الفساد الإداري
علي القرني
ثم العبث بالمال العام، والتحايل على سرقته وتبديده، واستغلال المناصب للسطو عليه، حتى صار الثراء غير المشروع مظهراً واضحاً في المجتمع. ثم تلك المحسوبية في الوظائف والأعمال، وتقريب القريب نسباً أو بلداً أو اقليماً، بِغَضِّ النظَر عن كفاءته وأمانته وصلاحيته للعمل. وجميع ذلك وغيره أمراض خطيرة، ومشكلات كبيرة، تضيع بسببها الحقوق، وتنتشر الرشاوى والمحسوبيات، وغش لولي الأمر الذي ائتمن ذلك الإنسان على ذلك المنصب أو تلك المسئولية. وأعظم ما يعين على تحقيق هذا الهدف تعميق معنى الأمانة ومنزلتها وأهميتها في النفوس، وهي الأمر الذي اعتنت به الشريعة عناية فائقة، فقال تعالى مبينا فرضية أداء الأمانة والتحذير من الخيانة فيها: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) [النساء:58]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) وفي الحديث الصحيح "أَدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخُن مَن خانك". بل بيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن تضييعَ الأمانة من علامات ضعف الإيمان، وأن أداءها على الوجه الأكمل من علامات قوة الإيمان، فعن أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كثيرا ما يقول: "لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له". رواه أحمد في مسنده.
ولذلك كانت تضيع الأمانة من خصال أهل النفاق، فعن ابي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان "
بل أوضح -صلى الله عليه وسلم- أن تضييع الأمانة علامة على اقتراب الساعة؛ لأنها لا تقوم إلا على شرار الناس، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا ضُيِّعَت الأمانة فانتظر الساعة". قيل: كيف إضاعتها يارسول الله؟ قال: "إذا أُسْنِد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة
.رواه البخاري
إنه من الخطر أن يتراجع الإيمان، وتخون الضمائر، ويُنال من المال العام؛ لينتج بعد ذلك مصائب تمطر البلاد والعباد. من الخطر أن تختصر بعض المشاريع الكبرى التي وضعتها الدولة لعموم الناس فتنفذ على الورق وتذهب ميزانيتها إلى جيوب أناس لا يخافون الله استوطنوا المدن لينقضوا على مشاريعها الكبرى بفسادهم، وليعبثوا بالميزانيات، فإذا ما جاءت الأمطار أو غيرها من المصائب أظهرت عوار هذه الفئة من الناس، وتركت المدن تواجه أقدارها.
ومن أعظم الأمانات أمانة الأموال العامة التي تعود للمسلمين، والتي يجب أن يحافظ عليها الإنسان أشد من أن يحافظ على ماله الخاص، أخرج الإمام مسلم في صحيحه عَنْ عَدِيِّ بْنِ عَمِيرَةَ الْكِنْدِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "مَنْ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ فَكَتَمَنَا مِخْيَطًا فَمَا فَوْقَهُ كَانَ غُلُولًا يَأْتِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" قَالَ: فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ أَسْوَدُ مِنْ الْأَنْصَارِ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! اقْبَلْ عَنِّي عَمَلَكَ. قَالَ: "وَمَا لَكَ؟" قَالَ: سَمِعْتُكَ تَقُولُ كَذَا وَكَذَا. قَالَ: "وَأَنَا أَقُولُهُ الْآنَ: مَنْ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ فَلْيَجِئْ بِقَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، فَمَا أُوتِيَ مِنْهُ أَخَذَ وَمَا نُهِيَ عَنْهُ انْتَهَى".
