الفرق بين احصاء الخالق والمخلوق . مستفادة من خطب الملتقى
حمود رشيد المقاطي
1443/10/11 - 2022/05/12 23:04PM
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).
أيها المؤمنون: بدَأَ قبلَ أيامٍ مَشْرُوعُ تَعْدَادِ السُّكَّانِ وَالْمَسَاكِنِ الذي يترتب عليه أمورٌ كثيرة في التخطيط والبناء. وللاحصاء أصلٌ شرعي ، كما في صحيح مسلم عَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: : " أَحْصُوا لِي كَمْ يَلْفِظُ الإِسْلاَمَ" ومعنى (احصوا) أي: عُدُّوا. وبوّب البخاري على هذا الحديث بقوله « باب كتابة الإمام الناس ».
لكن لو أردنا أن نقارن بين إحصاء العبد وإحصاء الرب سبحانه وتعالى؛ لوجدنا البون شاسعا والفرق كبيرا, فهو كالفرق بين المخلوق والخالق، وكالفرق بين علم الله -عز وجل- وعلم من سواه، وكالفرق بين ملك الله -سبحانه- وملك سواه، يقول الغزالي: "والعبد وإن أمكنه أن يحصي بعلمه بعض المعلومات فإنه يعجز عن حصر أكثرها؛ فمدخله في هذا الاسم ضعيف كمدخله في أصل العلم".
أيها المؤمنون: إن إحصاء العبد قاصر ضعيف سطحي، وهو مكتسب موهوب له من الله -سبحانه وتعالى-، أما إحصاء الله فشامل ودقيق ومحيط؛ فإنه -عز وجل- يحصي ما خلق ومن خلق، قال -عز من قائل-: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ). وإحصاء الله -تعالى- على سبيل اليقين والقطع؛ بينما إحصاء البشر فظني ومحدود؛ وستظل النسبة بين إحصاء الإنسان وإحصاء الله -عز وجل-؛ كالنسبة بين قدْر ملك الملوك وبين قدْر العبد العاجز المملوك.
عباد الله: قد يعرف الواحد منا عدد أولاده وعدد إخوته وعدد عماته وخالاته، لكن هل من الممكن أن يعلم كم عدد الخطوات التي خطاها منذ تعلم المشي إلى الآن؟! أم كم عدد الكلمات التي نطق بها منذ أطلق بها الله لسانه إلى يومنا هذا؟! أو كم عدد الحروف التي خطتها أنامله على صفحات الأوراق مذ كان يتعلم الكتابة؟! أو كم عدد الأنفاس التي تنفسها منذ أن نزل من بطن أمه؟! وكم مشهد رأته عيناه؟! وكم جملة سمعتها أذناه؟! وكم إنسانًا قابل؟! وكم خاطرة خطرت بباله؟! وكم طريقًا قطع؟! .إنه لا يعلمها ويستحيل على كل مخلوق أن يعلمها؛ لكن واحد لا سواه قد عدَّها عدًّا وأحصاها إحصاءً وأحاط بكميتها وكثرتها وخواصها إحاطة؛ إنه الله -سبحانه وتعالى-.
أيها المسلمون: إن الله هو الذي احصى كل شيء ومعناه الذي أحاط وعدَّ وأحصى كل شيء من مخلوقاته بعلمه؛ فلا يعزب عنه دقيقها ولا جليلها. فليس معنى الاحصاء في حق الله عز وجل مجرد علم عدد الأشياء كما يصنع البشر -مثلًا- في الإحصاء السكاني لمعرفة عدد مواطني دولة ما، بل معناه يحيط بكل الأشياء جملة وتفصيلًا؛ فيعلم أعدادها وأحوالها وصفاتها ومميزاتها وعيوبها... لا يخفى عليه شيء من أمرها، قال -تعالى-: (وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) ، لذا فقد عطف الله -جل وعلا- العدِّ على الإحصاء في قوله -تعالى-: (لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا) ، والعطف يقتضي المغايرة.
أيها المؤمنون: إن الله -عز وجل- قد أحاط وأحصى بعلمه كل المخلوقات يستوى عنده الدقيق منها والعظيم وما يكون منها في البر أو في البحر أو في السماء أو في الأرض، ويحيط ويحصي بجميع أحوالها وشئونها، ومنها:
أولًا: إحصاء الأعمال الصالحة والطالحة على أصحابها؛ فقد وكَّل الله -سبحانه- بكل إنسان ملكان يكتبان أعماله ويحصيانها عليه، قال -تعالى-: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ) ، وقال -سبحانه وتعالى-: (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) ؛ فهما ملازمان للإنسان لإحصاء أعماله له أو عليه حتى مجرد الكلمات يكتبانها، قال -عز من قائل-: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ). وإنما يحصي الله -عز وجل- هذه الأعمال؛ ليواجه بها العبد يوم القيامة ويجازيه على أساسها، قال -تعالى-: (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا). وعندها يفاجئ الإنسان بما أحصاه المحصي -عز وجل- عليه من أعمال قد نساها أو أعمال احتقرها ولم يتوقع خطورتها، قال -تعالى-: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ). ويفاجئون -أيضًا- بأن هذا الكتاب ما ترك شيئًا إلا وأحصاه؛ الصغائر والكبائر، فيا حسرة الظالمين يوم القيامة، يقول الله: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا).
ثانيًا: إحصاء أعداد المخلوقات وصفاتها وأحوالها؛ فإن الله -عز وجل- قد أحصى أفراد مخلوقاته وأجزاءها وصفاتها، فهو الذي زودها بكل ذلك، يقول -تعالى-: (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا).
ثالثًا: الإحصاء العام لكل شيء؛ فالله -عز وجل- يعلم عدد حبات الرمال وأوراق الأشجار ونجوم السماء وأمواج البحار وقطرات الأمطار والزبد فوق المياه، ويحصي -عز وجل- مواقع الأقدام وخطرات النفوس ووساوس الصدور وكل زفير وشهيق وكل متحرك وساكن وكل مؤمن وكافر، يقول الجليل -سبحانه وتعالى-: (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا). أقول ماسمعتم...
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد: أيها المؤمنون: على المؤمن واجبات كثيرة تجاه معرفته بصفات الله سبحانه، ومنها ما يلي:
أن يراقب العبد ربه -عز وجل- في سره وعلانيته ويبتعد عن المعاصي ويحصي على نفسه أعمالها؛ لعلمه أن كل ما يفعله يحصيه عليه الله جل جلاله ثم يجازبه به يوم القيامة، قال الله -تعالى-: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)،
ومنها: أن يحصي المؤمن أيام عمره ويهتم لفواتها ويوقن أن كل يوم يمر عليه هو نقصان من أجله وقرب له إلى نهايته؛ فيعتبر بمرور الساعات والدقائق ويجد في اغتنامها بالأعمال الصالحات والقربات؛ فإن ما يمر منها لا يعود إلى يوم القيامة الذي لا تزال تُحصى عليه أعماله حتى يفضي إليه، قال -تعالى-: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ).
ومنها: أن يحاول إحصاء وتعداد نِعَمَ الله عليه التي عمته وشملته وأغرقته؛ وذلك ليؤدي شكرها بالقلب وباللسان وباستخدامها فيما يرضي الله ، مع يقينه أنه مهما حاول أن يحصيها فلن يستطيع أبدًا لغزارتها وتنوعها، وهذا ما قرره .الله في كتابه حين قال: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا).