الفطر في نهار رمضان جريمة

أبو عبد الله الأنصاري
1433/09/16 - 2012/08/04 04:38AM
معاشر الصائمين : حديثنا اليوم عن منكر من أعظم المنكرات المسخطة للرب ، المورثة للسخط والغضب ، المزيلة للنعمة المحلة للنقمة ، ومَن هذا الذي يقدر على نقمة الله أو يطيق سخطه وغضبه ، ألا إن هذا المنكر هو الاستهتار بفريضة هذا الشهر العظيم فريضة الصيام المعظمة بالفطر فيه عمداً من غير عذر ولا رخصة إلا عصيان الرب العظيم تعالى ، والتمرد على شرعه ودينه ، يقول العلامة محمد رشيد رضا رحمه الله : ( أقبل شهر الصيام فرحَّب به المؤمنون ، وتبرَّم – أي تضايق - منه المنافقون ، واستهان به الزنادقة المارقون ، فالمؤمن في صيام وصلاة ، وصلة وزكاة ، وبِرٍّ ومواساة ، وعكوف على كتاب الله ، والمنافق في كذب ومداجاة ، وإسرار يخالف ما أظهره وأبداه ، يستخفي بإفطاره من الناس ولا يستخفي من الله ، كأنه لا يعلم أنه يبصره حيث كان ويراه ، والمارق المرتد يجاهر الإفطار ، وتُمد له الموائد في نصف النهار ، فيأكل الطعام ويشرب العقار ، ويفجر مع أمثاله من الفجار ، ضلال مع إصرار ، لا ندم يعقبه ولا استغفار أولئك هم الفاسقون { كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ } ، { قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنشَرَهُ * كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ } أمره بالصلاة فكسل ، وأمره بالزكاة فبخل ، وأمره بالصوم فشرب وأكل ، ولو عرف الله لآثر طاعته على شهوته وهواه ، ولو عرف نفسه لعرف ربه ، وابتغى رضوانه وقربه ، وارتقى بذلك عن اللذة الحسية البهيمية ، إلى اللذة الروحانية الإنسانية ، فصلى طلبًا لمرضاته ، وتلذذًا بمناجاته ، وصام ابتغاء وجه ربه الأعلى ، الذي يعلم الجهر وأخفى{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }) أ.هـ.
يا معاشر الناس : ما أشد عذاب الله وعقابه لكل منتهك لهذا الشهر من غير عذر فقد صح في النسائي عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( بينا أنا نائم أتاني رجلان فأخذا بضبعيَّ فأتيا بي جبلاً وعراً ، فقالا : اصعد ، فقلت : إني لا أطيقه ، فقالا : إنا سنسهله لك ، فصعدت حتى إذا كنت في سواء الجبل إذا بأصوات شديدة ، قلت : ما هذه الأصوات ؟ قالوا : هذا عواء أهل النار ، ثم انطُلق بي ، فإذا أنا بقوم معلقين بعراقيبهم ، مشققة أشداقهم ، تسيل أشداقهم دما ، قال : قلت : من هؤلاء ؟! قالا : الذين يفطرون قبل تحلة صومهم ) ، وقوله : ( قبل تحلة صومهم ) معناه : يفطرون قبل وقت الإفطار .
الخاسر الخائب والله من أدركه رمضان شهر التوبة والإيمان ، وشهر العفو والرحمة والغفران فما يزداد في فواضل أيامه ولياليه من الله إلا بعداً وشقاءاً ، لم يستدرك فيه أمره ، ولم يصطلح فيه مع ربه ، ألا إنه الحرمان في أشقى صورِه وأبعدها ويكفي في ذلك ما صح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسولنا صلى الله عليه وسلم صعد المنبر فقال : ( آمين آمين آمين ) فقيل : يا رسول الله إنك صعدت المنبر ، فقلت : آمين آمين آمين ، فقال : ( إن جبريل عليه السلام أتاني فقال : من أدرك شهر رمضان فلم يغفر له فدخل النار فأبعده الله ، قل : آمين ، فقلت : آمين ) صححه الألباني ، وفي رواية : ( أتاني جبريل وقال: يا محمد بَعُدَ من أدرك رمضان فلم يغفر له، فقلت: آمين ) . وفيه أن المفطر في هذا الشهر قد أضاع حظه ونصيبه من الله في شهر العطاء والغفران .