أتدرون ما الغلول؟ وما مصيبة الغلول؟ الغلول-ولو لشيء يسير- قد يذهب بالحسنات العظام، بل حتى بالجهاد في سبيل الله، أخرج البخاري أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قال: افْتَتَحْنَا خَيْبَرَ وَلَمْ نَغْنَمْ ذَهَبًا وَلَا فِضَّةً إِنَّمَا غَنِمْنَا الْبَقَرَ وَالْإِبِلَ وَالْمَتَاعَ وَالْحَوَائِطَ، ثُمَّ انْصَرَفْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى وَادِي الْقُرَى وَمَعَهُ عَبْدٌ لَهُ يُقَالُ لَهُ مِدْعَمٌ أَهْدَاهُ لَهُ أَحَدُ بَنِي الضِّبَابِ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَحُطُّ رَحْلَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذْ جَاءَهُ سَهْمٌ عَائِرٌ حَتَّى أَصَابَ ذَلِكَ الْعَبْدَ. فَقَالَ النَّاسُ: هَنِيئًا لَهُ الشَّهَادَةُ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : "بَلْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَصَابَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ مِنْ الْمَغَانِمِ لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا" فَجَاءَ رَجُلٌ حِينَ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- بِشِرَاكٍ أَوْ بِشِرَاكَيْنِ، فَقَالَ: هَذَا شَيْءٌ كُنْتُ أَصَبْتُهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- شِرَاكٌ أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ".
فلمن يستخدم الأموال العامة من هاتف أو سيارة أو سائق في قضاء مصالحه الخاصة: اتق الله!.
فهذا عمر بن عبد العزيز جاءه أحد الولاة وأخذ يحدثه عن أمور المسلمين، وكان الوقت ليلاً وكانوا يستضيئون بشمعة بينهما، فلما انتهى الوالي من الحديث عن أمور المسلمين وبدأ يسأل عمر عن أحواله قال له عمر: انتظر. فأطفأ الشمعة وقال له: الآن اسأل ما بدا لك. فتعجب الوالي وقال: يا أمير المؤمنين! لم أطفأت الشمعة؟ فقال عمر: كنت تسألني عن أحوال المسلمين وكنت أستضيء بنورهم، وأما الآن فتسألني عن حالي فكيف أخبرك عنه على ضوء من مال المسلمين؟. أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده:
أيها المسلمون: للرشوة آثار سيئة على الأفراد والجماعات، فهي سبب لفساد الأخلاق، وانحطاط الهمم، وسفول الأمم؛ لا يرضاها كسبا له إلا من ضعفت نفسه، ورق دينه، ولا يتخلقها إلا من ذهبت أمانته، وظهرت خيانته، وتقاصرت عن الكسب الحلال همته؛ فأضحى دنيء النفس، يُرضي شهوته ببذل دينه، ويشبع طمعه بتعطيل مصالح إخوانه، ولن يشبع ولو حاز الدنيا كلها؛ إذ مشكلته في فقر قلبه، لا في قلة ذات يده. وإن دخلت الرشوة مجالات الطب والصحة كانت حياة الناس في خطر؛ إذ يتطبب فيهم فاقد العلم والأمانة؛ فلا العلم يسنده في عمله، ولا يملك أمانة تمنعه من التجربة في عباد الله تعالى.
وإذا كانت الرشوة في المناقصات وإرساء العقود؛ تعطلت مصالح العباد، وتقهقر عمرانهم، وتأخرت حضارتهم؛ إذ يرى الناس أنه لا مجال للمنافسة الشريفة في ذلك، فيغادر الأكفاء منهم بلادهم إلى أخرى، يستطيعون فيها المنافسة والإبداع، وما هاجرت كثير من العقول الإسلامية المنتجة إلى البلاد الغربية إلا بسبب الفساد المالي والإداري الذي خيم في كثير من بلاد المسلمين.
