الفساد الإداري والمالي

الحمد لله رب العالمين، أمر بالإصلاح في الأرض فقال ( وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ) وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، قضى بعدم صلاح أعمال المفسدين، وبيَّن بغضه للفساد وأهله، فقال ( وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ) وقال ( إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ) وأشهد أن سيدنا محمدًا رسول الله ﷺ، جاء بدعوة الإصلاح فأعلن الحرب على الفساد المالي؛ فقال عبدالله بن عمر: لعن رسول الله ﷺ الراشي والمرتشي. فاللهم صلى على سيدنا ونبينا محمد النبي الأمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وخلفائه الراشدين المهديين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين. إخوة الإيمان والعقيدة ... يقول ربنا ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ) فالآدميون خلقهم الله لخلافته في أرضه لإقامة أحكامه ودينه وشرعه، فتارة يظهر الفساد على أيديهم، وتارة يظهر الخير. فيظهر الخير إذا تولى الولاية القوي الأمين، فكان الأنبياء عليهم الصلاة يتولون الولايات ويحكمون البلاد. وقد طلب الولاية الصديق يوسف عليه السلام ( قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) وتولى النبي ﷺ إدارة الدولة المسلمة في المدينة.
فالولايات من أعظم القرب لمن توفر فيه ركنا الولاية القوة والأمانة ( إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ) فالقوي هو من لديه خبرة وعلم فيحسن إدارة ما وكل إليه، والأمين هو الذي يضع الأمور في موضعها بحثًا عن المصلحة العامة. وكان يتولى الأمة في الخلافة الراشدة خيار الأمة فلم يعرف الفساد الإداري والمالي في خلافتهم.
فعناية الإسلام منصبة على عدم حصول الفساد ووصول الفاسدين لإدارة الأمة، فالمسئولون في الحكومة المسلمة هم جزء من المجتمع المسلم الذي عني الإسلام بتربيتهم وتهذيبهم. فالإسلام دعا كلَّ مسلم أن يكون رقيباً على نفسه، فحض على مراقبة الخالق كل وقت، وهذه مرتبة الإحسان ( أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنَّكَ إِنْ لاَ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ ) فأنى يتطرق الفساد إلى مسئول يستشعر مراقبة ربه كل لحظة.
وحتى لا يقدم على الولاية غير المؤهلين حذر الإسلام من التطلع للرئاسة وبيَّن العاقبة الأخروية للرئاسة لمن لم يكن مؤهلاً له، قال النبي ﷺ ( إِنَّكم ستَحْرِصُونَ علَى الإمارَةِ ، وإِنَّها ستكونُ ندامَةً وحسرَةً يومَ القيامَةِ ، فنِعْمَ الْمُرِضَعَةُ ، وبئستِ الفاطِمَةُ ) فالولاية الدنيوية نعم المرضعة لما فيها من حصول الجاه والمالِ ونفاذِ الكلمة وتحصيلِ اللذات، وبئست الفاطمة عند ترك الوظيفة لما يترتب عليها من التبعات في الدنيا والآخرة لمن تسورها بغير حق.
من يتطلع للرئاسة لا يولى لأن غالب المتطلعين لها يرونها مغنمًا ووجاهةً لا أمانةً وحملاً، قال أَبُو مُوسَى: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِىِّ ﷺ أَنَا وَرَجُلاَنِ مِنْ بَنِى عَمِّى، فَقَالَ أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمِّرْنَا عَلَى بَعْضِ مَا وَلاَّكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ الآخَرُ مِثْلَ ذَلِك،َ فَقَالَ عليه الصلاة والسلام ( إِنَّا وَاللَّهِ لاَ نُوَلِّى عَلَى هَذَا الْعَمَلِ أَحَدًا سَأَلَهُ، وَلاَ أَحَدًا حَرَصَ عَلَيْهِ ).
