القرآن، المعجزة الخالدة
مركز حصين للدراسات والبحوث
عناصر الخطبة
1- إقرار المشركين بإعجاز القرآن. 2- القرآن آية النبي ﷺ العظمى. 3– أوجه إعجاز القرآن.
الحمدُ للهِ الرَّحيمِ الرّحمنِ، علَّمَ القرآنَ، وأنزلَ الفرقانَ، وجعلهُ هُدًى للإنسِ والجانِّ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ، صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا.
أمَّا بعدُ، فاتَّقوا اللهَ عبادَ اللهِ حقَّ التَّقوىٰ، وراقبوهُ في السِّرِّ والنَّجوىٰ، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾.
عباد الله:
في ذاتِ يومٍ جاءَ الوليدُ بنُ المغيرةِ -أحدُ أكابرِ صناديدِ الكفرِ في مكّةَ- إلى النبيِّ ﷺ، فقرأَ عليهِ ﷺ القرآنَ، فكأنَّهُ رقَّ لهُ، فكلَّمهُ أبو جهلٍ ليَطعنَ في القرآنِ، إلَّا أنَّ اللهَ أنطقَهُ بما يكتمونَ فقال: "وَمَاذَا أَقُولُ؟ فَوَاللهِ مَا فِيكُمْ رَجُلٌ أَعْلَمُ بِالْأَشْعَارِ مِنِّي، وَلَا أَعْلَمُ بِرَجَزِهِ وَلَا بِقَصِيدَتِهِ مِنِّي، وَلَا بِأَشْعَارِ الْجِنِّ. وَاللهِ مَا يُشْبِهُ الَّذِي يَقُولُ شَيْئًا مِنْ هَذَا، وَوَاللهِ، إِنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي يَقُولُ حَلَاوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً، وَإِنَّهُ لَمُثْمِرٌ أَعْلَاهُ، مُغْدِقٌ أَسْفَلُهُ، وَإِنَّهُ لَيَعْلُو وَمَا يُعْلَى، وَإنَّهُ لَيَحْطِمُ مَا تَحْتَهُ". رواه الحاكم([1]).
تمامًا كما قالَ أبو الوليدِ عتبةُ بنُ ربيعةَ لقريشَ، عندما سمعَ القرآنَ فقال: "قَدْ سَمِعْتُ قَوْلًا مَا سَمِعْتُ بِمِثْلِهِ قَطُّ، وَاللَّهِ مَا هُوَ بِالشِّعْرِ وَلَا بِالسِّحْرِ وَلَا بِالكِهَانَةِ، فَوَاللَّهِ لَيَكُونَنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِى سَمِعْتُ نَبَأٌ". رواه البيهقي([2]).
وهيَ الكلمةُ نفسُها التي قالَها جعفرُ بنُ أبي طالبٍ للنجاشيِّ، واصفًا الرسولَ ﷺ، قالَ: «وَتَلَا عَلَيْنَا تَنْزِيلًا لَا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ غَيْرُهُ فَصَدَّقْنَاهُ، وَآمَنَّا بِهِ، وَعَرَفْنَا أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ هُوَ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ». رواه إسحاق بن راهويه([3]).
القرآنُ كلامُ اللهِ، الآيةُ الخالدةُ، والحجَّةُ الدامغةُ للنبيِّ ﷺ، أعظمُ كلامِ اللهِ ذي الجلالِ والكمالِ، واللهُ سبحانَهُ ليسَ كمثلِهِ شيءٌ، كذلكَ كلامُهُ لا يُماثلُهُ كلامُ خلقِهِ، فهو كلامٌ يحملُ صفاتِ الكمالِ والجلالِ والعظمةِ، لا نَقصَ فيهِ ولا عِوَجَ، الحقُّ البيِّنُ، لا يأتيهِ الباطلُ من بينِ يديهِ ولا من خلفِهِ.
إنَّ اللهَ تعالىٰ ما أرسلَ رسولًا إلَّا وأيَّدَهُ بالآياتِ البيِّناتِ للدَّلالةِ علىٰ صدقِهِ ونُبوّتِهِ، كما قال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ﴾ [الحديد: 25].
