الفساد المالي في ميزان الشرع

عبدالله الغامدي
1446/06/04 - 2024/12/06 09:42AM

الـخطبة الأولى:

إنَّ الحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إلَيْهِ، ونعوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فلا مضلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أن لاَ إلَهَ إلا اللَّهُ وَحَدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُه. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون﴾ أما بعد:

جاء الصحابيُّ الجليل حكيم بن حزام إلى النبيِّ ﷺ في بداية إسلامه فطلبه مالًا فأعطاه. ثُمَّ عاد إليه مرةً أخرى؛ فطلبه مالًا فأعطاه، ثم عاد إلى النبي ﷺ مرةً ثالثةً فقال يا رسول الله: أعطني.

فلما رأى النبيُّ ﷺ هذا التشوّف العظيم من حكيمٍ -رضي الله عنه- للمال، وتعلّقهَ الشديدَ به، أراد أن يُبيَّن له أنَّ هذا المال لا حدَّ لشهوته ولا منتهى للرغبة فيه، فقال له في كلماتٍ تنضحُ نصحًا ومحبَّة: ((يَا حَكِيمُ إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِطِيبِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيه،ِ وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ ، وَكَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ)).

وقد وقعت هذه الوصية من حكيمٍ -رضي الله عنه- موقعًا عظيمًا، فقد قال بعد سماعه لهذه الوصيّة النبويّة: "يا رسول الله والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحدًا بعدك شيئًا حتى أفارق الدنيا!".

وقد وفّى حكيمٌ بهذا الوعد طِوال حياتِه حتى أنَّه كان يمنع نفسَه من بعض الحقّ الواجب الذي له؛ تربيةً لنفسه على عدم التعلّق بالمال؛ لئلا يعتاد الأخذ، فيطلب المال يومًا من الأيام بغير حقّ.

وقد وصف بعض من شهد حال حكيم بعد موت النبي ﷺ مع العطايا بقولهم: "كان أبو بكر يدعو حكيمًا فيعطيه العطاء فيأبى ، ثم كان عمر بن الخطاب يعطيه فيأبى ، فيقول عمر : إني أشهدكم يا معشر المسلمين على حكيم بن حزام أني أعرض عليه حقه الذي قُسِمَ له من هذا الفيء فيأبى يأخذه، قال : فلم يرزأ حكيمٌ أحدًا من الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -حتى تُوفِّي".

الإنسان بطبيعتِه – يا كِرام- يُحبُّ المال، وأصل هذه المحبّة لا إشكال فيه، بل قد سطّر الله طبيعة هذه النفس الإنسانية في القرآن حينما قال سبحانه: ﴿وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا أي: حبًا عظيمًا. وقال سبحانه: ﴿وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيد أي: لحبِّ المال -كما قال المفسّرون-.

هكذا طبيعةُ الإنسان في تعلّقه بالمال...لكن ليس معنى هذا أن يُطلق الإنسان العنان لنفسه في حبِّها للمال دون أن يُلجمها أو يربّيها على الاعتدال في حبّ المال؛ لأنّه لو تركها على طبيعتها فربما تُرديه وتهلكه فتجعله يلتمسُ هذا المال بالشبهات والحرام فلا يبالي من أين اكتسب ماله ولا كيف حصّله! فلا بدَّ أن يُربَّى الإنسان نفسَه على التخفّف من شدةّ التعلّق بالمال، كما فعل حكيمٌ -رضي الله عنه- ممتثلًا وصيةَ نبيّه الكريم ﷺ.

ولذلك جاءت الشريعةُ بتربية الناس على ردعهم ومعاقبتهم إذا بالغوا وتجاوزوا الحدّ في حبِّ المال: فإذا وصل حبُّ المالِ إلى درجة أن يسرق الواحد أو يختلس من أموال الآخرين أو المال العام؛ فالشريعة لم تُبرِّر له هذا الفعل بحُجَّة أنَّ الإنسان يُحبُّ المال؛ بل أمرت بمعاقبته بقطع جزءٍ من جسده؛ وهي يده التي سرق بها!  

لأنَّه لو لم تُقطع يده فسيستمر في أكل أموال الناس وسرقتها ولن يشبع من ذلك أبدًا، فلا بدّ أن يُعالج إذا وصل إلى هذه المرحلة من التعلّق بالمال بأن تُقطع يده؛ حتى ينقطع عن السرقة وينضبط في حبّه للمال.

