القرآن كما يجب أن يُفهم (2)

الشيخ محمّد الشّاذلي شلبي
1436/02/22 - 2014/12/14 21:20PM
القرآن كما يجب أن يُفهم (2)
الأيّام العشر و الأمم الطّاغية
سورة الفجر من السور التي تعالج شؤون العقيدة و الإيمان، و ما يتصّل بهما من الاعتقاد باليوم الآخر و البعث و النّشور، و الجزاء و الحساب، وهي تعنى بأمور رئيسيّة ثلاثة وهي:
أ – تذكر في أوّلها قصص بعض الأمم الطغاة، المفسدين في الأرض، المكذّبين لرسل الله تعالى، كقوم عاد، و ثمود، و فرعون الطّاغية و أعوانه، و بيان ما ألحق بهم الله عزّ و جلّ من العذاب و الدّمار، بسبب إجرامهم و طغيانهم و فسادهم، و في ذلك يقول تعالى: " و الفجرِ * و لَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَ الوَتْرِ * وَ اللَّيْلِ إذا يَسْرِ * هَلْ في ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ * أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ العِمَادِ ". ( سورة الفجر الآيات: 1/7 )..
ب – بيان سنّة الله تعالى في ابتلاء الخلق في هذه الحياة، بالخير و الشرّ، و الغنى و الفقر، و الصحّة و المرض، و غير ذلك من أنواع الابتلاء، و بيان طبيعة الإنسان الجاحد لفضل ربّه، المتنكّر للجميل و الإحسان، الذي يبخل بالمال و يضنّ به، و لا ينفق منه في سبيل الله، وهو جشع في حبّ المال، لا يقنع و لا يشبع منه، و في ذلك يقول تعالى: " فَأَمَّا الإِنْسَانُ إِذَا ما ابْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ و نَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليَتِيمَ * وَ لاَ تَحَآضُّونَ عَلَى طَعَامِ المِسْكِينِ * وَ تَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَّمًّا * وَ تُحِبُّونَ المَالَ حُبًّا جَمًّا ". ( سورة الفجر الآيات: 15 / 20 )..
ت – تتحدّث كذلك عن الآخرة و أهوالها و شدائدها، و ما يكون بين يديها من زلازل و نكبات، تنذر بانتهاء الحياة على سطح الأرض، و انقسام النّاس يوم القيامة إلى قسمين: سعداء و أشقياء، و بيان مآل النّفس الكافرة الشرّيرة، و مآل النّفس المؤمنة الخيّرة، مصداقا لقوله تبارك و تعالى: " كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * و جَآءَ رَبُّكَ وَ المَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَ جِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَ أَنَّى لَهُ الذِّكْرى * يَقُولُ يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي... ". ( سورة الفجر الآيات: 21/24 )..
إلى آخر السورة العظيمة التي تفيض بالعِبر و العظات، و تذكير العباد بهول يوم المعاد، ليستعدُّوا لذلك اليوم العصيب، بالعمل الصّالح الذي يُنْجِيهم من أهوال يوم القيامة..

هلاك الأمم الخالية و حتمية العذاب..
من أواكد الأحكام الشرعية الإلهية أنّ الثواب للمؤمنين حقّ و حتم، و العقاب للكافرين حقّ و حتم، إنصافا للخلائق، و احتراما للمبادئ، و مصداقية مع الشرائع.. و كان من فضل الله و رحمته أن أخبرنا عن أمثلة لعذاب الكفّار في الدّنيا، ليرتدع الفاجر و يؤمن الكافر..
ففي هذه السورة الكريمة، أقسم الله تبارك و تعالى بأربعة أقسام، لتأكيد الكلام، و التّنبيه على أهميّة المقسم عليه، و إعلاء شأنه، فأقسم بوقت الفجر أو الصّبح الذي بثبوته يظهر النّور، لبدء النّهار.. و بطلوع الفجر الصّادق يظهر ضياء الشّمس من جهة المشرق، إذ بانقضاء اللّيل، ينتشر النّاس و سائر المخلوقات، من الحيوانات، و الطّيور، و تتفتّح النّباتات، في طلب الرّزق.. و هذه الصّورة تشبه حالة نشور الموتى و خروجهم إلى ربّ العالمين.. فالنّوم موت.. و اليقظة حياة، و في ذلك يقول تقدّست أسماؤه: " وَهُوَ الّذي يَتَوَفَّاكُم باللّيْلِ وَ يَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّ ". ( سورة الأنعام من الآية: 60 )، و في ذلك عبرة عظيمة لأولي الألباب..
ثم أقسم باللّيالي العشر الأوائل من ذي الحجّة، و أقسم بالزوج و الفرد من تلك اللّيالي و من كلّ الأشياء، و باللّيل إذا جاء و أقبل، ثمّ ذهب و أدبر..
أليس في هذا القسم بهذه الأشياء العظيمة قسم كافٍ يقنع كلّ ذي عقل أو لبّ ؟.. و " الحجر ": هو العقل، و المعنى في قوله تعالى: " هل في ذلك قسمٌ لذي حجر ". ( سورة الفجر الآية: 5 )، أي فيزدجر ذو العقل، و ينذر في آيات الله سبحانه..
ثمّ ذكر الله تعالى مصارع الأمم الخالية الكافرة، و ما فعل بها من التعذيب و الإهلاك، لتوعّد قريش، و بيان الأمثال لها.. ألم تعلم يا إنسان، كيف أهلك الله قبيلة عاد الأولى، التي كانت تسكن في بلاد الأحقاف، و في جنوب شبه الجزيرة العربية، و التي لها اسم آخر: هو إرم، و كانت ذات مباني عالية، و هذا كناية عن الغنى و بسط العيش، و لم يخلق مثل تلك القبيلة في البلاد المختلفة، أي في زمانهم.. فكلمة إرم هي قبيلة عاد بعينها، كان نبيّها هودًا عليه السّلام..
ثمّ ألم تعلم أيّها القارئ، أيضا ما فعل الحقّ بقبيلة ثمود قوم صالح عليه السّلام، الذين قطعوا الصّخر و نحتوه، و بنوا بالأحجار بيوتا يسكنون فيها، و قصورا عظيمة، في الحجر: ما بين الشّام و الحجاز، أو وادي القرى..و ما فعل الله أيضا بالجبّار الطّاغي فرعون حاكم مصر في عهد موسى عليه السّلام، الذي كان صاحب المباني العظيمة، الثّوابت كالأوتاد المغروزة في الأرض، و منها الأهرامات التي بناها الفراعنة لتكون قبورا لهم، تشهد عبر الأزمنة و العصور على تقدّم حضارتهم..
هؤلاء الذين ذكرناهم و هم عاد و ثمود و فرعون، هم الذين تجاوزوا في بلادهم الحدّ في الظلم و الجور، و تمرّدوا و عتوا، و اغترّوا بقوّتهم، و أكثروا الفساد فيها بالكفر و المعاصي و الظلم..
فأنزل الله تعالى على تلك الجماعات بنحو متتابع، نوعا من العذاب الشديد، يشبه السّوط المؤلم الذي يستعمل في تطبيق العقاب.. و سبب العذاب: جرمهم، فإنّ الله يرصد و يراقب عمل كلّ إنسان، فلا يفوته شيء، حتى يجازيه عليه بالخير خيرًا، و بالشرّ شرًّا، و لا يهمل منه شيئًا مهما قلّ..
و تكرار قصص هذه الأمم المدمّرة للتذكير بها، و الاتّعاظ و الاعتبار بها..
المشاهدات 2053 | التعليقات 0