أمَّا خاتَمُ النبيِّينَ محمدٌ ﷺ فقدْ آتاهُ اللهُ أعظمَ الآياتِ الباهرةِ، آيةً خالدةً باقيةً؛ القرآنَ العظيمَ.
قَالَ ﷺ: «مَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلَّا أُعْطِيَ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ البَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ القِيَامَةِ». رواه البخاري ومسلم([4]).
القرآنُ الكريمُ كتابٌ معجِزٌ، تحدَّى اللهُ بهِ الإنسَ والجنَّ أنْ يأتوا بمثلِهِ، أو يأتوا بعشرِ سورٍ مثلِهِ، بلْ أنْ يأتوا بسورةٍ منْ مثلِهِ، فلمْ يقدِروا، ولنْ يقدِروا، ولا يَزالُ التحدِّي قائمًا إلىٰ يومِ القيامةِ.
قال سبحانه: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ [الإسراء: 88].
لماذا كانَ القرآنُ معجِزًا؟ وكيفَ عجزَ العربُ، أساطينُ البلاغةِ والفصاحةِ عنْ أنْ يأتوا بسورةٍ منْ مثلِهِ؟
النبيُّ ﷺ رجلٌ منْ أحسنِ العربِ نسَبًا وخُلقًا، وأصدقِهم لَهْجةً، وأعظمِهم أمانةً، إلَّا أنَّهُ أمِّيٌّ لا يقرأُ ولا يكتبُ، لا يُعرَفُ لهُ مُعلِّمٌ قطُّ، كما وصفَهُ اللهُ فقال: ﴿وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾ [العنكبوت: 48].
لكنّه خرَجَ يتلُو على النّاسِ كتابًا في أعلىٰ درجاتِ البيانِ، وفُرقانًا بينَ الحقِّ والباطلِ، يُخبِرُهم أنَّهُ كلامُ اللهِ، يتحدَّىٰ بهِ الإنسَ والجنَّ، ويُعلنُ أنَّهُ رسولُ اللهِ للعالمينَ، فكانَ على المكذِّبين كالصواعقِ المُرسَلةِ، يقِفونَ أمامَ آياتِهِ خاضعينَ، مُقرِّينَ أنَّهُ معجزةٌ قاهرةٌ، وأنَّهُ لا شيءَ ممَّا يعرفونَ يُشبِهُ القرآنَ، لا في لفظِهِ ولا في معناهُ.
إنَّ القرآنَ معجزٌ في ألفاظِهِ ونظمِهِ، معجزٌ في معانيهِ، معجزٌ في صِدقِ أخبارِهِ، معجزٌ في إحكامِ تشريعاتِهِ.
أمَّا إعجازُهُ في لفظِهِ ونظمِهِ، فإنَّهُ بلسانٍ عربيٍّ مُبينٍ، جاءتْ كلماتُهُ في غايةِ الفصاحةِ والبيانِ، لا يُعرَفُ مثلُهُ قبلَهُ، ليسَ شعرًا ولا نثرًا، شيءٌ آخرُ، الكلمةُ الواحدةُ فيهِ تجمعُ بينَ العذوبةِ والجزالةِ، والفصاحةِ والبلاغةِ، ثمَّ تنتظمُ بجوارِ أُختِها مثلَها، كالعِقدِ المنظومِ دُرًّا وياقوتًا.
يسمعُ ذاكَ الأعرابيُّ قولَ الله: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الحجر: 94]، فيخِرُّ ساجِدًا قائلًا: "سَجَدتُ؛ لفصاحته!".
حدِّثني بربِّكَ عمَّا أحدثتْهُ تلكَ الآيةُ البَليغةُ في قلبِكَ، إذ يقول سبحانه: ﴿وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [هود: 44].
بلغَ القرآنُ الكمالَ، من أوَّلِهِ لآخرِهِ، فلا تجدُ فيهِ عِيًّا أو قُصورًا أو خَللًا أو استدراكًا، كما قال سبحانه: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ [النساء: 82].
