الْفَتْوَى بِغَيْرِ عِلْمٍ وَبَعْضُ أَحْكَامِ الْمُفْتِي وَالْمُسْتَفْتِي
سعد آل مجري
إِنَّ الحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ( [آل عمران:102]، )يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا( [النساء:1]، )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا([الأحزاب:70-71].
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَصْدَقَ الحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ تَعَالَى، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
عِبَادَ اللهِ: لاَ بُدَّ لِلْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ يُبَيِّنُ لَهُمْ أَحْكَامَ دِينِهِمْ فِيمَا يَقَعُ لَهُمْ، وَلاَ يُحْسِنُ ذَلِكَ كُل أَحَدٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَقُومَ بِهِ مَنْ لَدَيْهِ الْقُدْرَةُ على الْفَتْوَى وَهي مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ. وَمِمَّا يَدُل عَلَى فَرْضِيَّتِهَا قَوْل اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ( وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ ) وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (مَنْ سُئِل عَنْ عِلْمٍ ثُمَّ كَتَمَهُ أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ) أخرجه الترمذي
وتَتَبَيَّنُ مَنْزِلَةُ الْفَتْوَى فِي الشَّرِيعَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَفْتَى عِبَادَهُ، وَقَال ( وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُل اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ )، وَقَال: ( يَسْتَفْتُونَكَ قُل اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ ) وأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَوَلَّى هَذَا الْمَنْصِبَ فِي حَيَاتِهِ ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ مُقْتَضَى رِسَالَتِهِ ، وَقَدْ كَلَّفَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ حَيْثُ قَال: ( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّل إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) فَالْمُفْتِي خَلِيفَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَدَاءِ وَظِيفَةِ الْبَيَانِ، وَقَدْ تَوَلَّى هَذِهِ الْخِلاَفَةَ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابُهُ الْكِرَامُ، ثُمَّ أَهْل الْعِلْمِ بَعْدَهُمْ.
عِبَادَ اللهِ: إن الْفَتْوَى بَيَانُ لأَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى، فَهِيَ قَوْلٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، فالْمُفْتِيَ يَقُول لِلْمُسْتَفْتِي: حُقَّ عَلَيْكَ أَنْ تَفْعَل، أَوْ حَرَامٌ عَلَيْكَ أَنْ تَفْعَل، وَلِذَا شَبَّهَ الْقَرَافِيُّ الْمُفْتِيَ بِالتُّرْجُمَانِ عَنْ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى، وَجَعَلَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ بِمَنْزِلَةِ الْوَزِيرِ الْمُوَقِّعِ عَنِ الْمَلِكِ, وَنُقِل عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ أَنَّهُ قَال: الْعَالِمُ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ ، فَلْيَنْظُرْ كَيْفَ يَدْخُل بَيْنَهُمْ؟
ولذا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُهُ : (أَجْرَؤُكُمْ عَلَى الْفُتْيَا أَجْرَؤُكُمْ عَلَى النَّارِ) أخرجه الدارمي وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى : أَدْرَكْتُ مِائَةً وَعِشْرِينَ مِنْ الْأَنْصَارِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُسْأَلُ أَحَدُهُمْ عَنْ الْمَسْأَلَةِ فَيَرُدَّهَا هَذَا إلَى هَذَا وَهَذَا إلَى هَذَا حَتَّى تَرْجِعَ إلَى الْأَوَّلِ, وَمَا مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ يُحَدِّثُ بِحَدِيثٍ أَوْ يُسْأَلَ عَنْ شَيْءٍ إلَّا وَدَّ أَنَّ أَخَاهُ كَفَاهُ. وَنُقِل عَنْ سُفْيَانَ أَنَّهُ قَال: أَجْسَرُ النَّاسِ عَلَى الْفُتْيَا أَقَلُّهُمْ عِلْمًا، وَنُقِل عَنِ الإِمَامِ مَالِكٍ أَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ يُسْأَل عَنْ خَمْسِينَ مَسْأَلَةً فَلاَ يُجِيبُ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهَا، وَكَانَ يَقُول: مَنْ أَجَابَ فَيَنْبَغِي قَبْل الْجَوَابِ أَنْ يَعْرِضَ نَفْسَهُ عَلَى الْجَنَّةِ وَالنَّارِ. وَسُئِلَ الشَّافِعِيُّ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَسَكَتَ, فَقِيلَ: أَلَا تُجِيبُ؟ فَقَالَ: حَتَّى أَدْرِيَ الْفَضْلُ فِي سُكُوتِي أَوْ فِي جَوَابِي. وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْأَزْدِيُّ: إنَّ أَحَدَهُمْ لَيُفْتِي فِي الْمَسْأَلَةِ لَوْ وَرَدَتْ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ لَجَمَعَ لَهَا أَهْلَ بَدْرٍ.
