الفرح بالمعاصي
هلال الهاجري
الحمدُ للهِ على ما أعطانا ومنحَنا، والحمدُ للهِ على ما صرَف عنَّا ومنَعنا، سبحانَه وأشكرُه، يَبتلي بالسَّراءِ والضَّراءِ ليَظهَرَ الشَّكورُ من الكفورِ، والجَزوعُ من الصَّبورِ: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ)، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له المحمودُ على كلِّ حالٍ، الخيرُ بيديه، والشرُ ليس إليه، وهو الكبيرُ المتعالُ، وأشهدُ أنَّ سيّدَنا ونبيَّنا محمَّدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، لا خيرَ إلا دلَّ الأمةَ عليه، ولا شرَّ إلا حذَّرها منه؛ صلى اللهُ وسلَّم وباركَ عليه، وعلى آلِه الأطهارِ وأصحابِه الأخيارِ خيرِ صحبٍ وأكرمِ آلٍ، والتابعينَ ومن تبعَهم بإحسانٍ، صلاةً وسلامًا دائمينِ بالغدوِّ والآصالِ، وسلَّم تسليمًا كثيرا .. أما بعدُ:
كانتْ خَطْرةً خبيثةً تحومُ في البالِ، ما بينَ الحقيقةِ والخيالِ، حتى أصبحتْ فِكرةً قويَّةً، لها تفاصيلُها الجليَّةُ، ثُمَّ تحولتْ إلى هِمَّةٍ وعزيمةٍ، لها خِطةٌ لتنفيذِ الجريمةِ، وهاهي تقعُ في حيِّزِ التَّنفيذِ، فيختلطُ على قلبِه الحنظلُ باللَّذيذِ، فتستقرُ المعصيةُ في حياتِه كالعادةِ، ويشعرُ في مُباشرتِها بالسَّعادةِ.
بعدَها ينغمسُ العبدُ بينَ المُوبقاتِ، ظُلماتٌ فوقَ ظُلماتٍ، فَفرحُه بالذَنبِ أعظمُ عندَ اللهِ من الذَّنبِ نفسِه، وضِحكُه وهو يُقارفُ الذَّنبَ أعظمُ عندَ اللهِ من الذَّنبِ نفسِه، فكيفَ يفرحُ بالذَّنبِ من يعلمُ أنَّ له ربَّاً قديراً؟، كيفَ يفرحُ بالذَّنبِ من يعلمُ أنَّه به سميعاً بصيراً؟، كيفَ يفرحُ مؤمنٌ بالذَّنبِ وهو يعلمُ أنَّ ربَّه عليه غضبانُ؟، كيفَ يفرحُ مؤمنٌ بالذَّنبِ وهو يعلمُ أثرَ الذَّنوبِ على الفردِ والأوطانِ، وصدقَ أبو العتاهيةَ:
إذا ما خلوْتَ، الدّهرَ يوْماً، فلا تَقُلْ * * * خَلَوْتَ ولكِنْ قُلْ عَلَيَّ رَقِيبُ
ولاَ تحْسَبَنَّ اللهَ يغفِلُ سَاعةً * * * وَلا أنَ مَا يَخفَى عَلَيْهِ يَغيبُ
لهَوْنَا، لَعَمرُ اللّهِ، حتى تَتابَعَتْ * * * ذُنوبٌ على آثارهِنّ ذُنُوبُ
ولذلكَ ذكرَ ابنُ حجرَ الهَيتميُّ في كتابِه (الزَّواجرِ) أنَّ من جُملةِ الكَبائرِ: (فرحُ العبدِ بالمعصيةِ، والإصرارُ عليها، ونسيانُ اللهِ تعالى والدَّارِ الآخرةِ، والأمنُ من مكرِ اللهِ، والاسترسالُ في المعاصي).
لا شَكَّ أن الخطأَ والنَّقصَ والضَّعفَ هو من طبيعةِ العبدِ، ولكن ماذا بعدَ الضَّعفِ والخطأِ؟، اسمعْ كيفَ يتعاملُ أهلُ الجنَّةِ مع الذُّنوبِ: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ)، مُباشرةً بعدَ الذَّنبِ، (فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ)، فطلبوا العفوَ والصَّفحَ، (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ)، الإقلاعِ عن الذَّنبِ، وليسَ الفرحُ به، فما هو جزاءُ هؤلاءِ؟، (أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ)، فبُشرى لكَ أيَّها العبدُ الضَّعيفُ المُحتارُ، فليسَ بينكَ وبينَ الجنَّةِ إلا الاستغفارُ وعدمُ الإصرارِ.