وأمَّا إعجازُهُ في معناهُ، فهوَ أعظمُ الإعجازِ وأبينُهُ، فَلَقدْ جمعَ القرآنُ منَ المعاني الشريفةِ ما لا يمكنُ لإنسانٍ أنْ يَعرِفَ عُشْرَها إلَّا بوحيٍ منَ اللهِ، فإنَّهُ حديثٌ جليلٌ عنِ اللهِ وأسمائِهِ وصفاتِهِ، عنِ الإلهِ الحقِّ والبراهينِ الدالَّةِ عليهِ، عنِ البعثِ بعدَ الموتِ ومَشاهدِ الآخرةِ كأنَّها رأيُ العينِ، عنِ الملائكةِ والنبيِّينَ، عنِ الكونِ الفسيحِ وآياتِهِ الباهرةِ في الآفاقِ، عنِ الإنسانِ، وخلقِهِ والغايةِ منْ وجودِهِ، عنِ المنهجِ الذي بهِ صَلاحُ الإنسانِ وطِيبُ حياتِهِ، وعنْ أولئكَ الذينَ اهتدوا وزادَهُم هدىً، وأولئكَ الذينَ ضلُّوا واتَّبعوا الهوىٰ، كلُّ ذلك في حديثٍ حقّ، لا تعارُضَ فيهِ ولا تناقُضَ، وفي خبرِ صدقٍ يوافقُ الفِطَرَ السليمةَ، التي عرفَتِ اللهَ بكمالِهِ وجمالِهِ، وما يستحقّه من التَّسلِيمِ لَهُ وإجلالِه.
وأمَّا إعجازُهُ في أخبارِهِ، فإنَّهُ يُخبِرُ عنِ الغيبِ الماضي خبرًَا صادقًا، ويُفصِّلُ الأحداثَ كأنَّ النبيَّ ﷺ عاصرَها.
أنَّىٰ لرجلٍ أُمِّيٍّ لا يقرأُ ولا يكتبُ أنْ يُحدِّثَ الناسَ عنْ نوحٍ والطُّوفانِ، وعادٍ والطُّغيانِ، وثمودَ وقومِ شعيبٍ وقومِ لوطٍ؟ عنْ أصحابِ الكهفِ وذي القرنينِ، وطالوتَ وجالوتَ، ويُفصِّلَ ذلكَ بخبرٍ لا يأتي ما ينقضُهُ أبدَ الدَّهرِ، بل يأتي كلّ وقتٍ ما يؤكّده ويصدّقُه من آثَارِ الأمَم البائدَة وتراثِهم؟
يُخبِرُ عنْ يوسفَ وإخوَتِهِ، حديثَ عَجَبٍ لا يعلمُهُ إلَّا عالمُ الغَيبِ والشهادةِ، الذي قال: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ﴾ [يوسف: 102].
يُخبِرُ عنْ موسىٰ وفرعونَ وبني إسرائيلَ وما جرىٰ لهم، فكيفَ يعلمُ رسولُ اللهِ ﷺ ذلكَ كلَّهُ، وهوَ لا يعرِفُ الكِتَابَ العِبرانيَّ ولا أخذَ عن أهلِه، إلَّا بوحيِ اللهِ لهُ، القائل: ﴿وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ * وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ [القصص: 44-46].
ومنْ أعظمِ إعجازِهِ في أخبارِهِ: حديثُهُ عنِ الوقائعِ في المستقبلِ القريبِ، وهوَ يعلمُ أنَّهُم يُكذِّبونَهُ، فيتلو عليهمُ الآياتِ التي تُخبِرُ بغلبةِ الرومِ في بضعِ سنينَ، إذ يقول: ﴿غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [الروم: 2-4]، ويقعُ التحدِّي، ويكونُ الأمرُ كما أخبرَ.
