الفرار من الموت

هلال الهاجري
1445/07/19 - 2024/01/31 07:45AM

الحَمدُ للهِ الذي خَلقَ الإنسانَ، فَقَالَ لَهُ: كُنْ، فَكَانَ، يُعطي ويَمنعُ، ويَخفضُ ويَرفعُ، ويَصِلُ ويَقطعُ، ويُشتِّتُ ويَجمعُ، كُلَّ يَومٍ هو في شَأنٍ، يُجيبُ المضطرَ إذا دَعَاهُ، ويَغفرُ للمسيءٍ إذا تَابَ وَأَتَاهُ، ويَجبُر المنكسِرَ إذا لَاذَ بِحِماهُ، يَنْزلُ كُلَّ لَيلةٍ إلى سَماءِ الدُّنيا في ثُلثِ الليلِ الآخرُ فَيُنادي: هَل مِن سَائلٍ فيُعطَى حَاجَتُه، هَل مِن تَائبٍ فَيُتابَ عَليهِ زَلَّتُهُ، هَل مِن مُستغفرٍ فيُغفَرَ لَهُ غَلطَتُهُ، وَأَشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وَحدَه لا شَريكَ لَهُ، وَأشهدُ أنَّ محمدًا عَبدُهُ وَرَسولُهُ، بَعثَهُ رَحمةً لأهلِ الإيمانِ، وحُجَّةً على أَهلِ الظُّلمِ والطُّغيانِ، اللهمَّ صلِّ على عَبدِكَ وَرَسولِكَ محمدٍ وعَلى آلِهِ وأَصحابِهِ، أَهلِ الفَضلِ والعِرفانِ، وذَوي الحفظِ والإتقانِ، عَددَ مَا أَضمَرَ جَنانٌ، ونَطَقَ لِسانٌ، وتَحرِّكتْ أركانٌ، وسلِّم تسليمًا كثيرًا، أَما بَعدُ:

(‌وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ).

لَو قِيلَ لَكَ: هَلْ تَستَطيعُ أَن تَصِفَ العَلاقةَ بينَ الإنسانِ والمَوتِ؟، فَهَلْ عِندَكَ جَوابٌ أَو إجَابَتُكَ السُّكوتُ، ولَكن اسمَعُوا إلى حَقيقةِ هَذهِ العَلاقةِ كَما وَصَفَها أَعظَمُ وَاصِفٍ، قَالَ تَعَالى: (قُلْ ‌إِنَّ ‌الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)، سُبحَانَ اللهِ .. صَدُّقوني لَنْ تَجِدَ وَصفَاً كَهَذا، فهي عَلاقةُ الفِرارِ واللِّقاءِ، فَنَحنُ نَفِّرُ مِنهُ وهو يَنتَظِرُنا في الطَّريقِ، فَكَأنَّنا كُلَّمَا أَسرَعنَا في الهَرَبِ، كَانَ اللِّقاءُ بِالمَوتِ أَقرَبُ.

وتَأمَلوا حَقيقَةَ هَذِهِ العَلاقَةِ في وَاقِعِ حَيَاتِنَا، فَهَا نحنُ نَفِرُّ من ذِكْرِ المَوتِ، ومن المجالسِ التي يُذكرُ فيها، ومن الأماكنِ والأشخاصِ الَّذينَ يُذكِّرونَنا بِهِ، وكَأنَّ ذَلِكَ سَيَزيدُ فِي أَعمَارِنا، فَتأتي الآيَةُ الأخرى لِتَقُولَ لَنَا: (قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً)، لا إلهَ إلا اللهُ .. قَالَ رَجُلٌ للْحَسَنِ البَصريِّ رَحِمَهُ اللهُ‏:‏ يَا أَبَا سَعِيدٍ، كَيْفَ نَصْنَعُ بِمُجَالَسَةِ أَقْوَامٍ يُخَوِّفُونَا، حَتَّى تَكَادَ قُلُوبُنَا تَطِيرُ‏؟، فَقَالَ‏: وَاللَّهِ لَأَنْ تَصْحَبَ أَقْوَامًا يُخَوِّفُونَكَ حَتَّى تُدْرِكَ أَمْنًا، خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَصْحَبَ أَقْوَامًا يُؤَمِّنُونَكَ حَتَّى تَلْحَقَكَ الْمَخَاوِفُ.