هل تعلمْ كيفَ كانَ يتعاملُ السَّلفُ مع ذنوبِهم القديمةِ؟ .. لَقِيَ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زَيْدٍ، عُتْبَةَ الْغُلَامَ فِي رَحَبَةٍ الْقَصَّابِينَ فِي يَوْمٍ شَاتٍ شَدِيدِ الْبَرْدِ فَإِذَا هُوَ يَرْفَضَّ عَرَقًا، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْوَاحِدِ: عُتْبَةُ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَمَا شَأْنُكَ؟، مَا لَكَ تَعْرَقُ فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ؟، قَالَ: خَيْرٌ، قَالَ: لَتُخْبِرَنِّي، قَالَ: خَيْرٌ، فَقَالَ: لِلْأُنْسِ الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ وَالْإِخَاءِ إِلَّا مَا أَخْبَرَتْنِي، قَالَ: إِنِّي وَاللَّهِ ذَكَرْتُ ذَنْبًا أَصَبْتُهُ فِي هَذَا الْمَكَانِ، فَهَذَا الَّذِي رَأَيْتَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ، كيفَ لا، وقد قالَ كعبٌ رحمَه اللهُ: (إِنَّمَا تُزَلْزَلُ الْأَرْضُ إِذَا عُمِلَ فِيهَا بِالْمَعَاصِي، فَتَرْعَدَ فَرَقًا مِنَ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهَا)، فأينَ هذا ومن يفرحُ بذنبِه، ويأنسُ بمكانِ وقوعِه، ويُجاهرُ به، ويُحبُّ ذِكراهُ؟، وقد قالَ صلى اللهُ عليه وسلمَ: (كُلُّ أَمَّتِي مُعَافًى إِلا المُجاهرينَ).
نفعني اللهُ وإياكم بالقرآنِ العظيمِ، وبسنةِ نبيِّه الكريمِ صَلى اللهُ عليهِ وسلمَ، أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكم، فاستغفروه إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ الذي أنعمَ علينا بالإسلامِ وشَرحَ صدورَنا للإيمانِ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له وأشهدُ أن سيدَنا محمداً عبدُه ورسولُه صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه أجمعينَ .. أما بعدُ:
أيُّها الأحبَّةُ .. إنَّ من خطورةِ الفرحِ بالمعصيةِ هو أنَّها سبيلٌ لمحبةِ انتشارِها في كلِّ الأرجاءِ، والفرحِ بظهورِ الفواحشِ ليتسنى له الوقوعَ فيها دونَ حياءٍ، وقد قالَ اللهُ تعالى في أمثالِ هؤلاءِ: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ).
أيُّها الحبيبُ .. إيَّاكَ والفرحَ بالمعاصي فإنَّها سببٌ للذُّلِ بعدَ العِزِّ، فعن جُبيرِ بنِ نُفيرٍ قَالَ: لَمَّا فُتحتْ قُبرصُ وفُرِّقَ بينَ أهلِها، فبكى بعضُهم إلى بعضٍ، رأيتُ أبا الدرداءِ جَالساً وحدَه يَبكي، فقلتُ: يا أبا الدرداءِ ما يُبكيكَ في يومٍ أعزَّ اللهُ فيه الإسلامَ وأهلَه؟، قَالَ: ويحكَ يا جُبيرُ، ما أهونَ الخلقِ على اللهِ إذا هُم تَركوا أمرَه، بينا هي أُمَّةٌ قَاهرةٌ ظَاهرةٌ لهم المُلكُ، تَركوا أمْرَ اللهِ عَزَّ وَجلَّ، فصاروا إلى ما تَرى.
فنبِّه فؤادَك من رَقدةٍ *** فإنَّ الموفَّقَ مَن يَنتبه
وإن كنتُ لم أنتبِه بالذي *** وُعِظْتُ أنا، فانتبِه أنتَ بهِ
اللهمَّ أصلحْ أحوالَنا، اللهم اهدِ قلوبَنا، اللهم حَبِّبْ إلينا الإيمانَ، وزيِّنه في قلوبِنا، وكرِّه إلينا الكفرَ والفسوقَ والعِصيانَ، واجعلنا من الراشدينَ، اللهم آتنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرةِ حسنةً، وقِنا عذابَ النارِ، اللهم إنَّا نعوذُ بك من زوالِ نعمتِك، وتَحوُّلِ عافيتِك، وفُجاءةِ نِقمتِك، وجميعِ سَخطِك، اللهم أصلح أئمتَنا وولاةَ أمورِنا، اللهم اهدهم للإيمانِ، ووفِّقهم لما فيه خيرُ العبادِ والبلادِ يا ذا الجلالِ والإكرامِ.
المرفقات
1671024788_الفرح بالمعاصي.docx
1671024797_الفرح بالمعاصي.pdf