القدس لنا..
أحمد بن عبدالله الحزيمي
القدس لنا
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَالِقِ الْحَبِّ وَالنَّوَى، ومُحْيي الْعِظَامَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْبِلَى، ومُنْزِلِ الْقَطْرَ وَالنَّدَى، أَحْمَدُهُ سُبْحَانَه وَأَشْكُرُهُ عَلَى نِعَمِهِ التَّتْرَى وَآلائِه العُظمَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى، وَأَشْهَدُ أَنَّ محمداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ خَيْرُ مَنْ وَطِئَ الثَّرى، فَصَلَّى اللهُ عَلَيه وَعَلَى آلِه وَصَحبِهِ الْأَطْهَارِ الْحنفاءِ, أَمَّا بَعْدُ:
فَأُوصِيكُمْ -عِبَادَ اللَّهِ- بِتَقْوَى اللَّهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَنِ؛ فَهِي سَبَبُ الْمَدَدِ مِنَ الْوَاحِدِ الْأحَدِ بِأَسْبَابِ النَّصْرِ عَلَى الْأَعْدَاءِ؛ يَقُولُ الْبَارِي جَلَّتْ قُدْرَتُهُ: {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ}.
لا تُهيِّئ كفني.. ما متُّ بعـدُ! * لم يزلْ في أضلعي برقٌ ورعدُ
أنـا إسلامـي.. أنا عـزَّتـه * أنا خيلُ الله نحو النصر تعـدو
أنـا تاريخـي.. ألا تعـرفهُ؟ * خالدٌ ينبضُ في روحي وسعـدُ
لا تهيِّئ كفني.. ما زال لـي * في صمودِ القِمم الشمّاءِ وعـدُ
لا تغـرّنّـك منّـي هدأتـي * لا يمـوتُ الثـأرُ لكن يستعـدُّ
بـدا لـي مسجـدٌ مكتئبٌ * دنَّستـهُ بوحـولِ البَغي رُبْـدُ
ذكرَ الإسـراءَ فاهتـزَّ أسى * ولإسرائيـلَ في المحرابِ جندُ
أيها المسجد يا مسرى الهُدى * إنّ وعـدَ الله حـقٌّ لا يُصَـدُّ
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: الْقُدْسُ أَرضٌ مُبَارَكَةٌ, نَصَّ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ عَلَى بَرَكَتِهَا فِي أَكْثَرِ مِنْ مَوْضِعٍ؛ قَالَ تَعَالَى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} وَقَال عز وجلَّ: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ}
وَقَدْ وَرَدَتْ عِدَّةُ أَحادِيثَ نَبَوِيَّةٍ فِي فَضْلِ الْمَسْجِدِ الأَقْصَى مِنْهَا: مَا أَخْرَجَهُ الإمامُ أَحمدُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَأَلَ اللَّهَ ثَلَاثًا، أَعْطَاهُ اثْنَتَيْنِ، وَنَحْنُ نَرْجُو أَنْ تَكُونَ لَهُ الثَّالِثَةُ: فَسَأَلَهُ حُكْمًا يُصَادِفُ حُكْمَهُ، فَأَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ، وَسَأَلَهُ مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ، فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ، وَسَأَلَهُ أَيُّمَا رَجُلٍ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ لَا يُرِيدُ إِلَّا الصَّلَاةَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ خَرَجَ مِنْ خَطِيئَتِهِ مِثْلَ يَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ، فَنَحْنُ نَرْجُو أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ".