وإذا تخلق بالرشوة أهل القضاء، أو حراس الأمن؛ فشت الجرائم، وكثر الاعتداء، ورفع الأمن، وحل الخوف
وما تقدمت بلاد الغرب على بلاد المسلمين بذكاء في عقول أبنائها، ولا بفساد أخلاقها وأعراضها، ولا بتحرر نسائها؛ كما يقول أهل الغش والتدليس والتغريب من دعاة الفساد والإفساد، ولكنها تقدمت بأنظمة صارمة تجاه الغش والرشوة وجميع أنواع الفساد الإداري والمالي، لا محاباة فيها لأحد، ويؤاخذ بها الكبير والصغير على حدٍ سواء. ولا سبيل لنجاة الفرد من عذاب الله تعالى إلا بمراقبته في السر والعلن، والخوف منه، قبل الخوف من الجهات الرقابية، ولا سبيل لنهضة الأمة وتقدمها، وانتشالها من الجهل والتخلف والانحطاط إلا بإقامة العدل، ورفع الظلم، واستعمال الأمين، وإقصاء الخائن، ومكافأة المحسن، ومعاقبة المسيء، ومحاسبة المقصر، وعدم محاباة أحد في ذلك، كبيرا كان أم صغيرا، وإلا كان المزيد من التخلف والانحطاط والذل والتبعية، ولن يكون حال المسلمين إلا كحال بني إسرائيل من قبل: إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد. ثم صلوا وسلموا
المشاهدات 2201 | التعليقات 2
[font="] بارك الله فيك أخي أبا عبد الملك ، موضوعٌ حيٌّ تحت الطلب على الدوام : [/font]
[font="]الفسادُ الإداري و الرشوة والمحسوبيّة و . . سرطانٌ ينخر دواليب الاقتصاد والإدارة ومختلف الهيئات والمؤسسات، طاعونٌ يخفي الجرائم، ويستر القبائح، و يطمِسُ الحقَّ ، وينصُرُ الباطِلَ ، ويغيّر الشروط ، ويُخِلُّ بالمواصفات، ويعبَثُ بالمناقَصَات، ويقدّم المتأخّرين ، و يؤخّر المتقدّمين ،و يرفعُ الخاملين ، ويقضي على الكَفَاءات في الأمّة ، فهل بعد هذا الشرّ من شر . . ؟![/font]
[font="] يا له من فسادٍ يهدّدُ الأمم والمجتمعات ؟! ، به شُلّت مصالحُ الضّعفاء ، و عُقُول النوابغ، ومواهب المفكرين، وجهود العاملين ، وعزائم المجدّين . . ! [/font][font="]
[/font][font="] أي خيرٍ يرتَجى في قومٍ مقياسُ الكفاءةِ فيهِم " الخَرُوف " الذي يتزلَّفُ به الراشي إلى المرتشي ؟! ، و أيُّ رحمةٍ تنزلُ بأمَّة لا تتحرّرُ فيها الحُقُوق والمصالحُ إلاَّ بعد أخذٍ وعطاءٍ للمالِ أو العِرضِ أو الخدماتِ أو غيرِ ذلك لا يَهُم . . ؟! ، وأي إنتاج يرتجى لأعمالٍ ومشاريعَ لا تسيرُ إلا بعد هدايَا الراشين والمرتشين ؟![/font][font="]
[/font][font="]كم نَفِدَت من ثروات ، وهُدّمت من بيوت، وأُهِينَت من نفوس، وارتفعَ باطل، وغابَ حقٌّ واندثَر ، وما كان ذلك إلا بسبب الفساد الإداري . . ! . [/font]
[font="] نسأل الله السلامة والعافية
وحقًّا لديّ انشغالٌ وسؤال : هل ترون إخواني الخطباء أن علاج هذه الظاهرة على مستوى خطابنا نحن الخطباء ينبغي أن يرتكزَ على أسلوب الترغيب ، ام الترهيب ، ام الإقناع والتربية الحضاريّة .. ؟
أرجو من إخواني المشاركة حتى نستفيدَ من خبرات بعضنا البعض ؟ [/font]
علي القرني
من وجه نظري المتواضعة حسب المكان فبعض المساجد تكون في قرية صغيرة وثقافة من هم فيه يحتاجون للترغيب والترهيب بعكس من هم في المدن يحتاجون للترغيب والترهيب والاقناع وتغيير صيغة الخطاب والله أعلم . وشكرا أخي رشيد على مشاركتك
تعديل التعليق