يُخبِرُهُمُ القرآنُ أنَّ أبا لَهَبٍ ﴿سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ﴾ [المسد: 3]، وهذا يعني أنَّهُ سيموتُ كافرًا، فلا يَنهَضُ أبو لهَبٍ –ولو خِداعًا– ليُكذِّبَ القرآنَ بادِّعائِهِ الإيمانِ، بلْ يموتُ كافرًا مدحورًا.
ومنْ إعجازِهِ في أخبارِهِ كذلكَ ما أخبرَ بهِ عنْ حقائقَ علميَّةٍ غايةٍ في الدِّقَّةِ والبيانِ، اكتشفَها العلماءُ حديثًا، فإذا هي كما أخبرَ القرآنُ.
استمِعْ إليهِ يُنْبِئْكَ بعلمٍ، عنْ مراحلِ تخليقِ الجنينِ، فيقول: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ [المؤمنون: 12-14].
ثمّ جاءَ علمُ الأجنّة، ليصدّق هذا الوصفَ الدقيق لتلك المراحل، التي لم تكن معروفةً في ذلك الزمان، فَأنَّىٰ لرسولِ اللهِ ﷺ آنذاكَ أنْ يعلمَ بهذا البيانِ والتفصيلِ من نفسِهِ؟!
تراهُ يُخبِرُ بما صدَّقهُ العلمُ أخيرًا أنَّ ماءَ النهرِ العَذْبِ الفراتِ لا يختلطُ بماءِ البحرِ الـمِلحِ الأُجاج، فيقول: ﴿وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا﴾ [الفرقان: 53].
إنَّ ذلكَ مما يَصدُقُ عليه قولُه تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ [فصلت: 53].
وأمَّا إعجازُهُ في تشريعاتِهِ، فإنَّهُ كتابُ حياةٍ، أنزلَهُ اللهُ منهجًا حاكمًا، فَـبِهِ -وحَسبُ- صلاحُ الدينِ والدنيا، يشمَلُ كلَّ مجالاتِ الحياةِ، عنوانُه: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ [الإسراء: 9].
ترىٰ فيهِ العباداتِ والمعاملاتِ، آياتٍ عنِ البيعِ والشراءِ، والإجارةِ والرهنِ، يُحرِّمُ الرِّبا والميسِرَ، وينهىٰ عنِ الفسادِ والتطفيفِ في الميزانِ، يُنظِّمُ الحياةَ الاجتماعيَّةَ، يُؤسِّسُ أحكامَ الزواجِ والطَّلاقِ والنفقاتِ، بلْ حتىٰ رَضاعَ الطِّفلِ يحكمُ فيهِ بآياتٍ بيِّناتٍ.
يضعُ أصولَ الحُكمِ والسياسةِ والقضاءِ، بعدلٍ وحِكمةٍ ورَحمةٍ، واعِدًا مَن امتثلَ حُكمَهُ بالبركاتِ والخيراتِ، ثمَّ تمضي الأيامُ والسِّنونَ، فيمتثلُ المسلمونَ حُكمَ القرآنِ وتشريعاتِهِ، فيرفعُ اللهُ شأنَهُمْ، ويجعلُهُمْ سادةَ الدُّنيا كما وعدَ، ثمَّ تدورُ الأيامُ، فتُنَحَّىٰ كثيرٌ منْ تشريعَاتِهِ عنِ الحياةِ، فلا يجني الناسُ إلَّا الضَّنْكَ والهوانَ، أليسَ هذا تصديقَ وَعدِ اللهِ ووعيدِهِ في القرآنِ، إذ يقول: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾ [طه: 123-124].
باركَ اللهُ لي ولكُم في القرآنِ العظيمِ، ونَفَعني وإيّاكم بما فيهِ من الآياتِ والذِّكرِ الحكيمِ، وأَستغفرُ اللهَ لي ولكُم فاستغفِروهُ، إنَّه هو الغَفورُ الرّحيمُ.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على رَسُولِ الله، وعلى آلِهِ وصَحبِهِ ومَن والاهُ، وبعد:
فَهلْ سمعتمْ عنْ هيبةِ القرآنِ وسَطوتِهِ؟ تاللهِ، إنَّ ذلكَ لَمِنْ إعجازِهِ وبُرهانِهِ!