وحينما يتقدم غير المؤهل طالبًا للولاية يمنع ويصرح له بعدم صلاحيته، فمصلحة الأمة مقدمة على المصالح الخاصة، يقول أَبُو ذَرٍّ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا تَسْتَعْمِلُنِي!! قَالَ: فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مَنْكِبِي، ثُمَّ قَالَ ( يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ ضَعِيفٌ، وَإِنَّهَا أَمَانَةُ، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إِلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا ) فلم يجامل النبي ﷺ أبا ذر رضي الله عنه حينما لم يكن صالحًا للولاية، على الرغم من زهده وديانته.
وحينما يُعيَّن شخص ثم يتبين عدم صلاحيته للولاية يعزل مهما كان قربه من الحاكم، فصح عن عثمان رضي الله عنه في قصة الوليد بن عقبة وكان أميراً على الكوفة لعثمان، فعزله بسبب شربه الخمر، وكان أخا له من أمه، فلم تكن قرابته لأمير المؤمنين شافعة له في بقائه في الأمارة، فمن خان الأمانة في خاصة نفسه سيخون الأمانة التي للمسلمين.
عباد الله ... الفساد الإداري سوس ينخر في الأمة ومقدراتها، وهو بوابة الفساد المالي، فعالج الإسلام الفساد المالي بإغلاق الأبواب التي توصل له. فحرَّم على الموظف سواء كان في القطاع الخاص أو العام أن يأخذ هدية بسبب عمله سدًّا للذريعة، فربما كانت هذه الهدية رشوة ليتوصل بها المهدي لأمر لا يحل، عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ: اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلا عَلَى صَدَقَاتِ بَنِي سُلَيْمٍ يُدْعَى ابْنَ الْلَّتَبِيَّةِ، فَلَمَّا جَاءَ حَاسَبَهُ قَالَ: هَذَا مَالُكُمْ وَهَذَا هَدِيَّةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(  فَهَلا جَلَسْتَ فِي بَيْتِ أَبِيكَ وَأُمِّكَ حَتَّى تَأْتِيَكَ هَدِيَّتُكَ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا ) ثُمَّ خَطَبَنَا فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ ( أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أَسْتَعْمِلُ الرَّجُلَ مِنْكُمْ عَلَى الْعَمَلِ مِمَّا وَلاَّنِي اللَّهُ، فَيَأْتِي فَيَقُولُ هَذَا مَالُكُمْ وَهَذَا هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لِي، أَفَلا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ حَتَّى تَأْتِيَهُ هَدِيَّتُهُ، وَاللَّهِ لا يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقِّهِ إِلا لَقِيَ اللَّهَ يَحْمِلُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَلأعْرِفَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَقِيَ اللَّهَ يَحْمِلُ بَعِيرا لَهُ رُغَاءٌ أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ أَوْ شَاةً تَيْعَرُ ) ثُمَّ رَفَعَ يَدَهُ حَتَّى رُئِيَ بَيَاضُ إِبْطِهِ يَقُولُ ( اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ ) فمن أخذ المال بغير حق فضح يوم القيامة على رؤوس الأشهاد ( وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ) لذا حذَّركم منها حبيبكم ﷺ فقال ( من استعملناه على عمل فرزقناه رزقًا، فما أخذ بعد ذلك فهو غُلول ).
فالرشوة تؤدي إلى الطرد من رحمة الله تعالى ولعنته وغضبه، هذا في الآخرة، أما في الدنيا: فهي طريق الفساد، وانهيار المؤسسة أو الدولة؛ والرشوة مهدرة للحقوق، معطلة للمصالح، مجرأة للظَلَمة والمفسدين، ما فشت في مجتمع إلا وآذنت بهلاكه، تساعد على الإثم والعدوان، تقدم السفيهَ الخامل، وتُبعِد المجدَّ العامل، تجعل الحق باطلاً والباطل حقًّا، كمْ ضيعت الرشوة من حقوق! وكم أهدرت من كرامة! وكم رفعت من لئيم وأهانت من كريم! الرشوة نقص في الديانة، وضياع للأمانة، وعلامة على الخيانة.
