القرآن جلالُ وإجلال
د عبدالعزيز التويجري
الخطبة الأولى: القرآن جلالُ وإجلال.. رمضان 14/ 9 /1443هـ
الحمد لله ولي المؤمنين (نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، من علينا فهدانا وأطعمنا وسقانا ، وأشهد أن محمداً عبدالله ورسوله صلَّى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه وزوجاته ومن تبعهم بإحسان إلى اليوم الدين.
أما بعد: فاتَّقوا الله – أيها المؤمنون - حقَّ التقوى، وراقِبوه في السرِّ والنجوَى.
ربُّنا سبحانه كاملٌ في ذاته وأسمائِه وصفاتِه، لا كُفؤ له ولا مثيل، وصفاتُه أكملُ الصفات وأحسنُها ، يتكلَّم متى شاء، إذا شاء، بما شاء، ولا مُنتهى لكلماته، (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا)
كلامُه أحسنُ الكلام، وفضلُ كلامه على كلام الخلق كفضلِ الخالقِ على المخلُوق.
القرآنُ كلامُ ربِّ العالمين تكلَّم به حقيقةً بحرفٍ وصوتٍ مسمُوعَين، منه بدأ وإليه يعودُ في آخر الزمان، سمِعَه جبريلُ - عليه السلام - خيرُ الملائكة من الله، ونزل به على خير الرُّسُل في أشرف البِقاع، وفي خير شهرٍ، وفي خير الليالي ليلة القدر، {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ}.
كتابٌ لا يعدِلُه كتاب، (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ) .
هو شرفٌ للنبي ولأمته، (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) .
هو أحسنُ الحديث وأفضلُه، (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) .
من ابتعدَ عنه كان حيًّا بلا حياة (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا) .
لو أنزلَه الله على جبلٍ لخشعَ وتصدَّع ذلاًّ لله وطاعة.
حفِظَه الله قبل إنزاله (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) .
وتكفَّل بحفظِه بعد نزوله (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)
قدَّمه الله في الذكر على كثيرٍ من نعمه (الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ)
علَّم الله عبادَه القرآن ويسَّره لهم تلاوةً وعملاً وحفظًا، يحفظُه العربيُّ والعجميُّ، والصغيرُ والكبيرُ، والذكرُ والأنثى، والغنيُّ والفقيرُ.
وصفَه الله بالعظمة: (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ)
وكتبَ الله له العلُوَّ في ذاته وقدره،: (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ)
كريمٌ عند الله ، فيه من المكارِم أعلاها، (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ)
فيه هدايةُ الخلق، ومع الهداية فيه الرحمة، (هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)
عصمةٌ من الضلال لمن تمسَّك به «تركتُ فيكم ما لن تضلُّوا بعده إن اعتصمتُم به: كتاب الله» (رواه مسلم).
مجيدٌ بالغٌ في الشرف أعلاه،: (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ)
عزيزٌ لا يُجارِيه في عزِّه شيء، ومن دنا منه نالَه العزُّ، (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ)
عالٍ لا يُدانَى، كثيرُ الخير والمنافِع، ووجوه البركة فيه، (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ)
كتابُ الله نورٌ لإبصار الدنيا والآخرة، (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ)
شفاءٌ لأمراض الأبدان؛ لدغَت عقربٌ رجلاً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقُرئَ عليه سورةُ الفاتحة فبرأَ . (أخرجه البخاري).
هو موعظةٌ وتثبيتٌ للقلب عند الفتن والمصائِب والمصاعِب،(كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ)
تلاوتُه تزيدُ في الإيمان (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا)
هو التجارةُ الرابحةُ المُضاعفَة، من قرأَ حرفًا منه فله حسنة، والحسنةُ بعشر أمثالها.
آياتُه أبكَت العظماء؛ قرأ ابن مسعودٍ على رسول الله سورة النساء، فبكى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وجعلت عيناه تذرِفان" .
كان أبو بكرٍ إذا قرأَ القرآنَ لا يكادُ يُسمِعُ من خلفَه من البكاء.
طاف عمر بالمدينة ليلة فسمع رجلاً يقرأ في بيته (إن عذاب ربك لواقع ماله من دافع فبكى عمر ورجع إلى بيته وعاده الناس أياماً .
وقرأَ جعفرُ الطيارُ على النجاشيِّ سورة مريم، فبكَى النجاشي حتى أخضلَ لحيتَه، وبكَى أساقِفتُه حتى أخضَلوا مصاحفَهم.
سمع جبير بن مطعم وهو مشرك آيات من سورة الطور فكاد قلبه ان يطير .
الصوت الحسن فيه هبة من الله .كان داود عليه السلام إذا قرا الزبور تقف الطيور على الجبال تستمع وتجاوبه {يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ}.
كان عليه الصلاة والسلام يأتي بيت أبي موسى الاشعري فيستمع لقراءته، ويقول: لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود »؛ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَكَانَ عُمَرُ إِذَا جَلَسَ عِنْدَهُ أَبُو مُوْسَى قَالَ لَهُ:«ذَكِّرْنَا يَا أَبَا مُوْسَى، فَيَقْرَأُ».
