القرآن ربيع قلبي
إبراهيم بن سلطان العريفان
فاتَّقوا الله – عباد الله – حقَّ التقوى، وراقِبوه في السرِّ والنجوَى.
إخوة الإيمان والعقيدة ... ربُّنا سبحانه كاملٌ في ذاته وأسمائِه وصفاتِه، فصفاتُه أكملُ الصفات وأحسنُها، ومن صفاته سبحانه الكلام، يتكلَّم متى شاء، إذا شاء، بما شاء، ولا مُنتهى لكلماته ( قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا ).
كلامُه أحسنُ الكلام، وفضلُ كلامه على كلام الخلق كفضلِ الخالقِ على المخلُوق، وآلاؤُه سبحانه على العباد لا تُحصَى.
ومن حكمة الله ورحمته بالعباد أن بعثَ فيهم رُسُلَه وأنزل عليهم كُتُبَه، فأنزل التوراة والإنجيلَ والزَّبُور وصُحف إبراهيم وموسى، وختمَها بالقرآن العظيم أعظمها فضلاً وأشرفها قدرًا.
حمِدَ نفسَه سبحانه على إنزاله للقرآن فقال ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا ) وأقسمَ به فقال ( يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ ) ( وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ).
عباد الله ... القرآنُ كلامُ ربِّ العالمين تكلَّم به حقيقةً بحرفٍ وصوتٍ مسمُوعَين، منه بدأ وإليه يعودُ في آخر الزمان، سمِعَه جبريلُ عليه السلام خيرُ الملائكة من الله، ونزل به على خير الرُّسُل في أشرف البِقاع، وفي خير شهرٍ، وفي خير الليالي ليلة القدر، لخير أمةٍ بأفضل لغةٍ وأجمعها.
كتابٌ لا يعدِلُه كتاب ( أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ ) امتنَّ به سبحانه على هذه الأمة فقال ( لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ).
القرآن شرفٌ للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته ( وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ ) لو أنزلَه الله على جبلٍ لخشعَ وتصدَّع ذلاًّ لله وطاعة.
وهو في السماء في صُحف مُكرَّمة، مرفوعةٍ مُطهَّرةٍ، بأيدي سفَرَة – وهم الملائكةُ -، كرامٍ برَرة، حفِظَه الله قبل إنزاله، فقال ( بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ) وصانَه من الشياطين وقت نزوله ( وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ ) وتكفَّل بحفظِه بعد نزوله ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) قدَّمه الله في الذكر على كثيرٍ من نعمه، فقال ( الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ ) علَّم الله عبادَه القرآن ويسَّره لهم تلاوةً وعملاً وحفظًا، يحفظُه العربيُّ والعجميُّ، والصغيرُ والكبيرُ، والذكرُ والأنثى، والغنيُّ والفقيرُ (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ )
القرآن الكريم .. هو أحسنُ الحديث وأفضلُه ( اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ ) فهو أحسن من سائر الأحاديث المُنزَّلة من عند الله وغير المُنزَّلة. وصفَه الله بالعظمة فقال ( وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ) فيه هدايةُ الخلق، ومع الهداية فيه الرحمة ( هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) عصمةٌ من الضلال لمن تمسَّك به، قال ﷺ ( تركتُ فيكم ما لن تضلُّوا بعده إن اعتصمتُم به: كتاب الله ) عزيزٌ لا يُجارِيه في عزِّه شيء، ومن دنا منه نالَه العزُّ ( وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيز ) فيه الخير الكثير والبركة ( وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ ).
لما كانت خلافةُ عُثمان بن عفَّان – رضي الله عنه – امتدَّت الممالك الإسلامية إلى أقصى مشارِق الأرض ومغارِبِها، وذلك ببركة تلاوة القرآن ودراسته وجمعه الأمة على حفظ القرآن.
بالقرآن تجتمعُ كلمةُ الأمة وتزولُ خلافاتهم ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا )
القرآن موعظةٌ وتثبيتٌ للقلب عند الفتن والمصائِب والمصاعِب ( كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا )
ما سمِعَه عاقلٌ إلا شهِدَ أنه حقٌّ، سمِعته الجنُّ فقال بعضُهم لبعضٍ: أنصِتوا، وعادوا إلى قومهم ( قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَىٰ طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ )
القرآن خيرُ الذكر وأفضلُه، تلاوتُه تزيدُ في الإيمان ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا ).
آياتُه أبكَت العظماء؛ قرأ ابن مسعودٍ رضي الله عنه على رسول الله ﷺ من سورة النساء، فلما بلغَ قوله ( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا ) قال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ( حسبُك ) قال: فالتفتُّ فإذا عيناه تذرِفان.
فيه من الأنباء أصدقُها، ومن البراهين والدلائل أظهرُها، ومن القصص أحسنُها، ومن الحِكَم أبلغُها، ومن البلاغة والفصاحَة أجملُها.
حوى من العلوم أجمعها، ومن المعارِف أنفعها، وأهلُه العارِفون بمعانيه هم العلماء حقًّا ( بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ).
من عمل به أُجِر، ومن حكمَ به عدَل، ومن تمسَّك به عُصِم، ومن اتَّبعه رُحِم ( فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ).
اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وذهاب همومنا وغمومنا، وقائنا إلى جناتك جنات النعيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله رب العالين ...
معاشر المؤمنين ... إن خير الناس هو مُعلِّم القرآن ومُتعلِّمه، قال ﷺ ( خيرُكم من تعلَّم القرآن وعلَّمه ) فهو التجارةُ الرابحةُ المُضاعفَة، من قرأَ حرفًا منه فله به حسنة، والحسنةُ بعشر أمثالها.
وتعلُّم القرآن خيرٌ من الدنيا وما فيها، قال ﷺ ( أفلا يغدُو أحدُكم إلى المسجد فيعلَمُ» – أي: يتعلَّم – «أو يقرأُ آيتين من كتاب الله خيرٌ له من ناقتَين، وثلاثٌ خيرٌ له من ثلاث، وأربعٌ خيرٌ له من أربعٍ، ومن أعدادهن من الإبل ) الماهرُ بالقرآن مع السَّفَرة الكرام البرَرة.
مجالسُ القرآن ومواطِنُ تعلُّمه تتنزُّل السكينة والرحمة على مُعلِّميها والمُتعلِّمين ( وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) وقال ﷺ ( ما اجتمعَ قومٌ في بيتٍ من بيوت الله تعالى يتلُون كتابَ الله، ويتدارسُونه بينهم إلا نزلَت عليهم السكينة، وغشيَتهم الرحمةُ، وحفَّتهم الملائكةُ، وذكرَهم الله فيمن عنده ).
عباد الله ... التمسُّك بالقرآن وتلاوتُه هو وصيةُ النبي ﷺ للأمة. سُئل عبدُ بن أبي أوفَى رضي الله عنه عن وصيَّة رسول الله ﷺ !فقال: أوصَى بكتابِ الله. والمُرادُ بالوصيَّة بكتاب الله حفظُه حسًّا ومعنًى، فيُكرمُ ويُصانُ ويُتَّبعُ ما فيه، ويُداوَمُ على تلاوته وتعلُّمه وتعليمه.
حاملُ القرآن مُكرَمٌ في حياته وبعد مماته.
القرآن حُجَّةٌ لأهله يوم الدين وشافعٌ مُشفَّعٌ عند رب العالمين، قال ﷺ ( اقرؤوا القرآن فإنه يأتي شفيعًا لأصحابه ) ( يُقالُ لصاحب القرآن: اقرأ وارتِق ورتِّل كما كنت تُرتِّل في الدنيا، فإن منزلَك عند آخر آيةٍ تقرؤها ).
عباد الله ... إن من أفضل ما يستغل العبد وقته في انشغاله بالقرآن، ومن نعمة الله علينا وخاصة على أهل هذا الحي إقامة برنامج البيان في هذا الجامع، والذي يُعنى بدراسة القرآن تلاوة وحفظًا وتجويدًا وتدبرًا. والذي يبدأ بمشيئة الله غدًا بعد صلاة الفجر يوميًا لمدة ستة أساييع.
وإني أحث نفسي وإياكم بالتسجيل وتسجيل أبنائنا فهم خير متاع الدنيا، وإنَّ من أعظم ما يجب صرف الهمم إليه في تربية الأبناء: تعليمهم كتاب الله تعالى. ولنتذكر قوله ﷺ (مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَتَعَلَّمَهُ وَعَمِلَ بِهِ أُلْبِسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَاجًا مِنْ نُورٍ ضَوْءُهُ مِثْلُ ضَوْءِ الشَّمْسِ ، وَيُكْسَى وَالِدَيْهِ حُلَّتَانِ لا يَقُومُ بِهِمَا الدُّنْيَا فَيَقُولانِ : بِمَا كُسِينَا ؟ , فَيُقَالُ : بِأَخْذِ وَلَدِكُمَا الْقُرْآنَ ).
أيها المؤمنون ... فالفرحُ بالقرآن العظيم وتعليمه من أرفع مقامات الإيمان، ولا غِنى لأحدٍ عن كتاب الله. وأسعدُ الناس أقربُهم من كتاب الله، وهو شرفُ وسُؤدَدُ المُسلمين، ورُقيُّ وفخرُ الأجيال، وهو أمانٌ للمُجتمع وبركةٌ عليه، وفيه الأُنسُ والرِّفعةُ ورِضا رب العالمين.
أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، من اتبَع القرآنَ نالَه الهُدى، ومن أعرضَ عنه ضلَّ في الرَّدَى ( فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ) ولا طريقَ للهداية بدون القرآن، ومن حُجِب قلبُه عن الانتفاع به فلن يهتدِيَ بغيره ( فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ )
اللهم أعِزَّ الإسلام والمُسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمُشرِكين، ودمِّر أعداءَ الدين، واجعَل اللهم هذا البلدَ آمنًا مُطمئنًّا رخاءً، وسائرَ بلادِ المُسلمين. اللهم وفِّق إمامَنا لهُداك، واجعَل عملَه في رِضاك، ووفِّق جميعَ وُلاة أمور المُسلمين للعمل بكتابِك وتحكيم شرعِك يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم انصُر جُنودنا البواسل، اللهم ثبِّت أقدامهم، وسدِّد رميَهم، واجعلهم يا ربَّنا قوةً من قوتك يا ذا الجلال والإكرام.
عباد الله ... صلوا