عباد الله ... من يتولى ولاية على المسلمين يحاسب وينظر في ثروته من أين أكتسبها، لا تصلح الولايات إلا بأمرين بتولية الأصلح فالأصلح والمحاسبة، فحتى الصالح يحتاج إلى جهة تحاسبه. عن عائشة رضى الله عنها قالت: قال أبو بكر رضي الله عنه - في مرضه الذي مات فيه: انظروا ما زاد في مالي منذ دخلت في الخلافة، فابعثوا به إلى الخليفة من بعدي. قالت عائشة رضى الله عنها: فلما مات نظرنا، فإذا عبد نوبي يحمل صبيانه، وناضح كان يسقي عليه، قالت: فبعثنا بهما إلى عمر رضي الله عنه، قالت: فأخبرت أن عمر رضي الله عنه بكى وقال: رحمة الله على أبي بكر لقد أتعب من بعده تعبًا شديدًا.
عباد الله ... ولسنا بحاجة إلى استلهام نموذج شرقي أو غربي فعندنا في ديننا وتاريخنا الإسلامي ما أثبت صلاحه في منع الفساد قبل وقوعه فضلاً عن اجتثاثه.
أقول ما تسمعون ...
 
الحمد لله رب العالمين ...
معاشر المؤمنين ... خلال الأيام الماضية قامت حكومتنا الرشيدة بالإصلاح ومكافحة الفساد، بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز حفظه الله ورعاه وأيده ونصره، وقد قال حفظه الله: لن تقوم للوطن قائمة ما لم يتم اجتثاث الفساد من جذوره، ومحاسبة الفاسدين، وكل من أضر بالبلد وتطاول على المال العام، ولم يحافظ عليه أو اختلسه أو أساء استغلال السلطة والنفوذ، وغلَّب المصلحة الخاصة على المصلحة العامة. وقال أيضًا كلامًا يُكتب بماء الذهب: نطبق الأنظمة بحزم على الصغير والكبير لا نخشى في الله لومة لائم، بحزم وعزيمة لا تلين، وبما يُبرئ ذمتنا أمام الله سبحانه ثم أمام مواطنينا. فلله درك يا سلمان الحزم والعزم.
عباد الله ... إن الصلاح والإصلاح ومحاربة الفساد والإفساد طريق للعزة، وسبيل للكرامة، وعنوان للفلاح، ورفعة للأمم، وحفظ للشعوب، وكسب لمرضاة الواحد الأحد، ونجاة من عقابه ( فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ ) وإن الحاجة إلى الإصلاح من الأمور الملحة في حياة الفرد والأمة ( وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ) إن الطريق إلى الصلاح والإصلاح يقتضي العقل والعدل والحكمة حتى تثمر جهود المصلح، وتؤتي أكلها؛ وأما سلوك سبيل المفسدين فلا يصلح، والسير في ركب المنافقين والشهوانيين لا يصلح، وكذلك التهور باسم الدين لا يصلح، والعنف والتخويف والإرهاب لا يصلح، بل هو سبيل المنهزمين، وطريق العابثين؛ إن الطريق الوحيد للإصلاح الحقيقي، الإصلاح النافع الماتع الخيِّر النيِّر: طريق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، قال الإمام مالك رحمه الله ( لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها ).
لذا – عباد الله – علينا بالدعاء لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بالتوفيق والسداد والصواب، ثم لا نتخذ هذه الجهود العظيمة محَلاًّ للسخرية والاستهزاء والشماتة بالمتهمين، وإنما علينا شكر الله تعالى بإظهار الحق وإزهاق الباطل.
الإصلاح في الأرض إنما يتحقق بإقامة شرع الله الأرض، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وإقامة الحدود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ( وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ).
صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلان عليه فقال ....
المشاهدات 1159 | التعليقات 0