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: الْمَسْجِدُ الأَقْصَى لَهُ مَكَانَةٌ عَظِيمَةٌ فِي قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَهُوَ ثَانِي مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأرْضِ, وَقِبْلَةُ الْمُسْلِمِينَ الأُوْلَى, وَثَالِثُ الْمَسَاجِدِ الَّتِي لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلّا إِلَيهَا، وَالصَّلاَةُ فِيه تَعْدِلُ خَمْسَمِائَةِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ, إلاَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ وَالْمَسْجِدَ النَّبَوِيَّ، وَمَسْرى نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمُجْتَمَعُ الْمَلاَئِكَةِ، وَمَهْدُ عِيسَى، وَمُلْكُ سُلَيمَانَ بْنِ دَاوُدَ، وَمُهَاجَرُ إبراهيمَ عَلَيهِ السَّلامُ، وَمَأْوَى الرِّسَالَاتِ وَالدِّيانَاتِ، كَمَا أَنَّ الصَّلاَةَ فِيه سَبَبٌ لِتَكْفيرِ الذُّنُوبِ، وَمَلاَحِمُ آخِرِ الزَّمانِ تَكُونُ عَلَى أرْضِهِ، وَيَؤوبُ أهْلُ الْإيمَانِ إِلَيهِ. قَالَ شَيْخُ الإِسْلامِ ابْنُ تَيمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَقَدْ دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَمَا رُوِيَ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ مَعَ مَا عُلِمَ بِالْحِسِّ وَالْعَقْلِ وَكُشُوفَاتِ الْعَارِفِينَ: أَنَّ الْخَلْقَ وَالْأَمْرَ ابْتَدَآ مِنْ مَكَّةَ أُمِّ الْقُرَى فَهِيَ أُمُّ الْخَلْقِ وَفِيهَا اُبْتُدِئَتْ الرِّسَالَةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ الَّتِي طَبَقَ نُورُهَا الْأَرْضَ... وَدَلَّتْ الدَّلَائِلُ الْمَذْكُورَةُ عَلَى أَنَّ "مُلْكَ النُّبُوَّةِ" بِالشَّامِ وَالْحَشْرَ إلَيْهَا. فَإِلَى بَيْت الْمَقْدِسِ وَمَا حَوْلَهُ يَعُودُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ. وَهُنَاكَ يُحْشَرُ الْخَلْقُ. وَالْإِسْلَامُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ يَكُونُ أَظْهَرَ بِالشَّامِ. وَكَمَا أَنَّ مَكَّةَ أَفْضَلُ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَأَوَّلُ الْأُمَّةِ خَيْرٌ مِنْ آخِرِهَا. وَكَمَا أَنَّهُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ يَعُودُ الْأَمْرُ إلَى الشَّامِ كَمَا أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى. فَخِيَارُ أَهْلِ الْأَرْضِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ أَلْزَمُهُمْ مُهَاجَرَ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ بِالشَّامِ) أهـ.
عِبَادَ اللَّهِ: الْمَسْجِدُ الْحَرامُ هُوَ أَوَّلُ مَسْجِدٍ بُنِيَ فِي الأرْضِ، ثُمَّ بَيْتُ الْمَقْدِسِ، وَحُجَّةُ ذَلِكَ حَديثُ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، قال: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الأَرْضِ أَوَّلَ؟ قَالَ: «المَسْجِدُ الحَرَامُ» قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ «المَسْجِدُ الأَقْصَى» قُلْتُ: كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: «أَرْبَعُونَ سَنَةً» مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وَجُمْهُورُ الْمُؤَرِّخِينَ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ مَنَ اخْتَطَّ أرْضَ الْمَسْجِدَيْنِ الشَّرِيفَينِ، وَحَدَّدَ مَعَالِمَهُمَا هُوَ آدَمُ عَلَيه السّلامُ؛ قَالَ الْحافِظُ ابْنُ حَجْرٍ: (ذَكَرَ ابْنُ هِشَامٍ أَنَّ آدَمَ لَمَّا بَنَى الْكَعْبَةَ أَمَرَهُ اللَّهُ بِالسَّيْرِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَنْ يَبْنِيَهُ فَبَنَاهُ وَنَسَكَ فِيهِ، وَبِنَاءُ آدَمَ لِلْبَيْتِ مَشْهُورٌ) أهـ.. فَعُلِمَ بِهَذَا أَنَّ بِنَاءَ الْبَيْتَيْنِ -الْكَعْبَةِ وَالْقُدْسِ- كَانَ قَبْلَ بِنَاءِ الْخَلِيلِ وَذَرِّيَّتِهِ لَهُمَا؛ لِأَنَّ الَّذِي جَدَّدَ بِنَاءَ الْكَعْبَةِ الْخَلِيلَ عَلَيه السّلامُ، وَالَّذِي جَدَّدَ بِنَاءَ الْمَسْجِدِ الأَقْصَى سُلَيمَانَ بْنَ داوُدَ عَلَيهِمَا السّلامُ، وَبَيْنَهُمَا أَكْثَرُ مِنْ أَلْفِ سَنَةٍ.
