القُرآنُ العَظِيم
راكان المغربي
الخطبة الأولى:
أما بعد:
في ليلة من ليالي الزمان، وبينما كانت تقبع أمم الأرض في أوحال الشر، وظلمات الغواية. وحينما كانت البشرية تشكو الظلمَ المستطير، والخواءَ الروحي، والسقوطَ الأخلاقي؛ إذ بنور يلوح في الأفق، يضيء أصقاعَ العالم، ويبدد ظلماتِ الشرور.
نورٌ لا يخرج من أرض الحضارات، ولا ينطلقُ من عواصم الامبراطوريات، وإنما يخرج من غارٍ في جبل حراءِ القابعِ في صحراء العرب القاحلة.
نورٌ تتوهجُ به الأرض لتبصرَ به البشريةُ بزوغَ الفجر بعد الظلام، ونورَ الهدى بعد الضلال (قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ).
نزل القرآنُ على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، فغدا العالمُ بعد ذلك شيئا آخر.
نزول القرآن كان حدثا فارقا في الكون، حدثٌ غير مجرى التاريخ، وأعاد تشكيلَ جغرافيةِ الأرض، وبدل في موازينِ القوى العالمية، وقبل ذلك كله قامت به القواعدُ الراسخة لتصحيح القيم والمفاهيم والأفكار.
تلك هي عظمة القرآن! وتلك هي عظمة كلام الله!
عظمة القرآن تتجلى في أنه هو المعجزة الخارقة التي أويتها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. فأبهرت آياتُه العالم، وخالطت ذكراه شغافَ القلوب، ولامست توجيهاتُه الفطرةَ البشرية، فأذعنت لدعوة القرآن الوفود، ودخل الناسُ في دين الله أفواجا. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما مِنَ الأنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلَّا أُعْطِيَ مِنَ الآيَاتِ ما مِثْلُهُ آمَنَ عليه البَشَرُ، وإنَّما كانَ الذي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ، فأرْجُو أَنِّي أَكْثَرُهُمْ تَابِعًا يَومَ القِيَامَةِ).
تحدى اللهُ الجن والإنس أن يأتوا بمثل بيانه وفصاحته فعجزوا، ثم تحداهم أن يأتوا بعشر سورٍ مثله فعجزوا، ثم تحداهم أن يأتوا بسورة من مثله فلم يفعلوا ولن يفعلوا، فقطع بذلك كل ريب، ومحق كل شك.
سمع العرب القرآن وهم أهل البيان، فلمسوا فيه من البلاغة منتهاها، ومن الفصاحة أعلاها.
يسمع زعيم الكفر الوليد بن المغيرة آياتٍ من القرآن، فما يملك إلا أن يهتز قلبُه، ويقشعرَّ جسدُه ثم يعلنُها صريحة: "والله لقد سمعت من محمد آنفاً كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمُغْدِق، وإنه ليعلو ولا يُعلى عليه".
يقرأ النبيُّ صلى الله عليه وسلم سورةَ النجمِ في مكة، فيَسكنُ المكان بسكينة كلام الله، وتخضع صناديد مكة لسطوة القرآن، ولا تسمع في ذلك الموقف، إلا صوتَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم وهو يشدو بالقرآن، يترنم بآياته، ويقرع بمواعظه، حتى إذا وصل إلى نهاية السورة عند قول الله تعالى: (أَفَمِنْ هَٰذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا ۩ (62))
فـ"سَجَدَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وسَجَدَ معهُ المُسْلِمُونَ والمُشْرِكُونَ والجِنُّ والإِنْسُ".
عباد الله
عظمة القرآن تتجلى أيضا في أنه هو هدى الله الذي أنزله على البشر، ولا هدى إلا هدى الله. في القرآن يجد البشر الدلالةَ على طريق السعادة، بالقرآن وحده يُنقَذُ الناس من الحيرة الدائمة، بالقرآن وحده يُجابُ عن تساؤلات الإنسان المؤرّقة عن معنى الحياة وغاية الوجود.
فمن أنصت إلى القرآن واتبع هداه فقد سعد ونجى، ومن أعرض عنه فقد شقي وهلك في أودية الدنيا المظلمة (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ)
ومن اطلع على أحوال المسلمين الجدد، وسمع أخبارهم، وشاهد مقابلاتِهم، سيجد أن جلَّهم كان القرآنُ هو سببَ هدايتهم، وطريقَ سعادتهم، والمخرجَ من ظلماتٍ كانوا فيها غارقين، وضلالاتٍ كانوا فيها تائهين.
