القريب -جل جلاله- د عبدالله بن مشبب القحطاني

الفريق العلمي
1444/01/20 - 2022/08/18 10:02AM

الخطبة الأولى:

 

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71]، أَمَّا بَعْدُ:

 

عِبَادَ اللَّهِ: قَالَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)[الْبَقَرَةِ: 186]، سُؤَالٌ تَوَلَّى اللَّهُ -جَلَّ وَعَلَا- الرَّدَّ عَنْهُ بِنَفْسِهِ فِي آيَةٍ تَسْكُبُ فِي كُلِّ قَلْبٍ مُؤْمِنٍ النَّدَاوَةَ الْحُلْوَةَ، وَالْوُدَّ الْمُؤْنِسَ، وَالرِّضَا الْمُطَمْئِنَ، وَالثِّقَةَ الْكَافِيَةَ، وَالْيَقِينَ الشَّافِيَ.

 

وَفِي ظِلِّ هَذَا الْأُنْسِ وَالْقُرْبِ الْمَوْدُودِ نَتَعَرَّفُ عَلَى اسْمِ اللَّهِ: "الْقَرِيبِ -جَلَّ وَعَلَا-"، قَالَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: (إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ)[سَبَأٍ: 50]، فَرَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- قَرِيبٌ مِنْ عِبَادِهِ، مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ؛ الَّذِي هُوَ فَوْقَ خَلْقِهِ، عَلِيمٌ بِالسَّرَائِرِ وَمَا تُكِنُّهُ الضَّمَائِرُ، وَمَعِيَّتُهُ لِكُلِّ أَحَدٍ.

 

وَقُرْبُهُ مِنْ خَلْقِهِ نَوْعَانِ: أَوَّلًا: قُرْبٌ عَامٌّ، وَهُوَ قُرْبُهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- مِنْ كُلِّ أَحَدٍ بِعِلْمِهِ وَمُرَاقَبَتِهِ وَمُشَاهَدَتِهِ وَإِحَاطَتِهِ بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، وَهُوَ فَوْقَ كُلِّ الْمَخْلُوقَاتِ، وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى الْإِنْسَانِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ، وَهَذِهِ الْمَعِيَّةُ الْعَامَّةُ: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)[ق: 16].

 

ثَانِيًا: قُرْبٌ خَاصٌّ، وَهُوَ قُرْبُهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- مِنْ عَابِدِيهِ وَسَائِلِيهِ وَمُحِبِّيهِ، وَهُوَ قُرْبٌ يَقْتَضِي الْمَحَبَّةَ وَالنُّصْرَةَ، وَالتَّأْيِيدَ فِي الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ، وَالْإِجَابَةَ لِلدَّاعِينَ، وَالْقَبُولَ وَالْإِثَابَةَ لِلْعَابِدِينَ.

 

وَهُوَ قُرْبٌ لَا تُدْرَكُ لَهُ حَقِيقَةٌ، وَإِنَّمَا تُعْلَمُ آثَارُهُ؛ مَنْ لُطْفِهِ بِعَبْدِهِ، وَعِنَايَتِهِ بِهِ، وَتَوْفِيقِهِ وَتَسْدِيدِهِ؛ (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)[الْبَقَرَةِ: 186].

 

وَهُوَ الْقَرِيبُ وَقُرْبُهُ الْمُخْتَصُّ بِـ *** الدَّاعِي وَعَابِدِهِ عَلَى الْإِيمَانِ

 

صَحَّ عَنْهُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- أَنَّهُ قَالَ: "وَالَّذِي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَةِ أَحَدِكُمْ"(أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ).

 

يَسْمَعُ دَبِيبَ النَّمْلَةِ السَّوْدَاءِ عَلَى الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ.

 

وَاللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- قَرِيبٌ مِنْ أَوْلِيَائِهِ، حَافِظٌ عِبَادَهُ، يَكْلَؤُهُمْ بِرِعَايَتِهِ، وَيَحُوطُهُمْ بِعِنَايَتِهِ، وَيُنْزِلُ عَلَيْهِمْ غَيْثَ الرَّحْمَةِ، لَا يَدَعُهُمْ طَرْفَةَ عَيْنٍ، لَا يَكِلُهُمْ إِلَى أَنْفُسِهِمْ، وَلَا يُسَلِّطُ عَلَيْهِمْ أَعْدَاءَهُمْ، وَلَا يَجْعَلُ لِلشَّيْطَانِ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا؛ لِأَنَّهُمْ عِبَادُهُ الْمُخْلِصُونَ وَجُنْدُهُ الصَّادِقُونَ، قَدْ قَامُوا بِمَا افْتَرَضَهُ عَلَيْهِمْ، وَمَا زَالُوا يَتَرَقَّوْنَ فِي مَدَارِجِ الْكَمَالِ، وَيَصْعَدُونَ فِي سُلَّمِ التَّقْوَى، وَيَتَقَرَّبُونَ إِلَيْهِ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أَحَبَّهُمْ؛ فَلَمَّا أَحَبَّهُمْ كَانَتْ مَعِيَّتُهُ تُدِيرُ أَعْضَاءَهُمْ، إِذَا دَعَوْهُ أَجَابَهُمْ، وَإِذَا اسْتَنْصَرُوهُ نَصَرَهُمْ، وَإِذَا اسْتَغَاثُوا بِهِ أَغَاثَهُمْ.