وكأنِّي بالنبيِّ ﷺ يتلو آياتٍ من سورةِ الطّور، فيسمعُها جُبيرُ بنُ مطعِمٍ -وكانَ كافرًا يومئذٍ- فيدخُلُ الإيمانُ قلبَهُ بلا استِئذانٍ، وهو يَقُولِ مَبهُورًا: «كَادَ قَلْبِي أَنْ يَطِيرَ». رواه البخاري([5]).
آياتُهُ التي صَدَعتْ قلوبَ الصادقينَ منْ أهلِ الكتابِ، فخرُّوا عندَ سماعِها ساجدينَ باكينَ خاضعينَ، كما قال سبحانَه: ﴿إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا﴾ [الإسراء: 107-109].
وكأنّكَ بالصديق أبي بكرٍ -رضيَ اللهُ عنه- وقد ابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ، يُصَلِّي فِيهِ وَيَقْرَأُ القُرْآنَ، فَيَقِفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ المُشْرِكِينَ وَأَبْنَاؤُهُمْ، يَعْجَبُونَ مِنْهُ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، فَأَفْزَعَ ذَلِكَ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ مِنَ المُشْرِكِينَ. رواه البخاري([6]).
إنَّهُ الإعجازُ في ألفاظِهِ ومعانيهِ، في أخبارِهِ وأحكامِهِ وتشريعاتِهِ، في حديثِهِ عنِ الغيبِ، في تلكَ الحقائقِ العِلميَّةِ التي تُصدِّقُهُ يومًا بعدَ يومٍ، وما يجحَدُ بهِ إلَّا الظالمونَ.
تسمعُ الآياتِ فتوقنُ حينها بقَولِه سبحانه: ﴿وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [يونس: 37].
اللهمَّ اجعلِ القرآنَ ربيعَ قلوبِنا، ونورَ صدورِنا، وجِلاءَ أحزانِنا، وذهابَ همومِنا، اللهمَّ اجعلْنا مِمَّن عظّم القرآن حقَّ تعظيمه، وأقامَ حروفَهُ، وتدبَّرَ معانيَهُ، وحفِظَ حدودَهُ، وعمِلَ بهِ، وتلاهُ حقَّ تلاوتِهِ.
اللهمَّ بارِكْ لنا في رمضانَ، وأعنَّا فيهِ على الصَّلاةِ والصِّيامِ وتلاوةِ القرآنِ، وتقبَّلْه منَّا يا رَحمانُ.
اللَّهُمَّ انصُرِ الإسلامَ وأعِزَّ المسلمينَ، وأهْلِكِ اليهودَ المجرمينَ، اللَّهُمَّ وأنزِلِ السَّكينةَ في قلوبِ المجاهدينَ في سبيلِكَ، ونَجِّ عبادَكَ المستضعَفينَ، وارفعْ رايةَ الدِّينِ، بقُوَّتِكَ يا قويُّ يا متينُ.
اللّهُمَّ آمِنَّا في أوطانِنا، وأصلِحْ أئمَّتَنا ووُلاةَ أمورِنا، واجعل وِلايتَنا فيمن خافَكَ واتّقاكَ واتّبعَ رِضاك.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
([1]) المستدرك (3929)، وصححه الألباني في صحيح السيرة النبوية (ص159).
([2]) الاعتقاد للبيهقي (ص267)، وحسنه الألباني في تعليقه على فقه السيرة (ص 84).
([3]) مسند إسحاق بن راهويه (1835)، من حديث أم سلمة رضي الله عنها، وحسنه ابن حجر في فتح الباري (13/353).
([4]) صحيح البخاري (4981)، وصحيح مسلم (152)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
([5]) صحيح البخاري (4854)، من حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه.
([6]) صحيح البخاري (476)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
المرفقات
1742439198_القرآن، المعجزة الخالدة A5.docx
1742439199_القرآن، المعجزة الخالدة.docx
1742439199_القرآن، المعجزة الخالدة.pdf
1742439199_القرآن، المعجزة الخالدة A5.pdf