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ}، واستشعروا أيها الكرام مراقبة السميع البصير، الذي يرى ما تفعله الجوارح ولو دق، ويسمع ما تتحرك به الشفاه ولو خَفَتْ، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض، وهو العليم الخبير.
واحذروا أن يراكم حيث نهاكم، أو يفقدكم حيث أمركم، ثم اعلموا أن ثمرةَ الاستماع الاتباع، فكونوا من الذين يستمِعون القولَ فيتَّبِعون أحسنَه.
وصلُّوا وسلِّموا على خير الورى طرًّا، فمن صلَّى عليه صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا.
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة، أصحاب السنة المُتَّبَعة: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الآلِ والصحابة أجمعين، والتابعين لهم وتابعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وجُودك يا أرحم الراحمين.
[/align][/align]
المشاهدات 1638 | التعليقات 2

جزاكم الله خيرا


[align=justify]وإياكم أخي الكريم.[/align]