الفرص بين الاستغلال والإهمال

محمد بن إبراهيم الشمسان
1442/01/15 - 2020/09/03 07:33AM
الحمد لله رب العالمين، جعل الأيامَ دولا, والحياةَ فرصاً، وفق من شاء من عباده، فعمروا أوقاتهم بالخير والتقوى، وخذل آخرين بعدله، فلم يسلكوا للخير درباً، ولم يطرقوا للتوفيق باباً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن بهديهم اهتدى.
أما بعد:- فاتقوا الله أيها المؤمنون، واستشعروا رقابته عليكم، واطلاعَه على أعمالكم، اتقوه قبل ﴿أَن تَقُولَ نَفۡسٞ يَٰحَسۡرَتَىٰ عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِي جَنۢبِ ٱللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ ٱلسَّٰخِرِينَ (٥٦) أَوۡ تَقُولَ لَوۡ أَنَّ ٱللَّهَ هَدَىٰنِي لَكُنتُ مِنَ ٱلۡمُتَّقِينَ (٥٧)﴾[الزُّمَر:56-57].
أيها المؤمنون: روى الإمام مسلم في صحيحه عن رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ الْأَسْلَمِيّ رضي الله تعالى عنه، قَالَ: كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ، فَقَالَ لِي: (سَلْ)، فَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ. قَالَ: (أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ)، قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ. قَالَ: (فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ).
وفي رواية عند الإمام أحمد أن ربيعةَ رضي الله عنه قال: (كُنْتُ أَخْدمُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَقُومُ لَهُ فِي حَوَائِجِهِ نَهَارِي أَجْمَعَ, حَتَّى يُصَلِّيَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ, فَأَجْلِسَ بِبَابِهِ إِذَا دَخَلَ بَيْتَهُ, أَقُولُ: لَعَلَّهَا أَنْ تَحْدُثَ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَاجَةٌ)، وفي رواية له (فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمًا لِمَا يَرَى مِنْ خِفَّتِي لَهُ وَخِدْمَتِي إِيَّاهُ: "سَلْنِي يَا رَبِيعَةُ أُعْطِكَ").
أحبتي: إن من أعظم التوفيق للعبد أن يكون مسارعاً لاغتنام الفرص قبل فواتها، والاستفادةِ منها قبل ذهابها، فقد لا تعود أبدا.
في حياة الكثير منا تأتي فرصٌ متنوعة دينيةٌ ودنيوية، فترى الناس مختلفين في استغلالها، والاهتمامِ بها.
وفي هذا الحديث نرى كيف جاءت ربيعةَ بنَ كعبٍ رضي الله عنه فرصة عُمُر لا تعوض، فالمصطفى صلى الله عليه وسلم يقول له: سَلْنِي أُعْطِكَ! .. ألا ما أجملَ هذا العرضَ النبويَّ الكريم!
فالمتكلمُ هو محمدٌ صلى الله عليه وسلم خليلُ الرحمن ورسولُه إلى العالمين.
والعرض مفتوحٌ لم يقيَّد بشيء.
لقد أخذ هذا العرضُ النبويّ بلُبِّ ربيعةَ بنِ كعبٍ رضي الله عنه، حتى جاء في بعض الروايات أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَنْظُرُ فِي أَمْرِي يَا رَسُولَ اللهِ ثُمَّ أُعْلِمُكَ ذَلِكَ"، وفي رواية أن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال له حين أخبره بسؤاله: (مَنْ أَمَرَكَ بِهَذَا يَا رَبِيعَةُ؟), قُلْتُ: لَا وَاللهِ الَّذِي بَعَثَكِ بِالْحَقِّ مَا أَمَرَنِي بِهِ أَحَدٌ, وَلَكِنَّكَ لَمَّا قُلْتَ لِي: "سَلْنِي أُعْطِكَ", وَكُنْتَ مِنْ اللهِ بِالْمَنْزِلِ الَّذِي أَنْتَ بِهِ, نَظَرْتُ فِي أَمْرِي, وَعَرَفْتُ أَنَّ الدُّنْيَا مُنْقَطِعَةٌ وَزَائِلَةٌ, وَأَنَّ لِي فِيهَا رِزْقًا سَيَأتِينِي, فَقُلْتُ: أَسْأَلُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لِآخِرَتِي, فَصَمَتَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - طَوِيلًا, ثُمَّ قَالَ لِربيعة: (إِنِّي فَاعِلٌ, فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ).