إذا أنْتَ لمْ تَرْحَلْ بِزَادٍ مِنَ التَّقَى *** وَلاقَيْتَ بَعْدَ المَوْتِ مَن قد تزَوَّدَا

نَدِمْتَ على أنْ لا تَكُونَ كَمِثْلِهِ *** وأَنَّكَ لَمْ تَرصدْ لِمَا كَانَ أَرصَدَا

ولَكِنْ مَاذا يَنفعُ الفِرارُ عِندَما يَأَتيكَ الموتُ في أَيِّ مَكانٍ، لا يَعصِمُكَ مِنهُ بابٌ ولا جِدارٌ ولا أَعوانٌ، (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي ‌بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ)، لا يَفلِتُ مِنهُ غَنيٌّ ولا فَقيرٌ، ولا صَغيرٌ ولا كَبيرٌ، وَتَرى الأحبَابَ يَنظُرونَ إليكَ نَظرةَ الوَداعِ، ليسَ لَهم في دَفعِ المَوتِ عَنكَ حِيلةٌ ولا مُستَطاعٌ، (فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * ‌تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)، وهَا هو الطَبيبُ يَنظرُ إليكَ نَظرةَ قُنوطٍ واستسلامٍ، وقَد استَهلَكَ كُلَّ الوَسَائلِ ولَكِنَّها لَحظَةُ الخِتامِ.

إنَّ الطَّبيبَ بِطِبِّهِ ودَوائهِ *** لا يَستطيعُ دِفاعَ نَحْبٍ قَد أَتى

ما للطَّبيبِ يَموتُ بالدَّاءِ الذي *** قد كَانَ أَبرأَ مِثلَهُ فِيما مَضى

ذَهبَ المُداوي والمَداوى والذي *** جَلَبَ الدَّواءَ وبَاعَه ومن اشترى

كَيفَ نَفِرُّ مِنَ المَوتِ ونَنسى الاستِعدَادَ لِتِلكَ اللَّحَظاتِ، حِينَ تَأخذُنا سَكرَةٌ ولَكنَّها لَيسَتْ كَالسَّكَراتِ، (وَجَاءَتْ ‌سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ)، لَو نَجى مِنهَا أَحدٌ لَنَجا إَمامُ الأنبياءِ، وسَيِّدُ الأَتقياءِ، فَهَا هُو فِي آخِرِ لَحَظَاتهِ، يُدْخِلُ يَدَيْهِ فِي المَاءِ، وَيَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ، وَيَقُولُ: (لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، إِنَّ لِلْمَوْتِ سَكَرَاتٍ)، ثُمَّ نَصَبَ يَدَهُ فَجَعَلَ يَقُولُ: (فِي الرَّفِيقِ الأَعْلَى) حَتَّى قُبِضَ وَمَالَتْ يَدُهُ.

حَقِيقَةُ عَلاقَتِنا بِالمَوتِ تَرتَبِطُ بِعَلاقَتِنا باللهِ تَعالى، فَكُلَّما كَانَت عَلاقَتُنا باللهِ تَعَالى أَحسنَ وأَجمَلَ، كُلَّمَا كَانَ استِقبَالُنا لِلمَوتِ أَهونَ وأَسهَلَ، قَالَ عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: (مَن أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ الله لِقَاءَه)، فَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنهَا: (إِنَّا لَنَكْرَهُ الْمَوْتَ)، قَالَ: (لَيسَ ذَاكَ، وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ إذا حَضَرَهُ الْمَوْتُ بُشِّرَ بِرِضْوَانِ اللَّهِ وَكَرَامَتِهِ فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إليهِ مِمَّا أَمَامَهُ، فَأَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ، وَأَحَبَّ اللهُ لِقَاءَهُ، وإَّن الْكَافِرَ إذا حَضَرَهُ الْمَوْتُ بُشِّرَ بِعَذَابِ اللَّهِ وَعُقُوبَتِهِ، فَلَيْسَ أَكْرَهَ إليه مِمَّا أَمَامَهُ، فَكَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ، وَكَرِهَ الله لِقَاءَهُ).

وَما المَوْتُ إلاّ رِحْلَةٌ، غَيرَ أَنَّهَا *** مِنَ المَنْزِلِ الفَاني إلى المَنزِلِ الباَقي

أقولُ ما تسمعونَ وأستغفرُ اللهَ العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ من كلِ ذنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرحيمُ.