اسمع ماذا تقول "هوني" واصفةً أول لقاءاتِها بالقرآن: "لن أستطيع مهما حاولت، أن أصف الأثر الذي تركه القرآن في قلبي، فلم أكد أنتهي من قراءة السورة الثالثة من القرآن حتى وجدتَّني ساجدةً لخالق هذا الكون، فكانت هذه أولَ صلاة لي في الإسلام"
عباد الله
وعظمة القرآن تتجلى في كونه هو طريقُ النجاة، في زمن تراكمت فيه الفتن، والتبس فيه الحق بالباطل. القرآن هو حبل الله الممدود من تشبّث به، لم تضرَّه رياح الشهوات، ولن تهزَّه عواصف الشبهات، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنَّ هذا القرآنَ سببٌ طرفُه بيدِ اللهِ ، و طرفُه بأيديكم ، فتمسَّكوا به ؛ فإنكم لن تضِلُّوا ولن تهلِكوا بعده أبدًا)
يقول الصحابي الخبير بالفتن حذيفة رضي الله عنه: "كان الناسُ يسألونَ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن الخيرِ، وكنتُ أسألُه عن الشرِّ. قال: قلتُ: يا رسولَ اللهِ، هل بعدَ هذا الخيرِ شرٌّ؟ قال: (يا حُذَيفةُ، تعلَّمْ كتابَ اللهِ، واتَّبِعْ ما فيه. تعلَّمْ كتابَ اللهِ، واتَّبِعْ ما فيه. تعلَّمْ كتابَ اللهِ، واتَّبِعْ ما فيه).
فمن كان يخافُ على نفسه أو على أبنائه، فالقرآنُ هو المعتصم، القرآنُ هو النجاة، القرآنُ هو الملجأ.
عباد الله
لا تعجبوا من ثباتِ الإسلام رغم عِظَمِ المكر، ولا تستغربوا قوةَ انتشارِه رغم كِبَرِ الكيد، فإن سرَّ قوةَ الإسلام، وسببَ رسوخه، تكمن في هذا القرآن العظيم. فما دام هذا القرآن موجودا، فسُتَفجِّرُ ينابيعُه كلَّ أنهارِ الخير، وستُغيثُ سحائبُه كلَّ أراضي الهدى. هو النور الذي لا ينطفئ، والمصباح الذي لا يخبو (يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)
وعظمة القرآن تتجلى في أنه هو نعيم المؤمن يجد فيه رحمةَ ربه، وشفاءَ صدره، وطُمأنينةَ قلبه، وسعادةَ روحه، يفر إليه المؤمن من ثِقل الحياة وظلماتِها وهمومِها ومصائبِها، فيجدُ في كتاب الله ربيعَ قلبه، ونورَ صدره، وجلاءَ حزنه، وذهابَ همه. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ).
حين كان الحبيب صلى الله عليه وسلم يقوم به آناء الليل، كان يشعر بلذة تفوق كل وصف، حتى إن قدماه لتتفطر، فلا يُحِسُّ بالشقوق لما هو فيه من نعيم القرآن الذي غطّى على كل ألم.
قال أحد السلف لطلابه: أتحفظ القرآن؟ قال: لا. فقال: مؤمنٌ لا يحفظ القرآن! فبم يتنعم! فبم يترنم! فبم يناجي ربه!.
وعظمة القرآن تتجلى يا عباد الله في كونه كنزٌ للحسنات، ومغرفةٌ للأجور، فقراءة الحرف الواحد منه بحسنة، والحسنة بعشر أمثالها، كما قال صلى الله عليه وسلم.
سورة الكوثر فيها أكثرُ من أربعين حرفا، لا تستغرق قراءتَها بتأني أكثرَ من عشر ثواني، في هذه الثواني اليسيرة تكتسب بفضل الله أكثرَ من أربع مائة حسنة، فكيف إذا قرأتَ صفحة كاملة، وكيف إذا قرأتَ جزءا كاملا أو أكثر من ذلك؟
كنزٌ عظيم من الأجور، هنيئا لمن اغترف من جواهره، واغتنم اللحظات لتحصيل لآلِئِه.