وقد حذّرت الشريعة كذلك تحذيرًا شديدًا ورتّبت وعيدًا عظيمًا على من يصل في حُبِّه للمال وتعلّقه به إلى درجة عدم المبالاة بأن يأخذ رشوةً من المال مقابل خدمات أو تسهيلات ممنوعة لا تُقبل لولا تقديم هذا المراجع أو المستفيد للمال، فأخبر نبيُّنا بعقوبة هذه الجريمة فقال: ((لعن الله الراشي والمرتشي)).

وما فشتْ الرشوةُ في أمةٍ *** إلا وقد نخرَ الفسادُ عِظامَها!

وجميعنا -يا كِرام- يعرف ما معنى (لعن الله) لكن قد ننسى أحيانًا عظمة وخطورة هذه الكلمة.. فأذكر نفسي وإخواني بأنّ معنى لعن الله الراشي والمرتشي: يعني طردهم من رحمته! تخيّل أن الإنسان يُطرد من رحمة الله الواسعة! ومن أجل ماذا؟ من أجل حفنة يسيرة من المال تحرمه رحمة الله في الدنيا والآخرة!

وبعضهم يتحايل على نفسه فيقول هذه ليست رِشوة، هذه فقط أتعاب العمل، هذه هدية مقابل الخدمة التي عملتُها له، هذه مُجرّد بخشيش؛ تعددت الألقاب والجُرم واحد؛ فتغيير الأسماء لا يُغيّر من الحقائق شيئًا:

كم مرتشٍ قلبَ الحقيقةَ باطلًا *** خلعَ الحياءَ وبالأفائكِ يُزبِدُ!

 ولأنَّ النفوسَ تتوسَّع في الأعذار والحجج لأخذ المال؛ فقد أغلق النبيُّ ﷺ هذا الباب تمامًا، فعن أبي حميد الساعدي: ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ اسْتَعْمَلَ عَامِلًا ، فَجَاءَهُ الْعَامِلُ حِينَ فَرَغَ مِنْ عَمَلِهِ ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي فَقَالَ لَهُ: أَفَلَا قَعَدْتَ فِي بَيْتِ أَبِيكَ وَأُمِّكَ فَنَظَرْتَ أَيُهْدَى لَكَ أَمْ لَا ، ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللهِ ﷺ عَشِيَّةً بَعْدَ الصَّلَاةِ فَتَشَهَّدَ ، وَأَثْنَى عَلَى اللهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ : فَمَا بَالُ الْعَامِلِ نَسْتَعْمِلُهُ فَيَأْتِينَا فَيَقُولُ: هَذَا مِنْ عَمَلِكُمْ ، وَهَذَا أُهْدِيَ لِي أَفَلَا قَعَدَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَنَظَرَ هَلْ يُهْدَى لَهُ أَمْ لَا ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا يَغُلُّ أَحَدُكُمْ مِنْهَا شَيْئًا إِلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى عُنُقِهِ ، إِنْ كَانَ بَعِيرًا جَاءَ بِهِ لَهُ رُغَاءٌ ، وَإِنْ كَانَتْ بَقَرَةً جَاءَ بِهَا لَهَا خُوَارٌ ، وَإِنْ كَانَتْ شَاةً جَاءَ بِهَا تَيْعَرُ ، فَقَدْ بَلَّغْتُ فَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ: ثُمَّ رَفَعَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَدَهُ ، حَتَّى إِنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى عُفْرَةِ إِبْطَيْهِ)).

تخيَّل أن هذا الموقف يستدعي من النبي ﷺ أن يقوم خطيبًا ويشتدّ غضبه ويرفع يديه حتى يبدو بياضُ إبطيه من أجل هذا الأمر! حتى يعلم الصحابة -رضي الله عنهم-، ونعلم نحن من بعدهم مقدار شناعة هذا الأمر وخطورته في الدين، فلا نتساهل في أخذ المال بأيّ حُجَّةٍ من الحجج أو عذرٍ من الأعذار.