يقول ابن حزم رحمه الله : "ذنبان لم أجد أعظم منهم بعد الشرك بالله: رجل أخَّر الصلاة حتى خرج وقتها ، ورجل أفطر يوماً عامداً في رمضان" ، فالمفطر بلا عذر متعرض لسخط الله وعقابه والبعد من رحمته ومغفرته ، لأن فطره من الكبائر المهلكة لمرتكبها بإجماع المسلمين .
يقول الحافظ الذهبي رحمه الله : ( وعند المؤمنين مقرر أن من ترك صوم رمضان من غير عذر أنه شرّ من الزاني ومدمن الخمر ، بل يشكّون في إسلامه ، ويظنّون به الزندقة والانحلال ) . ويقول محمد رشيد رضا : ( المسلم لا يفطر في رمضان عامدًا متعمدًا إلا إذا كان مرتابًا في أصل الدين ، غير مؤمن باليوم الآخر ، فمن كان مؤمنًا بالله واليوم الآخر،مسلِّما بالدين ، عالماً أن فيه الفلاح والسعادة ، فليؤدب بالصوم نفسه ، ويكتسب به ملكة الحكم عليها ، فبذلك يحفظها في الدنيا من أكثر الأمراض ، ويحفظها في الآخرة بما يعطيه الصوم من النور الروحاني ، وبما في الصوم من تهذيب النفس وتزكيتها ..قال :( والذي يفطر في رمضان أحد رجلين : إما كافر ، لا يدين بالإسلام كبعض الذين قتلت أرواحهم أدواء التمدن الإفرنجي ، وإما جهول لئيم ليس له من الإنسان إلا صورته ولا من الدين إلا أنه من طائفة يسمون مسلمين ).
يا معاشر الصائمين : إن ربكم لما أتم ذكر أحكام الصيام في كتابه قال في آخرها : ( تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُون ) والمفطر في نهار رمضان بلا عذر مستهتر بحدود الله ضاربٌ بها عُرض الحائط فهو من أعظم المتعدين لحدود الله .
يا معاشر الناس : هل يوجد تعظيم لله تعالى في قلب عبد لا يعظم شعائره وفرائضه ولا يقف عند حدوده وحرماته والله تعالى يقول: ( ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه ) ، ويقول تعالى : ( ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب ) فمن عظم الله تعالى عظَّم شعائره وحرماته ، وهذا الشهر المبارك وفريضة صيامه من أجلِّ شعائر الله وحرماته التي يجب تعظيمها ، والمفطر في نهار رمضان لا تعظيم عنده لربه ولذلك فقد استهتر بشعائره وانتهك حرماته ، إنه والله ممن لا يرجو لله وقاراً .
ألا إن المفطر في رمضان استهانة واستهتاراً فاسق فسقاً عظيماً ترد به شهادته،ويمتنع به المسلمون من تزويجه،لأنه لا يحل لمسلم أن يزوج ابنته من فاسق فاسد الدين مستهين بالفرائض.