اللهم وفقنا ولا تخذلنا، اللهم أعطنا ولا تحرمنا..
بارك الله لي ولكم..
الخطبة الثانية:
أما بعد:
عباد الله
لعل بعضكم يتساءل: كيف نستشعر عظمةَ القرآن؟ كيف نلتمس هداه؟ كيف نتنعم به؟ كيف نغترف من كنوزه؟
والجواب باختصار: أن تعلم أن هذا القرآنَ كتابٌ عزيزٌ، لا يمنح كنوزه إلا لمن أقبل عليه بروحه وقلبه، فقرأه قراءة المتدبر الذي يريد أن يلتمس من هداه، ويقتبسَ من نوره، يريد أن يتعلمَ من علومه، يريد أن يعملَ به ويتخلقَ بأخلاقه، يريد أن يستشفيَ بدوائه، يريد أن ينالَ من كنوز أجوره
من يقرأ القرآن وهو يستحضر هذه الغايات، فإن القرآن سيمطره ببركات الهدى، ويغدق عليه من نعيم الإيمان، وحينها سيجد الهدى والشفاء، وسيكتسب العلمَ النافع والعملَ القويم، وسينال من الله الأجر العظيم (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ).
أما من يقرأ قراءة اللسان المجردة التي لا تتجاوز التراقي، فإنه لن يستشعر عظمةَ القرآن، ولن يجد أثره على قلبه. نعم قد يحصُلُ على أجر قراءة القرآن وهذا خيرٌ ولا شك، لكن سيفوته كثير من هدايات القرآن وبركاته التي تُحدِثُ أثرها في تزكيةِ النفس ونعيمِ القلب وترقيةِ الأخلاق.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: "لاَ تَنْثِرُوهُ نَثْرَ الدَّقْلِ وَلاَ تَهُدُّوهُ هَدَّ الشِّعْرِ، قِفُوا عِنْدَ عَجَائِبِهِ، وَحَرِّكُوا بِهِ الْقُلُوبَ، وَلاَ يَكُن هَمُّ أَحَدِكُمْ آخِرَ السُّورَةِ".
يصف لنا حذيفةُ رضي الله عنه قراءةَ النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن فيقول: " يَقْرَأُ مُتَرَسِّلًا؛ إذَا مَرَّ بآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ سَبَّحَ، وإذَا مَرَّ بسُؤَالٍ سَأَلَ، وإذَا مَرَّ بتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ". هذه هي القراءة التي يتواطأ فيها حضور القلب واللسان، فتحدث أعظم الأثر وأزكاه.
عباد الله
حين كان يدخل رمضان على النبي -صلى الله عليه وسلم-، كان يضاعفُ صلته بالقرآن، فيقوم به الساعاتِ الطوال، يحيي به ليلَه، ويزكي به قلبَه، وهكذا كان أصحابه والصالحون من بعدهم، يملؤون يومهم وليلتهم بالتلاوة والختمات.
كان رمضان هو موعد مدارسة النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- للقرآن مع جبريل في كل عام. تلك المدارسة التي كان ينعكس أثرَها على النبي صلى الله عليه وسلم فيزدادُ إيماناً وجوداً وعطاءً. يقول ابن عباس رضي الله عنهما: " كانَ رَسولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- أجْوَدَ النَّاسِ، وكانَ أجْوَدُ ما يَكونُ في رَمَضانَ حِينَ يَلْقاهُ جِبْرِيلُ، وكانَ يَلْقاهُ في كُلِّ لَيْلَةٍ مِن رَمَضانَ فيُدارِسُهُ القُرْآنَ، فَلَرَسولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- أجْوَدُ بالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ".
فأقبلوا على كتاب ربكم ففيه هداكم، وفيه سعادتكم، وفيه رفعتكم في الدنيا والآخرة.
استعينوا بالله واسألوه أن يفتح عليكم من فتوحه، وأن يغدق عليكم من بركاته.
اللهم اجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهلك وخاصتك.
اللهم ارزقنا تلاوته وتدبره والعمل به آناء الليل وآناء النهار.
اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ونور صدورنا وجلاء أحزاننا وذهاب همومنا.
المرفقات
1680182743_القرآن العظيم.pdf
1680182755_القرآن العظيم.docx