وبعضُ الموظفين -أصلحهم الله- تتعطّل معاملتُك عنده أشهرًا وربما سنين يقول لك: السِير يحتاج إلى دَهن! وما علم أنَّه يدهن طريقه إلى اللعن والطرد من رحمة الله ويدهن السير إلى جهنم بأخذه لهذه الرشوة.

وفي الطرف الآخر يعرض بعض المراجعين للموظف ويغريه بخدمات وتسهيلات معيّنة في جهته التي يعمل بها، أو يُشير له بإشارات مُعيَّنة، أو يخرج طرف ظرف أو مبلغ مالي؛ حتى ينبهه إلى أنَّه إذا لبّى طلبه وتجاوز النظام فسيعطيه هذا المبلغ وهذه الرشوة

وهذه الطرق هي عينُ ما كان يفعله اليهود؛ فقد جاء عن الحسن: "أنَّ اليهود كان يأتي أحدُهم بمبلغٍ من المال يخفيه تحتَ كُمَّه ليراه القاضي؛ فإذا رآه القاضي لم يلتفت للخصم وحكم لصاحب المال بالباطل".

فاللهم إنَّا نسألك مالًا طيبًا حلالًا مباركًا، ونعوذ بك اللهمّ أن نتطلّب مالًا حرامًا تنبتُ فيه أجسادنا من سُحت

قلتُ ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ فقد أفلح المستغفرون
point.pngpoint.pngpoint.png

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقهِ وامتنانه، وأشهدُ ألا إله إلا الله تعظيمًا لشانه، وأشهدُ أنّ محمدًا عبدهُ ورسولُه الداعي إلى رضوانه، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون﴾ أما بعد:

رُويَ أنَّ عمر بن عبدالعزيز -رحمه الله- لما مات كان نصيب كل واحد من أبنائه تسعة عشر درهمًا فقط! وقد مات وهو خليفةٌ المسلمين! ولما مات هشام بن عبدالملك كان نصيب كل واحد من أولاده ألف ألف! يعني مليون درهم! وهذا مبلغٌ ضخمٌ جدًا في ذلك الوقت.

والناظر بادي الرأي يقول: قد ضيّع عمر بن عبدالعزيز أولاده ومستقبلهم، ولو أخذ من المال العام لخلّف لهم شيئًا عظيمًا كما فعل هشام مع أبنائه يستغنون به عن سؤال الناس!

ولكن العجيب أن بعض من شهد ذلك الزمان يصف ما آل إليه أمر أبناء عمر وأبناء هشام فيقول: "فوالله لقد رأيتُ بعد مدة أحد أبناء عمر بن عبدالعزيز له مئة فرس، ورأيت أحد أبناء هشام بن عبدالملك يسأل الناس الصدقة!" قال الدَمِيريُّ: "وهذا أمرٌ غير عجيب فإن عمر وكلهم إلى ربه فكفاهم وأغناهم، وهشام وكلهم إلى دنياهم فأفقرهم مولاهم".

فلا يقل أحدٌ منّا آخذ المال هذا لأولادي ولعيالي من أجل تأمين مستقبلهم... والله لو اتقيتَ الله في مرتّبك اليسير؛ لأغنى الله أولادك ببركة تحريّك في المال كما أغنى أبناء عمر بن عبدالعزيز مع قلّة ما ترك لهم من المال الحلال. ولو أعطيتهم وتركت لهم مالًا عظيمًا لكن أخذته بالباطل ما أمنت عليهم من أن يصبحوا غدًا فقراء يسألون الناس بعد موتِك في الدنيا، ثم يسألك الله ويحاسبك عليهم في الآخرة.

فلا بارك الله في مالٍ حرامٍ -مهما كانت كثرته- يعرّضنا للعنة الله والطرد من رحمته، ويجعل أجسادنا تنبتُ من نار وسحت، ويحول بيننا وبين قبول دعائنا، وينزع البركة من أموالنا.

فاللهم إنَّا نسألك مالًا طيبًا حلالًا مباركًاـ ونعوذ بك اللهم من مالٍ يُعرّضنا للطرد من رحمتك، أو يمنع إجابة دعواتٍ نرفعُها إليك.

اللهم آمنّا في أوطاننا، ووفّق للحق أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل هذا البلد آمنًا سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين.

ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين،  وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

line.png 




المرفقات

1733467339_خطبة الفساد المالي.pdf

المشاهدات 378 | التعليقات 0