الفلاح في صنيع أبي الدحداح

عبدالمحسن بن محمد العامر
1442/03/22 - 2020/11/08 11:08AM

الحمد لله ذي الرحمة والمغفرة، ومسبغ النعم الوافرة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ ذو الآلاء الباهرة والحكمة الظاهرة، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه ما طلعت النجوم السائرة، وما هبّت الرياح العابرة، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم خروج النار الحاشرة.

أما بعد: فيا عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى ففيها كل خير وبركة، فكم أنجت من شدّةٍ وهلكة، وكم نصرت في حرب ومعركة، فهنيئاً لمن دلّ طريقها وسلكه (وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)

معاشر المؤمنين: كم من عمل صالح واحد؛ يكون به لصاحبه سعادةَ الدنيا والآخرة، وينال به أعلى الدرجات، وأعظمَ المنازلِ الرفيعةِ في الجنة، هذا الصحابي الجليل أبو الدحداح ثابت بن الدحداح رضي الله عنه ينال الجنة ونعيمَها بعمل صالح حَسُنت فيه نيتُه، وطابت فيه نفسُه، وبادرت فيه روحُه، عن أنس رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله إنّ لفلان نخلةً وأنا أقيم حائطي بها فَأْمُره أن يعطيني حتى أقيم حائطي بها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أعطها إياه بنخلة في الجنة. فأبى! فأتاه أبو الدحداح فقال: بعني نخلتك بحائطي. ففعل، فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني قد ابتعت النخلة بحائطي، قال: فاجعلها له. فقد أعطيتكها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كم من عذق رداح لأبي الدحداح في الجنة. قالها مرارا قال: فأتى امرأته فقال: يا أم الدحداح اخرجي من الحائط، فإني قد بعته بنخلة في الجنة. فقالت: ربح البيع. أو كلمة تشبهها. رواه الإمام أحمد وغيره وصححه الألباني.

في هذا الحَديثِ يَحكِي أنسُ بنُ مالكٍ رضِيَ اللهُ عنه: "أنَّ رجلًا قال: يا رسولَ اللهِ، إنَّ لفُلانٍ نَخلةً"، أي: يَمتَلِكُها، "وأنا أُقِيمُ حائطي بها"، المُرادُ بالحائطِ: الجدارُ، ومعنى إقامةِ الحائطِ بالنَّخلةِ: اعتمادُه عليها واستنادُه، "فأْمُرْه أنْ يُعطِيَني حتَّى أُقِيمَ حائطي بها"، أي: يَطلُبُ مِن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يحُثَّ صاحبَ النَّخلةِ أنْ يَتصدَّقَ بها عليه، قِيل: الظَّاهرُ أنَّ صاحبَ الجدارِ كان فقيرًا لا يَستطيعُ أنْ يَشترِيَها، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لصاحبِ النَّخلةِ، "أعْطِها إيَّاهُ بنَخلةٍ في الجنَّةِ"، أي: أمَرَه بالتَّصدُّقِ بها على أنْ يُعوِّضَه اللهُ بأجْرِها في الجنَّةِ، وهذا مِن الحثِّ على الصَّدقةِ، "فأبَى"، أي: امتنَعَ صاحبُ النَّخلةِ عن التَّصدُّقِ بها، "فأتاهُ أبو الدَّحداحِ"، ويُقال: أبو الدَّحداحةِ، وهو ثابتُ بنُ الدَّحداحِ حليفُ الأنصارِ، والمُرادُ: أنَّه ذهَبَ لصاحبِ النَّخلةِ، "فقال: بِعْني نَخلتَك بحائطي"، أي: اشْتَراها ودفَعَ في ثمَنِها حديقتَه كاملةً؛ لأجْلِ أنْ يَتصدَّقَ بها على الرَّجلِ الَّذي طلَبَها، "ففَعَلَ"، أي: باعَهَا الرَّجلُ لأبي الدَّحداحِ، فأتى أبو الدَّحداحِ، "النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقال: يا رسولَ اللهِ، إنِّي قد ابتعْتُ النَّخلةَ بحائِطي، قال: فاجْعَلْها له"، أي: أعْطِها للرَّجلِ الَّذي طلَبَها، "فقدْ أعْطَيْتُكَها" فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "كمْ مِن عَذْقٍ رَداحٍ"، أي: غُصنٍ ثقيلٍ، ومُمْتلئٍ بالثِّمارِ، "لأبي الدَّحداحِ في الجنَّةِ -قالها مِرارًا-"، أي: تأكيدًا عليها، وللحثِّ على مِثلِ هذه الأعمالِ. قال أنسٌ رضِيَ اللهُ عنه: "فأتى امرأتَه"، أي: رجَعَ أبو الدَّحداحِ لزوجتِه وهي في البُستانِ، "فقال: يا أُمَّ الدَّحداحِ، اخْرُجي مِن الحائطِ؛ فقد بِعْتُه بنَخلةٍ في الجنَّةِ، فقالت: رَبِحَ البيعُ -أو كلمةً تُشْبِهُها-" فأجابَتْه في فِعلَتِه وتصرُّفِه، وأثنَتْ عليه.