عِبَادَ اللَّهِ: أَمَّا عَنْ تَارِيخِ الْمَسْجِدِ الأَقْصَى؛ فَقَدْ بَقِيَ بِيَدِ النَّصَارَى مِنَ الرُّومِ مِنْ قَبْلِ بعثةِ النَّبِيِّ بِنَحْوِ ثَلَاثمِائَةِ سَنَة، حَتَّى أَنْقَذَهُ اللهُ مِنْ أَيْدِيهِمْ بِالْفَتْحِ الْإِسْلامِيِّ عَلَى يَدِ الْخَلِيفَةِ الرَّاشِدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْه، فِي السَّنَةِ الْخامسَةَ عَشْرَةَ مِنَ الْهِجْرَةِ فَصَارَ الْمَسْجِدُ الأَقْصَى بِيدِ أهْلِهِ وَوارِثِيهِ بِحَقٍّ وَهُمُ الْمُسْلِمُونَ. وَبَقِيَ فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ حَتَّى اسْتَوْلَى عَلَيه النَّصَارَى مِنَ الْفِرِنْجِ أيَّامَ الْحُروبِ الصَّلِيبِيَّةِ فِي الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ سَنَةَ اثنتانِ وتسعينَ وأربعمِائَةٍ للهجرةِ، فَدَخَلُوا الْقُدْسَ فِي نَحْوِ مِلْيُونِ مُقَاتِلٍ وَقَتَلُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ نَحْوَ سِتِّينَ ألْفًا وَدَخَلُوا الْمَسْجِدَ وَاسْتَوْلَوْا عَلَى مَا فِيهِ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ، وَكَانَ يَوْمًا عَصِيبًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَظْهَرَ النَّصَارَى شَعَائِرَهُمْ فِي الْمَسْجِدِ الأَقْصَى، فَنَصَبُوا الصَّلِيبَ وَضَرَبُوا النَّاقُوسَ، وَهَذَا وَاللهِ مِنْ أَكْبَرِ الْفِتَنِ وَأَعْظَمِ الْمِحَنِ.
وَبَقِيَ النَّصَارَى فِي احْتِلاَلِ الْمَسْجِدِ الأَقْصَى أَكْثَرَ مِنْ تِسْعِينَ سَنَةً حَتَّى اسْتَنْقَذَهُ اللهُ مِنْ أَيْدِيهِمْ عَلَى يَدِ الْبَطَلِ وَالرَّجُلِ الصَّالِحِ، صَلاحِ الدِّينِ الأيُّوبيِّ رَحِمَهُ اللهُ فِي السابعِ والعشرينَ مِن شَهرِ رَجَبٍ سَنَةَ ثَلاثٍ وثمانينَ وخمسِمائَةٍ للهجرةِ، وَكَانَ فَتْحًا مُبِينَا وَيَوْمًا عَظِيمًا مَشْهُودًا أَعَادَ اللهُ فِيه إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى كَرَامَتَهُ، وَكُسِرَتِ الصُّلبانُ وَنُودِيَ فِيه بِالْأَذَانِ، وَأُعْلِنَتْ فِيه عِبَادَةُ الْوَاحِدِ الدَّيَّانِ.
ثُمَّ إِنَّ النَّصَارَى أَعَادُوا الْكَرَّةَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَضَيَّقُوا عَلَى الْمَلِكِ الْكَامِلِ ابْنِ أَخِي صَلاحِ الدِّينِ فَصَالَحَهُمْ عَلَى أَنْ يُعِيدَ إِلَيهِمْ بَيْتَ الْمَقْدِسِ مُقابِلَ أنْ يُخْلُوا بَيْنَه وَبَيْنَ الْبِلادِ الأُخْرَى وَذَلِكَ فِي شهرِ رَبِيعٍ الآخرِ سَنَةَ ستٍ وعشرينَ وستِمائَةٍ للهجرةِ، فَعَادَتْ دَوْلَةُ الصَّلِيبِ عَلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى مَرَّةً أُخْرَى وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولًا.
وَاسْتَمَرَّتْ أَيْدِي النَّصَارَى عَلَيهِ حَتَّى اسْتَنْقَذَهُ الْمُسْلِمُونَ سَنَةَ اثنتينِ وأربعينَ وستمائةٍ للهجرةِ، وَبَقِيَ فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ قُرُونًا كَثِيرَةً إِلَى شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ سبعٍ وثمانينَ وثلاثمائةٍ وألفٍ للهجرةِ، حَيْثُ احْتَلَّهُ الْيَهُودُ بِمَعُونَةِ أَوْلِيَائِهِمْ مِنَ النَّصَارَى وَلَا يَزَالُ تَحْتَ سَيْطَرَتِهِمْ.
كَانَ الْمَسْجِدُ الأَقْصَى عَلَى مَرِّ التَّارِيخِ مَسْجِدًا لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُوجَدَ الْيَهُودُ وَمِنْ بَعْدِ مَا وُجِدُوا؛ فإبراهيمُ عَلَيه السَّلامُ هُوَ أَوَّلُ مَنِ اتَّخَذَ تِلْكَ الْبُقْعَةَ مَسْجِدًا، وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى عَنْه: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} وَلَيْسَ لِبَنِي إسرائيلَ -يَهُودًا أو نَصَارَى- عَلاَقَةٌ بالْمَسْجِدِ الأَقْصَى إلَّا فِي الْفَترَاتِ الَّتِي كَانُوا فِيهَا مُسْلِمِينَ مَعَ أنبيائِهِمُ الْمُسْلِمِينَ عَلَيهِمُ السّلامُ، أَمَّا بَعْدَ كُفْرِهِمْ بِاللهِ تَعَالَى، وَشَتَمِهِمْ إِيَّاهُ، وَقَتْلِهِمُ الْأنبياءَ فَقَدِ انْقَطَعَتْ عَلاَقَتُهُمْ بِهَذَا الْمَسْجِدِ الَّذِي تَحَوَّلَ إِلَى إِرْثِ الْمُسْلِمِينَ الْمُؤْمِنِينَ بِجَمِيعِ الْأنبياءِ عَلَيهِمُ السّلامُ.
وَلَكِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى فِي هَذَا الزَّمَانِ لَا يُسَلِّمُونَ بِذَلِكَ، وَيُحَارِبُونَ الْمُسْلِمِينَ عَلَيهِ؛ إِذْ يَعْتَقِدُ الْيَهُودُ أَنَّ بِنَاءَ الْهَيْكَلِ الثَّالِثِ سَيُخْرِجُ مَلِكًا مِنْ نَسْلِ داودَ عَلَيه السّلامُ، يَحْكُمُونَ بِهِ الْعَالَمَ، وَيَقْتُلُونَ غَيْرَ الْيَهُودِ، كَمَا يَعْتَقِدُ النَّصَارَى أَنَّ نُزُولَ الْمَسِيحِ سيكونُ فِي الْأرْضِ الْمُبَارَكَةِ، وَأَنَّهُمْ سيكونونَ أَتباعَهُ، وَيَقْتُلُونَ بِهِ غَيْرَ النَّصَارَى؛ فَالصِّراعُ عَلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ هُوَ صِراعٌ دِينِيٌّ عَقَائِدِيٌّ، يَعْتَقِدُ صَهَايِنَةُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى أَنَّهُمْ لَنْ يَسْتَطِيعُوا حُكْمَ الْعَالَمِ إلَّا بَعْدَ بِنَاءِ الْهَيْكَلِ فِيهِ؛ وَلِذَا فَلَنْ يَتَنَازَلُوا عَنْه برغبَتِهِم مَهْمَا كَلَّفَ الْأَمْرُ.