ألا ما أعظمَ عقلَ ربيعةَ بنِ كعبٍ رضي الله عنه حيث تصاغرت بين يديه مطالبُ الدنيا، فلم يرَ منها شيئا ذا بال، يستحق أن يُطلبَ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعظُمت في عينه الآخرة، فهي الدار الباقية، فتوجه بطلبه العظيم .. "أسألك مرافقتك في الجنة".
يا ألله .. كم هي عظيمةٌ هذه النفوسُ حين تتخلصُ من التشبث بالدنيا والتعلقِ بها، ويعلو في حسها التعلقُ بالآخرة وتذكرُ أحوالها..
أيها المؤمنون: والعبد تعرض له في حياته فرصٌ دينيةٌ ودنيوية، فعليه أن يغتنم كلَّ فرصة تكون سببا في استقامةِ أمره، ونماءِ علمه، وامتدادِ أثره، ومشاركتِه الفاعلة في نفع بلده وأمته.. وهل الحياةُ إلا فرص يبادر إليها النابهون الموفقون، فيتقدمون ويسبقون، ويتباطؤ عنها الكسالى والمترددون.. فيتأخرون ويخسرون.
ورب فرصة أورثت صاحبها عزّ الدنيا والآخرة..
فهذا عُكَّاشةُ بنُ مِحْصَنٍ -رضي الله عنه- سمع النبيّ -صلى الله عليه وسلم- يذكر أن سبعين ألفًا يدخلون الجنةَ بغير حساب ولا عذاب، فقام فقال: يا رسولَ اللهِ، ادعُ اللهَ أن يجعلني منهم، قال: (اللهم اجعله منهم)، ثم قام رجل من الأنصار فقال: يا رسولَ اللهِ، ادعُ اللهَ أن يجعلني منهم، فقال: (سبَقَكَ بها عُكَّاشةُ).
فتأمَّلْ -أيها المبارك- كيف بادَر عُكّاشةُ -رضي الله عنه- فاغتنَم هذه الفرصةَ، ففي لحظة واحدة، فاز بدخول الجنة من غير حساب ولا عذاب.
معاشرَ المؤمنينَ: إن كلَّ فرصة في الخير تعرض للإنسان فهي مَغْنَم، مهما صَغُرَ حجمُها وقلَّ وزنُها، قال صلى الله عليه وسلم: (لقد رأيتُ رجلًا يتقلب في الجنة في شجرة قطَعَها من ظهر الطريق كانت تؤذي الناس).
ويقول صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالا يرفعه الله بها درجات)، هذا هو حال المسلم، ينتهز كل فرصة للعطاء مهما كان قليلاً، ويبذل كل جهد مهما كان يسيراً.
فكن يا عبدالله صاحب همةٍ عالية، ونفسٍ تواقة، فلا ترض بالدُّون، ولا تعش عيشة البطالين والكسالى، الذين لا يميزون بين جوهرة وبصلة، ولا بين صقر وغراب، يتفننون في تضييع الأوقات، وتفويت الفرص، فقل لي بربك أيّ مجد يصنعون، وأيّ مستقبل ينتظرون، وهل سيحصدون إلا الهباء؟ وهل سيشربون إلا الهواء؟، أُسَرُهم معهم في عناء، وأمتهم منهم في بلاء.
فيا أيها العاقل:
بَادِرِ الفرصةَ واحذر فوتَها *** فبلوغُ العِزِّ في نَيْلِ الفُرَصْ
واغتَنِمْ عمرَكَ إِذْ بان الصبا *** فَهْو إِنْ زادَ مع الشيب نَقَصْ
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم.