 

أَتَوْا بِثَمَنِ الْمَعِيَّةِ الْخَاصَّةِ؛ فَكَانَ الْقُرْبُ وَالنَّصْرُ وَالتَّأْيِيدُ وَالْحِفْظُ؛ (وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ)[الْمَائِدَةِ: 12].

 

اطْمَأَنُّوا إِلَى رَبِّهِمْ وَحَسُنَ ظَنُّهُمْ بِهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-؛ فَكَانَ لَهُمْ فِي كُلِّ حِينٍ؛ فَهَذَا نُوحٌ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- بَعْدَ الْأَلْفِ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا مِنَ الدَّعْوَةِ وَالْبَلَاءِ وَالْعَنَاءِ دَعَا رَبَّهُ؛ فَلَبَّاهُ، وَنَجَّاهُ، وَأَهْلَكَ خُصُومَهُ.

 

وَهَذَا إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- اسْتَجَارَ بِرَبِّهِ؛ فَأَنْجَاهُ مِنَ النَّارِ.

 

وَنَجَّى يُونُسَ بْنَ مَتَّى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ، وَرَدَّ يُوسُفَ إِلَى يَعْقُوبَ وَجَمَعَ شَمْلَهُمْ، وَأَلَّفَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إِخْوَتِهِ، وَرَدَّ بَصَرَ يَعْقُوبَ إِلَيْهِ.

 

وَيُحِيطُ فِرْعَوْنُ بِمُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَمَنْ مَعَهُ؛ (فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ)[الشُّعَرَاءِ: 61-62]؛ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- مِنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ بِالْغَرَقِ؛ فَكَانُوا آيَةً لِلسَّائِلِينَ.

 

وَرَسُولُنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَعْصِفُ بِهِ مَوَاقِفُ تَشِيبُ مِنْهَا الرُّؤُوسُ، وَتَبْلُغُ فِيهَا الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ، وَظُنَّ بِاللَّهِ الظُّنُونُ مِنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ، فَيَتَضَرَّعُ إِلَى مَوْلَاهُ؛ فَيُنْجِزُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- الْوَعْدَ، وَيُحَقِّقُ الْمُرَادَ، وَيُعْلِي كَلِمَةَ الْحَقِّ، تَأْتِي امْرَأَةٌ تُجَادِلُ فِي زَوْجِهَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَعَائِشَةُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- فِي طَرَفِ الْبَيْتِ تَقُولُ: إِنَّهَا تَسْمَعُ كَلِمَةً وَتَغِيبُ عَنْهَا كَلِمَةٌ، وَبَعْدَ ذَلِكَ الْجَدَلِ يَنْزِلُ جِبْرِيلُ عَلَى الْحَبِيبِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِقَوْلِهِ: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ)[الْمُجَادَلَةِ: 1]؛ فَسُبْحَانَ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ الْأَصْوَاتَ كُلَّهَا، سَمِعَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الصَّحَابَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- وَهُمْ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِأَصْوَاتٍ جَهِيرَةٍ مُرْتَفِعَةٍ، فَقَالَ: "أَيُّهَا النَّاسُ! ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ؛ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا، وَلَكِنْ تَدْعُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا"(أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ).

 

وَاللَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَى مَا فِي نَفْسِكَ وَعَلَى خَوَاطِرِكَ، تَدْعُوهُ فِي قَلْبِكَ فَيَسْتَجِيبُ؛ إِنَّهُ الْقَرِيبُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: (إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا)[مَرْيَمَ: 3].

 

تَذْكُرُهُ فِي نَفْسِكَ فَيَسْمَعُكَ وَيَذْكُرُكَ؛ فَإِنَّهُ الْقَرِيبُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-.

 

وَفِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: "إِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ هُمْ خَيْرٌ مِنْهُمْ".

 

فَإِذَا عَلِمْتَ بِقُرْبِ اللَّهِ -جَلَّ وَعَلَا- مِنْكَ، وَأَنَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَى سَرِيرَتِكَ؛ يَسْمَعُ دُعَاءَكَ وَيَرَى مَكَانَكَ وَيَعْلَمُ مَا فِي قَلْبِكَ؛ فَكُنْ مِنَ الْمُحْسِنِينَ؛ (إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)[الْأَعْرَافِ: 56].

 

وَتَقَرَّبْ إِلَيْهِ، فَإِنْ تَقَرَّبْتَ مِنْهُ شِبْرًا تَقَرَّبَ إِلَيْكَ ذِرَاعًا؛ فَفِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: "وَمَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَمَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعَا، وَإِذَا أَقْبَلَ إِلَيَّ يَمْشِي أَقْبَلْتُ إِلَيْهِ أُهَرْوِلُ"(أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَاللَّفْظُ لَهُ).

 

وَالتَّقَرُّبُ إِلَيْهِ يَكُونُ بِالْفَرَائِضِ قَبْلَ النَّوَافِلِ؛ "وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ"(أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ).

 

وَكُلَّمَا كَمُلَ الْعَبْدُ فِي مَرَاتِبِ الْعُبُودِيَّةِ كَانَ أَقْرَبَ إِلَى اللَّهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وَكُلَّمَا تَذَلَّلَ لِلَّهِ وَانْطَرَحَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَمَرَّغَ أَنْفَهُ وَعَفَّرَ وَجْهَهُ لِرَبِّهِ وَمَحْبُوبِهِ؛ زَادَ قُرْبُهُ مِنْ رَبِّهِ، وَارْتَفَعَ شَأْنُهُ، صَحَّ عَنْهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: "أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ؛ فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ"(أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ).

 

فَالسُّجُودُ فِيهِ أَعْظَمُ دَلَائِلِ الْإِجْلَالِ، وَأَقْصَى دَرَجَاتِ الْعُبُودِيَّةِ، وَأَجَلُّ مَظَاهِرِ التَّذَلُّلِ، وَأَجْمَلُ رَسَائِلِ الْحُبِّ، وَأَعْذَبُ مَنَاظِرِ الْخُشُوعِ، وَأَفْضَلُ أَثْوَابِ الِافْتِقَارِ.

 

وَبِقَدْرِ سُجُودِكَ لِلَّهِ -جَلَّ وَعَلَا- تَكُونُ رِفْعَتُكَ عِنْدَ اللَّهِ، جَاءَ عَنْهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: "عَلَيْكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ لِلَّهِ، فَإِنَّكَ لَا تَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً إِلَّا رَفَعَكَ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً، وَحَطَّ عَنْكَ بِهَا خَطِيئَةً"(أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ).

 

وَهُنَا تَحْصُلُ عَلَى النَّعِيمِ الدَّائِمِ؛ (أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ)[الْوَاقِعَةِ: 11]، (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ)[الْمُطَفِّفِينَ: 28].

 

اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْهُمْ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.

 

أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمَدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

 

يَا عَبْدَ اللَّهِ: وَبَعْدَ أَنْ عَلِمْتَ أَنَّ رَبَّكَ قَرِيبٌ مِنْكَ، رَحِيمٌ بِكَ، أَلَا يَسْتَحِقُّ أَنْ تُحِبَّهُ وَتَسْتَحِيَ مِنْهُ، وَتَقُومَ بَيْنَ يَدَيْهِ رَاجِيًا مُسْتَغْفِرًا مُتَضَرِّعًا إِلَيْهِ، مُسْتَنْجِدًا بِهِ، طَالِبًا مِنْهُ الْفَرَجَ وَالسُّرُورَ وَالنَّعِيمَ الْمُقِيمَ؟! فَرَبُّكَ -عَزَّ وَجَلَّ- قَالَ: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ)[الْبَقَرَةِ: 186]، وَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ-: (إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ)[سَبَإِ: 50]، وَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ-: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ)[غَافِرٍ: 60]؛ فَبَابُ اللَّهِ مَفْتُوحٌ، وَعَطَاؤُهُ مَمْنُوحٌ، وَكَرَمُهُ عَظِيمٌ، وَجُودُهُ كَبِيرٌ؛ فَكَمْ مِنْ حَاجَةٍ قُضِيَتْ، وَمِنْ دَعْوَةٍ قُبِلَتْ، وَمِنْ بَرَكَةٍ نَزَلَتْ، وَرَحْمَةٍ غَشِيَتْ؟!

 

اللَّهُمَّ يَا قَرِيبُ يَا مُجِيبُ أَجِبْ دَعَوَاتِنَا، وَارْحَمْ ضَعْفَنَا، وَفَرِّجْ هَمَّنَا، وَأَحْسِنْ خَاتِمَتَنَا فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا؛ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.

 

اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ.

 

اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالسَّدَادَ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعِفَّةَ وَالْغِنَى، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ، وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ، وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ.

 

اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ مِنَ الْخَيْرِ كُلِّهِ؛ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْنَا مِنْهُ وَمَا لَمْ نَعْلَمْ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّرِّ كُلِّهِ؛ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْنَا مِنْهُ وَمَا لَمْ نَعْلَمْ، وَأَنْ تَجْعَلَ كُلَّ قَضَاءٍ قَضَيْتَهُ لَنَا خَيْرًا.

 

اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا الَّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا الَّتِي فِيهَا مَعَادُنَا، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَالْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ.

 

اللَّهُمَّ أَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا، وَأَلِّفْ بَيْنِ قُلُوبِنَا، وَاهْدِنَا سُبُلَ السَّلَامِ، وَأَخْرِجْنَا مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَبَارِكْ لَنَا فِي أَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُوَّاتِنَا، وَأَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّتِنَا وَأَمْوَالِنَا، وَاجْعَلْنَا مُبَارَكِينَ أَيْنَمَا كُنَّا.

 

وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

المشاهدات 382 | التعليقات 0