إِخْوَةَ الإِيمَانِ: إِنَّ الإِفْتَاءَ بِغَيْرِ عِلْمٍ حَرَامٌ وكَبِيرةٌ مِنَ الْكَبَائِرِ، لأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْكَذِبَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ، وَيَتَضَمَّنُ إِضْلاَل النَّاسِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ( وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) وقَالَ تَعَالَى: ( قُل إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّل بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)، فَقَرَنَهُ بِالْفَوَاحِشِ وَالْبَغْيِ وَالشِّرْكِ، وَقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ صُدُورِ الْعُلَمَاءِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالاً ، فَسُئِلُوا، فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا) . أخرجه البخاري
والْمُسْتَفْتِيَ إِنْ فَعَل بِنَاءً عَلَى الْفَتْوَى, أَمْرًا مُحَرَّمًا أَوْ أَدَّى الْعِبَادَةَ الْمَفْرُوضَةَ عَلَى وَجْهٍ فَاسِدٍ، حَمَل مَنْ أَفْتَاهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِثْمَهُ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ أَفْتَى بِغَيْرِ عِلْمٍ كَانَ إِثْمُهُ عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ) . أخرجه الحاكم وصححه. رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (أَنَّ رَجُلاً أَصَابَهُ حَجَرٌ فَشَجَّهُ فِي رَأْسِهِ ثُمَّ احْتَلَمَ، فَسَأَل أَصْحَابَهُ هَل تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ ؟ قَالُوا : مَا نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً، وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ، فَاغْتَسَل فَمَاتَ، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللَّهُ, أَلاَ سَأَلُوا إِذَا لَمْ يَعْلَمُوا فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَال إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيَعْصِبَ) أخرجه أبو داود
مِنْ أَجْل ذَلِكَ كَثُرَ النَّقْل عَنِ السَّلَفِ إِذَا سُئِل أَحَدُهُمْ عَمَّا لاَ يَعْلَمُ أَنْ يَقُول لِلسَّائِل: لاَ أَدْرِي. وَسُئِلَ الشَّعْبِيُّ عَنْ مَسْأَلَةٍ, فَقَالَ: لَا أَدْرِي , فَقِيلَ لَهُ : أَلَا تَسْتَحْيِي مِنْ قَوْلِكَ لَا أَدْرِي وَأَنْتَ فَقِيهُ أَهْلِ الْعِرَاقِ؟ فَقَالَ: لَكِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمْ تَسْتَحِي حِينَ قَالُوا: ( لَا عِلْمَ لَنَا إلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ) وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: تَعَلَّمْ لَا أَدْرِي, فَإِنَّكَ إنْ قُلْتَ لَا أَدْرِي عَلَّمُوكَ حَتَّى تَدْرِيَ, وَإِنْ قُلْتُ: أَدْرِي سَأَلُوكَ حَتَّى لَا تَدْرِيَ.
فَالَّذِي يَنْبَغِي لِلْمسلم أَنْ يَكُونَ مُتَهَيِّبًا لِلإِفْتَاءِ، لاَ يَتَجَرَّأُ عَلَيْهِ إِلاَّ حَيْثُ يَكُونُ الْحُكْمُ جَلِيًّا فِي الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ، أَوْ يَكُونُ مُجْمَعًا عَلَيْهِ، أَمَّا فِيمَا عَدَا ذَلِكَ مِمَّا تَعَارَضَتْ فِيهِ الأَقْوَال وَالْوُجُوهُ وَخَفِيَ حُكْمُهُ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَثَبَّتَ وَيَتَرَيَّثَ حَتَّى يَتَّضِحَ لَهُ وَجْهُ الْجَوَابِ، فَإِنْ لَمْ يَتَّضِحْ لَهُ تَوَقَّفَ.
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ وَخَطِيئَةٍ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
المرفقات
بِغَيْرِ-عِلْمٍ-وَبَعْضُ-أَحْكَامِ-ا-2
بِغَيْرِ-عِلْمٍ-وَبَعْضُ-أَحْكَامِ-ا-2