 
الخطبة الثانية 
الحمد لله، ﴿ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلۡمَوۡتَ وَٱلۡحَيَوٰةَ لِيَبۡلُوَكُمۡ أَيُّكُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلٗاۚ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡغَفُورُ﴾[المُلك:2]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فيا أيها المؤمنون: إن الحياةَ كلَّها فرصةٌ للعمل الصالح، فإذا انقضت حياةُ المرء فقد انتهت فرصته في الحياة، فلا مجال للرجوع والعمل مرة أخرى  ﴿حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ ٱلۡمَوۡتُ قَالَ رَبِّ ٱرۡجِعُونِ (٩٩) لَعَلِّيٓ أَعۡمَلُ صَٰلِحٗا فِيمَا تَرَكۡتُۚ كَلَّآۚ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَاۖ وَمِن وَرَآئِهِم بَرۡزَخٌ إِلَىٰ يَوۡمِ يُبۡعَثُونَ (١٠٠)﴾[المؤمنون:99-100].
والصحةُ فرصة، فإن المرء يقدر في صحته على كثير مما لا يستطيعه إذا مرض.
والشبابُ والفراغُ والغنى فرصة، فإن العبد يقدر فيها على كثير مما لا يستطيعه إذا ترحّلت، وحلّ به أضدادُها من المشيب والانشغال والفقر.
وقد أجمل ذلك نبينا صلى الله عليه وسلم في كلام نبوي بليغ، فيه عظة لمن تدبر وعَقِل، قال صلى الله عليه وسلم: (اغتنم خمساً قبل خمس: حياتَك قبل موتك، وصحتَك قبل سقمك، وفراغَك قبل شغلك، وشبابَك قبل هرمك، وغناكَ قبل فقرك).
ثم اعلموا -إخوة الإيمان- أن هناك فُرَصًا لا يمكن تعويضُها، فمن هذه الفرص العظيمة: وجود الوالدينِ؛ فالوالد أوسط أبواب الجنة، فإن شئتَ فحافِظْ على الباب أو ضَيِّعْهُ، جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (رغم أنف، ثم رغم أنف، ثم رغم أنف، قيل: مَنْ يا رسولَ اللهِ؟ قال: مَنْ أدرَكَ أبويه عند الكِبَرِ أحدَهما أو كليهما فلم يدخل الجنةَ).
فيا حسرةَ مَنْ مات والداه أو أحدُهما ولم يغتنم فرصةَ بِرِّهما؛ فإن رضا الرب -سبحانه وتعالى- في رضا الوالدينِ، وسخطُ الرب في سخط الوالدين.
ثم احذروا عباد الله من معوقات استغلال الفرص، فالتسويف والتردد يضيّعان الفرص ويقتلانها.
ومن أصيب بالعجز والكسل والغفلة فوّت الفرص، وأهدر النعم، وقتل الوقت بالبطالة.
وعاجزُ الرأي مضياعٌ لفرصته ... حتى إذا فات أمرٌ عاتب القدرا
إنها دعوةٌ إلى أن تكون قلوبنا يقظةً في استغلال الفرص قبل رحيلها، وأن نتذَكَّر بأن الفرص نعمة، والنِّعم إذا ذهبت ربما لا ترجع، فمَن آثَر عجزَه وكَسَلَه، وفوَّت الفرصَ على نفسه نَدِمَ في وقت لا ينفعه فيه الندمُ، ﴿يَوۡمَئِذٖ يَتَذَكَّرُ ٱلۡإِنسَٰنُ وَأَنَّىٰ لَهُ ٱلذِّكۡرَىٰ (٢٣) يَقُولُ يَٰلَيۡتَنِي قَدَّمۡتُ لِحَيَاتِي (٢٤)﴾[الفجر:23-24].
اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحوُّل عافيتك، وفُجاءة نقمتك، وجميع سخطك.
المشاهدات 1039 | التعليقات 0