وَأَمَّا الْمَلاَحِدَةُ وَالْعَلْمَانِيُّونَ مِنْ بَنِي إسرائيلَ فَيَرَوْنَ أَنَّ هَذِهِ الْعَقَائِدَ الدِّينِيَّةَ الَّتِي تُحَرِّكُ صَهَايِنَتَهُمْ فُرْصَةٌ سَانِحَةٌ لإقْنَاعِ شُعُوبِهِمْ وَتَحْرِيكِهِمْ نَحْوَ اسْتِعْمارِ منْطَقَةِ الشَّرْقِ الْإِسْلامِيِّ، وَبَسْطِ نُفُوذِهِمْ فِيهَا؛ لِتَحْقِيقِ مَكَاسِبَ سِياسِيَّةٍ وَاقْتِصَادِيَّةٍ بِهَذِهِ الْمُعْتَقَدَاتِ. نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ أَنْ يَحْفَظَ الْمَسْجِدَ الأَقْصَى مِنْ مَكْرِ الْيَهُودِ، وَأَنْ يَرُدَّهُمْ عَلَى أعْقَابِهِمْ خَاسِرِينَ، وَأَنْ يُخرِجَهُم مِنَ الْأرْضِ الْمُبَارَكَةِ أذلةً صَاغِرِينَ، وَأَنْ يَنْصُرَ إِخْوَانَنَا عَلَيهِمْ؛ إِنَّه سَمِيعٌ مُجِيبٌ. وأَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ للهِ الَّذِي جَعَلَنَا مِنْ خَيْرِ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، وَأَشْهَدُ أَن لا إلَهَ إلّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ خَتَمَ بِالإِسْلامِ الرِّسَالَاتِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ محمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ خَتَمَ بِهِ رَبُّهُ النُّبُوَّاتِ، صَلَّى اللهُ عَلَيه وَعَلَى آلِه وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، أما بعدُ:
عِبَادَ اللَّهِ: لَا بُدَّ أَنْ تَبْقَى قَضِيَّةُ الأَقْصَى وَقَضِيَّةُ الْقُدْسِ قَضِيَّةً إِسْلامِيَّةً، قَضِيَّةً قرآنيةً، قَضِيَّةً عَقَدِيَّةً، سَتَبْقَى قَضِيَّةَ كُلِّ مُسْلِمِ مُوَحَّدٍ، لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ارْتِبَاطُنَا بِالْقُدْسِ وَثِيقًا، وَحاضِرًا فِي كُلِّ وَقْتٍ، مَهْمَا كَانَ الظَّرْفُ عَصِيبًا، وَمَهْمَا رَأَيْنَا مِنْ تَخَاذُلِ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ، سَواءٌ فِي بَرامِجِهِمُ الْحِوَارِيَّةِ، أَوْ مَا يَبُثُّونَهُ فِي وَسَائِلِ التَّوَاصُلِ الاِجْتِمَاعِيِّ حَوْلَ تَوْهِينِ هَذَا الارْتِبَاطِ، وَمُحَاوَلَةِ إقْنَاعِ الآخرينَ بِأَنَّ الْقُدْسَ شَأْنٌ فلسطِينيٌّ فَقَط، وَأَنَّ عَلَينَا أَنْ نَبْسُطَ أَيْدِيَنَا حَتَّى مَعَ أَعْدَائِهِمْ، وَأَنَّنَا مَلَلْنَا هَذا الاحْتِرابَ.
وَاجِبٌ عَلَى الآباءِ وَالْأُمَّهَاتِ أيها الأخوة أَنْ يَغْرِسُوا فِي نُفُوسِ أَوْلاَدِهِمْ مَحَبَّةَ الْقُدْسِ وَمَنْ يُدَافِعُونَ عَنْه، وَبُغْضِ مَنْ يَعْتَدُونَ عَلَيه مِنَ الْيَهُودِ وَمَنْ عَاوَنَهُمْ، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ الْمُعَلِّمُونَ مَعَ طُلاَّبِهِمْ، وَأئِمَّةُ الْمَسَاجِدِ مَعَ جَمَاعَةِ مَسَاجِدِهِمْ، وَكِبَارُ الْقَوْمِ مَعَ جلسائِهِمْ، حَتَّى تَحْيَا قَضِيَّةُ الأَقْصَى فِي الْقُلُوبِ، فَيُثْمِرُ ذَلِكَ أَفْعَالًا وَمُبَادِرَاتٍ لِنُصْرَةِ الأَقْصَى وَالْمُرابِطِينَ فِي أرْضِهِ، وَالدُّعَاءَ الدَّائِمَ وَالْمُسْتَمِرَّ لَهُم. وَقَبْلَ ذَلِكَ وَبَعْدَه إِصْلاحُ مَا بَيْنَنَا وبَينَ اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّوْبَةِ مِنَ الذُّنُوبِ، حَتَّى يَتَغَيَّرَ حالُ الْأُمَّةِ، وَيَتَبَدَّلَ ذُلُّهَا إِلَى عِزٍّ، وَضَعْفُهَا إِلَى قُوَّةٍ، وَتَفَرُّقُهَا إِلَى اجْتِمَاعٍ وَأُلْفَةٍ، وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}، مَعَ كَثْرَةِ الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ بِنَصْرِ الْمقَادِسَةِ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، وَحِفْظِ الْمَسْجِدِ الأَقْصَى مِنْ ظُلْمِ الْيَهُودِ وَأَعْوَانِهِمْ.
أيها المؤمنون: إِنَّ بِلادَنَا قيادة وشعبا كَانَتْ وَلَا تَزَالُ -بِحَمْدِ اللهِ- تَعْتَبِرُ قَضِيَّةَ فلَسْطِينَ، قَضِيَّتَهَا الْأُولَى، وَأَنَّ الدِّفَاعَ عَنِ الْمَسْجِدِ الأَقْصَى وَاجِبٌ وَحَتْمِيٌّ، وَلَا تَزَالُ تُؤَكِّدُ كَذَلِكَ عَلَى الْحُقوقِ الْمَشْرُوعَةِ لِلشَّعْبِ الْفلَسْطِينِيِّ الْكَرِيمِ.
اللَّهُمَّ احْفَظِ الْمَسْجِدَ الأَقْصَى مِنْ أَيْدِي الْغَاصِبِينَ، وَاجْعَلْهُ شَامِخًا عَزِيزًا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الراحمينَ.
ثم اعلَمُوا - معاشِرَ المُؤمنين - أن أكثرَ ما يقربكم إلى ربكم كثرة الصلاةِ والسلامِ على نبيكم ؛ استِجابةً لأمرِ ربِّكم - تبارك وتعالى -: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما صلَّيتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد، اللهم بارِك على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما بارَكتَ على إبراهيمَ وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد.
اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمُشرِكين، واحمِ حَوزةَ الدين، واجعَل هذا البلدَ آمنًا مُطمئنًّا، رخاءً سخاءً، وسائرَ بلادِ المُسلمين.
اللهم أصلِح أحوالَ إخوانِنا المُسلمين في كل مكانٍ برحمتِك يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم فرِّج همَّ المهمُومين مِن المُسلمين، ونفِّس كَربَ المكرُوبِين، واقضِ الدَّينَ عن المَدِينِين، واشفِ مرضانا ومرضَى المُسلمين.
اللهم انصُر جنودَنا المُرابِطين على حُدودِ بلادِنا، اللهم أيِّدهم بتأيِيدك، واحفَظهم بحِفظِك، اللهم كُن لهم مُعِينًا ونصِيرًا برحمتِك يا أرحَم الراحِمين.
اللهم انصُر إخوانَنا في اليمَن، اللهم عليك بعدوِّك وعدوِّهم يا قويُّ يا عزيزُ يا ذا الجلال والإكرام، اللهم احفَظ نساءَهم وأموالَهم وأعراضَهم برحمتِك يا أرحَم الراحِمين.
اللهم أصلِح حالَ إخوانِنا في فلسطين، اللهم اجبُر كسرَهم، اللهم اجبُر كسرَهم، وقوِّ ضعفَهم، واجعَل العاقِبةَ لهم.
اللهم احفَظ مسرَى نبيِّك - صلى الله عليه وسلم -، اللهم اجعَل المسجِدَ الأقصَى شامِخًا عزيزًا إلى يوم القِيامة برحمتِك يا أرحَم الراحِمين، اللهم احفَظه مِن كيدِ الكائِدين، وظُلم الظالِمين يا ذا الجلال والإكرام، يا قويُّ يا عزيزُ.
اللهم وفِّق ولي أمرنا لما تُحبُّ وترضَى، واجزِه عن الإسلام والمُسلمين خيرَ الجزاء، اللهم وفقه لِما فيه خيرٌ للبلاد والعباد، اللهم وفِّق جميعَ وُلاةِ أمور المسلمين لما تُحبُّه وترضَاه.
اللهم اغفر لجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين.
سُبحان ربِّك ربِّ العزَّة عما يصِفُون، وسلامٌ على المُرسَلين، والحمدُ لله ربِّ العالمين
المرفقات
لنا
لنا