ومُعلِّم القرآن ومُتعلِّمه هم خيرُ الناس،«خيرُكم من تعلَّم القرآن وعلَّمه».
لم ينقطع الصحابة عن تعليم القرآن حتى بعد أن تقلدوا المناصب..وَلَّى عُمَرُ، أبا موسى الأشعري إِمْرَةَ الْبَصْرَةِ؛ فَأَسَّسَ فِيهَا حَلَقَاتِ تَحْفِيظِ الْقُرْآنِ، وَكَانَ يُقْرِئُ النَّاسَ بِنَفْسِهِ وَهُوَ الْأَمِيرُ.. قَالَ أَنَسٌ بَعَثَنِي أبو موسى الأَشْعَرِيُّ إِلَى عُمَرَ، فَقَالَ لِي عمر: كَيْفَ تَرَكْتَ الأَشْعَرِيَّ؟ قُلْتُ: تَرَكْتُهُ يُعَلِّمُ النَّاسَ القُرْآنَ».
مَكَثَ ابْنُ مَسْعُودٍ لِإِقْرَاءِ النَّاسِ القُرْآنَ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ سَنَةً.
يا أيها الناس جميعا عايشوا القرآن في بيوتكم، يملأ الله بيوتكم رحمة وبركة وهداية ونوراً، ويملأ صدوركم إيماناً، ويقيناً، وخيراً وبراً، ويملأ مسيرتكم إشراقاً وفلاحاً ونجاحاً..
استغفر الله لي ولكم وللمسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفِروه، إني ربي رحيم ودود.
الخطبة الثانية .. الحمدلله ولي المؤمنين والصلاة والسلام على إمام المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد ..
إن للقرآن لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو ولا يعلى عليه. {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}
القرآن عزيز ،لا ينال حفظه وضبطه إلا من بذل الغالي من وقته ، وضحى بعمره.
من حفظ القرآن فقد استدرج النبوة بين جنبيه غير أنه لا يُوحى إليه.
لا حسد في الدنيا ولا في مناصبها ولا في أموالها، إلا في تعلم القرآن وتلاوته آناء الليل وأطراف النهار «أَفَلَا يَغْدُو أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَيَعْلَمُ، أَوْ يَقْرَأُ آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِ اللهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ نَاقَتَيْنِ، وَثَلَاثٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ ثَلَاثٍ، وَأَرْبَعٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَرْبَعٍ، وَمِنْ أَعْدَادِهِنَّ مِنَ الْإِبِلِ»، «والماهرُ بالقرآن مع السَّفَرة الكرام البرَرة».
مجالسُ القرآن وحلق القرآن ومواطِنُ تعلُّمه مظانُّ تنزُّل السكينة والرحمة على مُعلِّميها والمُتعلِّمين اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ، يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمِ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ».
حاملُ القرآن مُكرَمٌ في حياته وبعد مماته؛ ففي الحياة «يؤمُّ القومَ أقرأُهم لكتاب الله».
وبعد الوفاة: كان عليه الصلاة والسلام يجمعُ بين الرجُلَين من شُهداء أُحُد، ويسألُ: «أيُّهم أكثرُ أخذًا للقرآن»، فيُقدِّمُه في اللَّحد. (رواه البخاري).
وأهلُ القرآن خيرُ جليسٍ للمرء، "كان القُراء أصحاب مجالس عُمر ومُشاورته"
أسعدُ الناسِ أقربُهم من كتاب الله، وهو شرفُ وسُؤدَدُ المُسلمين، ورُقيُّ وفخرُ الأجيال، وهو أمانٌ للمُجتمع وبركةٌ عليه، وفيه الأُنسُ والرِّفعةُ ورِضا رب العالمين.
وفي المقابل .. الاعراض عن القران وعدم تحكيمه في ميادين الحياة نكسة للأمة وتضييع لمواردها وضيق في معيشتها {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} وتنحيةُ مبادئهِ وأخلاقهِ وقيمهِ تُسَيرُ الأجيال كالأنعام، لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا..
ضل الذي يهجر القرآن مجتديا ** منهاجه بغرور من أعادينا
لسنا نريد دساتيرا مرقعـــــــــــــــة ** فشرعة الله تكفينا وترضينا
آياته بالهدى والعدل قد نطقت ** تضفي على الحق إيضاحًا وتبيينا
لا يُنالُ الأمنُ والرخاء، ولايعز شأن الأمة، ولا يرفع اقتصادها ويهذب أخلاقها إلا القرآن تلاوةً وعمل به وتحكيمًا ونشْرا. قال ابن كثيرٍ - رحمه الله -: "لما كانت خلافةُ عُثمان بن عفَّان رضي الله عنه امتدَّت الممالك الإسلامية إلى أقصى مشارِق الأرض ومغارِبِها، وكثُرت خيراتها، وذلك ببركة تلاوته ودراسته وجمعه الأمة على حفظ القرآن".. هذا هو عزنا ومجدنا فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله .
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ للمؤمنين) ..
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك ..
المرفقات
1649964956_القرآن جلالُ وإجلال.pdf
1649964993_القرآنُ جلالُ وإجلال.doc