لم يكنْ عند النبي صلى الله عليه وسلم مال يُقدّمه لأصحابه، إنما الثمن الجنّة، وهذا ما أدركه وناله أبو الدحداح رضي الله عنه، فالفُرصُ لا تعوّض، والمواقفُ لا تتكرر، وللنفوس إقبال وإدبار، فمن بادر في حال إقبالها نال الخير، وأدرك الفضائل، وفاز بالأجور العظيمة، والذِّكْرِ الحسن والثناءِ والدعاءِ، فبادر أنتَ متى ما سنحت الفرصة، ولاحت الغنيمة، ولا تنتظر أحداً ينتشلك، فقد يسبقُك غيرُك إليها، وقد تفوت بأي سبب من الأسباب، فمن الفرص ما يأتي للمرء عارضاً، ويتهيأ له بلا نية سابقة، وبلا بحث وعمل، كما هي قصة أبي الدحداح، ومع ذلك يكون فيها مثل هذا الأجر العظيم والجزاء الكبير.

بارك الله لي ولكم بالكتاب والسنة ..

أقول قولي هذا ..

 

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه ..

أما بعد فيا عباد الله: اتقوا الله: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)
 
معاشر المؤمنين: بسبب إيثار أبي الدحداح رضي الله عنه الباقيَ على الفاني؛ جوزي في الآخرة بما هو من جنس فعله، وفي المسارعة إلى الخيرات دليل على حب الله تعالى لعبده؛ إذ وفقه تعالى لهذا العمل المبارك، فنال به الوعدَ الأكيدَ من رب العالمين، وهكذا هي همم الصالحين وطالبي الآخرةِ ومؤثري الباقيةِ على الفانية، الذين يدركون أن الله يعطي على القليل كثيراً، وعلى اليسير جزيلا، فالأهداف العالية تسمو بصاحبها وترقى به في مصاف المتقدمين.

 وهذا الحديث يحث على الحرص على الجار، ومراعاةِ شعوره، وتركِ أذيّته، وهنيئاً عظيمَ الأجور لمن أحسن إلى جاره، وقام بحقوقه.

 وما أجمل الإصلاح بين المتخاصمين، والأروعُ والأعظمُ؛ المبادرة إلى ذلك من أناس يرجون ما عند الله، فلا يضيرهم تقديم المال للإصلاح، ولا يهمهم عَنَاءُ السعي بين الخصوم، ولا يستصعبون قوّةَ الخلاف، بل تُذلِّلُ لهم ذلك كلَّه النيةُ الصالحة، والرغبة الجامحة برضا الله وجزائه وعظيم ثوابه، فما أحوج الأمة إلى أمثال أبي الدحداح رضي الله عنه؛ يبادرون إلى الخيرات، ويسارعون في الإصلاح؛ ففي مثل هذه الأعمال معاونة لولي الأمر ، وتخفيف العناء على دوائر القضاء التي تمتلئ بقضاياً كان الإصلاحُ سبيلَها، والسعيُ بالخير حلَّها.

وفي كل الأمور النافعة والأعمال الصالحة؛ قدّم ما لديك، ولا تنتظر النتائج، فإن علِمت بالنتيجة؛ فبها ونِعْمَت، وإلاّ فامض قُدُماً.  "وماتقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيراً وأعظم أجراً" وما أجملَ امتثال المرأة الصالحة لأمر زوجها، وطاعتِها له، دون استفصال عن الحال، فلم تجادل هذه المرأة التقيّة زوجها، ولم تقل له: أين عقلُك، أتبيع بستاناً كبيراً مَلَيئاً بمئات النخيل، بنخلة واحدة فقط، أيُّ إنسان أنت؟؟، ونحوَ هذا الكلام، لم يحصل شيء من هذا البتّة، فقدّمت لنا مشهداً رائعاً، وصورةً حيّةً ماثلةً أمامنا، قدّمت شيئا إيجابياً، وصنعت مجداً خلّده التأريخ، بصبرها ورضاها وتميزها عن غيرها من بنات جنسها.

هذا وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال( إن الله وملائكته يصلون على النبي ...)

المشاهدات 3529 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا وأحسن إليك شيخنا الكريم ، وفي باكورة مشاركاتك نقول حياك الله بين إخوانك .