ولما كان الفطر في رمضان بغير عذر من أعظم الكبائر فإنه لا يكفره صيامٌ مهما بلغ حتى قال ابن مسعود رضي الله عنه : (من أفطر يوماً في رمضان متعمداً من غير علة ثم قضى طول الدهر لم يقبل منه) وفي لفظٍ قَالَ : مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ لَمْ يُجْزِهِ صِيَامُ الدَّهْرِ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ ، وعَن عَلِي بن أبي طالب رضي الله عنه ، قال : من أفطر يوما من رمضان متعمدا لم يقضه أبدا طول الدهر ، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ رَجُلاً أَفْطَرَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فَأَتَى أَبَا هُرَيْرَةَ فَقَالَ : لاَ يُقْبَلُ مِنْهُ صَوْمُ سَنَةٍ ، وفي لفظ آخر عنه قَالَ : مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ ، لَمْ يَقْضِهِ يَوْمٌ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا ، قال الإمام الطحاوي : فَمِثْلُ ذَلِكَ الْمُفْطِرُ فِي رَمَضَانَ مَأْمُورٌ بِالْقَضَاءِ لكنه غَيْرُ مُدْرِكٍ بِذَلِكَ الْقَضَاءِ مَا كَانَ يُصِيبُهُ لَوْ صَامَهُ فِي عَيْنِه .
وسئل سعيد بن جبير عمن أفطر في رمضان فقال : كان ابن عباس يقول : من أفطر في رمضان فعليه عتق رقبة أو صوم شهر أو إطعام ثلاثين مسكينا .
الخطبة الثانية
يا معاشر الناس : ثمة مجرمين جف ماء الحياء من الله من وجوههم ومردوا على الفجور والاستهانة بالحرمات فهم يجاهرون بإفطارهم وهم أكمل ما يكونون صحة وعافية من الله ، ملأ الجحود عليهم العقول والأفئدة وران على قلوبهم مس من الشيطان والآثام. وما دروا أنهم بإفطارهم يسقطون من عين الله وعيون خلقه .
يقول العلامة محمد رشيد رضا : ( والمجاهرة به معصية أخرى من أكبر الكبائر ، فإن المجاهرة استهانة بالشرع ، وهدم للشعيرة الدينية التي يشترك المسلمون فيها ، حتى كأن المفطر ليس منهم ، وقدوة سيئة لضعفاء الإيمان ، فالمجاهر بهذه الجريمة من الذين يقطعون ما أمر الله به أن يوصل ، ويسعون في الأرض فسادًا ) ، ويقول ابن بطال: في الجهر بالمعصية استخفاف بحق الله ورسوله وبصالحي المؤمنين, وفيه ضرب من العناد لهم ).
وإذا كان الصيام ركن الإسلام العظيم فإن من ألزم ما تعظم به شريعته معاقبة المستهترين بها المضيعين لها لكي لا يؤول أمرها إلى الهوان والاستهتار من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب ، وقد سئل الإمام محمد بن شهاب الزهري عن تارك الصلاة ؟ فقال : إذا ترك الرجل الصلاة لأنه ابتدع – أي اختار - ديناً غير الإسلام قتل ، وإن كان إنما فعل ذلك فسقا ومجونا وتهاونا فإنه يضرب ضربا مبرحا ويسجن حتى يرجع ، قال : والذي يفطر في رمضان كذلك .
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ( إذا أفطر في رمضان مستحلا لذلك وهو عالم بتحريمه استحلالا له وجب قتله ، وإن كان فاسقا عوقب عن فطره في رمضان ) .
معاشر الناس : إن الفطر في نهار رمضان بغير عذر جريمة من الجرائم المحرمة التي يجب على جميع المسلمين أن يتعاونوا في سبيل مواجهتها وردع المقدمين عليها ، وأول ما يقع الواجب في ذلك على الوالدين الذين يجب عليهما أن يربيا أبناءهم على أداء هذه الفريضة منذ نعومة أظفارهم حتى ينشأ الطفل وقد عرف قدر هذه العبادة واحترمها ، وتعود عليها ، فلا يقدر على التهاون بها أو التفريط فيها ، والواجب الثاني يقع على المعلمين والمربين الذي يلزمهم غرس معاني الدين في نفوس الأجيال ، أما الواجب الثالث فيقع على المسؤولين الذين لهم الأمر والنهي ، وكل طرف من هؤلاء راع في محيطه ، وكل راع مسؤول عن رعيته بين يدي الله تعالى .
المشاهدات 1603 | التعليقات 0