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ)، أحمدُه كما ينبغي لجلالِ وجهِه وعظيمِ سلطانِه، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن نبيَّنا محمداً عبدُ اللهِ ورسولِه .. أما بعد:

أَيُّهَا الأحبَّةُ .. ذِكرِ المَوتِ فيهِ صلاحُ الدُّنيا والآخرةِ، والذينَ قَالوا: إذا أَصبَحتَ فَلا تَنتظِرِ المَساءَ ، وإذا أمسيْتَ فَلا تَنتَظِرِ الصَّباحَ، هم الذينَ فَتَحوا القَّاراتِ والبِلادَ، وصَنَعوا حَضارةً لَم يَسمَعْ بِمثلِها العِبادُ، واسمعْ إلى مَن جَاءَهم الموتُ وَهُم قد نَسوُه في حَياتِهم ماذا يتَمنَّونَ؟، (لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ)، وَأَما إذا ذَكرنَاهُ اليَومَ فإنَّ الشابَّ يَستقيمُ، والكَبيرَ يَهتدي، والموظفَ يَصدقُ، والتَّاجرَ يَنصحُ، والمسئولَ يُنصِفَ، والحاكِمَ يَعدِلَ، والعَاملَ يُخلِصُ، والوالدَ يُربِّي، والولدَ يُطيعُ، والغنيَّ يُنفقُ، والفَقيرَ يَرضى، حينئذٍ سيكونُ المجتمعُ مجتمعاً صالحاً في دُنياهُ وآخرتِه.

الذي يَنظُرُ إلى الوَاقِعِ بِبصيرةٍ وعِلمٍ، يُلاحظُ أَنَّنا اليَومَ في انغِماسٍ عَجيبٍ في الدُّنيا وشَهَواتِ الحَياةِ، وغَفلةٍ غَريبةٍ عَن اللَّحظَاتِ الأَخيرةِ في هَذهِ الحَياةِ، وصَدِّقوني إنني أَخشَى أَن يَأَتيَنا المَوتُ وَنَحنُ قَد فَرَرنا مِنهُ طُولَ العُمُرِ، فَنقُولَ كَمَا في الآياتِ التي قَرأنَاهَا دُونَ تَدبُّرٍ، (رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ)، رَبِّ أُريدُ دَقيقةً أَستَغفِرُ فِيها وأَتوبُ، أُريدُ سَاعَةً لأُصلي فِيها مَع الجَمَاعةِ في المَسجدِ، أُريدُ يَومَاً لأَتسَامحَ فِيه مع مَن خَاصَمتَهُ، وأَردَّ الحُقوقَ إلى أَهلِها، فَيَأَتي الجَوابُ: (وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ).

اللهمَّ إنا نَسألُكَ عَيشَ السُعداءِ وموتَ الشُهداءِ والحشرَ مع الأتقياءِ ومُرافقةَ الأنبياءِ، ونعوذُ بكَ من جَهدِ البَلاءِ ودَركِ الشَقاءِ وسُوءِ القضاءِ وشَماتةِ الأعداءِ، اللهمَّ اغفر لجميعِ مَوتى المسلمينَ الذين شَهدوا لكَ بالوحدانيةِ ولنبيِّكَ بالرسالةِ ومَاتوا على ذَلكَ، اللهم اجعل خيرَ أعمالِنا خواتمَها، وخيرَ أعمارِنا أواخرَها، وخيرَ أيامِنا يومَ نَلقَاكَ، اللهمَّ أعنَّا على ذكرِك وشُكرِك وحُسنِ عِبادتِكَ، اللهمَّ إنا نَعوذُ بِكَ من مَضلاتِ الفتنِ مَا ظَهرَ منها وما بَطنَ، وإذا أردتَ بعبادِكَ فتنةً فاقبضنا إليك غيرَ مفتونينَ، اللهمَّ أَعزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وأَذلَّ الشركَ والمشركينَ، وَدمرْ أعداءَ الدينِ، اللهمَّ آمنا في أَوطَانِنا، وأَصلحْ أئمتَنا وولاةَ أمورِنا، واجعل ولايتَنا فيمن خَافكَ واتقاكَ واتبعَ رِضاكَ يَا ربَّ العَالمينَ، اللهمَّ وفقْ ولاةَ أَمرِ المسلمينَ لكلِ قَولٍ سَديدٍ وَعَملٍ رَشيدٍ، سبحانَ ربِّك ربِّ العزةِ عما يَصفونَ وسَلامٌ على المرسلينَ والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ.

المرفقات

1706676301_الفرار من الموت.docx

1706676306_الفرار من الموت.pdf

المشاهدات 1434 | التعليقات 0