الفاكهة المسمومة - الشيخ راشد البداح

الفريق العلمي
1439/01/20 - 2017/10/10 07:52AM

16 /1 /1439 هـ . 

 

الحمد لله بارئ البريات، المطلع على الضمائر والنيات، وسع كل شيء رحمة وعلماً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، خاتم الأنبياء، وأكرم من مشى تحت أديم السماء. اللهم صلِ وسلم على عبدك ورسولك محمد نبي الرحمة، وعلى آله وأصحابه خير صحب وآل من خير أمة، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما تجددت نعمة بعد نعمة. أما بعد: فاتقوا الله-رحمكم الله- واستعدوا للرحيل فقد جد بكم، فالأجل فاجع، والأمل خادع.

 

لو أن زميلك سرق منك 100 ريال؛ ألا تنهره وتعتبره خائنًا؟ فما لك  لا تبالي وأنت ترى آلافًا من الحسنات تُسرق منك؟

 

في المكالمات الدولية نختصر الكلام لأجل غلاء قيمة الدقيقة, فما بالك تسهب في فري أعراض الخلق، وأنت تعلم بأن كل كلمة باطلة تخرج منك تحاسب عليها حسابًا عسيرًا؟!

 

إنه اللسان؛ أعظم الجوارح اختراقاً للحرمات، وهو وإن كان صغير الجِرْم لكنه عظيم الجُرْم. (وكم ترى من رجل متورع عن الفواحش والظلم، ولسانه يفري فى أعراض الأحياء والأموات ولا يبالي ما يقول )([1]).

 

ومن حصائد اللسان وآفاته: آفة الغيبة؛ وإنها لفاكهة لكنها مسمومة، ومرغوبة لكنها مُهلكة.

 

(والمغتاب مشؤوم على نفسه ومشؤوم على جلسائه؛ لأنهم إذا لم يُنكروا عليه صاروا شركاء له في الإثم، وإن لم يقولوا شيئًا)([2]).

 

قال الله تعالى: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ }. قال ابن عباس: إنما ضرب الله هذا المثل للغيبة؛ لأن أكل لحم الميت حرام مستقذر، وكذا الغيبة([3]).

 

والإنسان إذا أراد ان يجتنب شيئًا لابد أن يَعلمه حتى يجتنبه. إذًا فما ضابط الغيبة؟ وضابطها ما قاله رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم: أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ ». قَالُوا:  اللَّهُ   وَرَسُولُهُ  أَعْلَمُ. قَالَ: ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ » ([4]).

 

قال النووي: سواء ذكرته باللفظ أو بالإشارة والرمز([5]).

فيا من تغتاب: أتدري لماذا تغتاب؟

 

(لِأَنَّك إنَّمَا تَنَقَّصْتَ غَيْرَك بِفَضِيلَةٍ وَجَدْتهَا عِنْدَك، وَإِنَّمَا اغْتَبْته بِمَا تَرَى أَنَّك مِنْهُ بَرِيءٌ.. فَلَوْ عَقَلْتَ أَنَّ فِيك مِنْ النَّقْصِ أَكْثَرَ لَاسْتَحْيَيْتَ أَنْ تَغْتَابَهُ بِمَا فِيك أَكْثَرُ مِنْهُ([6]).

 

ومن الدوافع أيضًا الحسد فمن الناس من تثور ثائرته عند سماعه الثناء على من ينافسه، فلا يجد مُتنفّسًا له إلا بالقدح؛ ليثنيهم عن المدح.

 

( عبدَ الله! إن الوقيعة في الأعراض بضاعة الجبناء، وكفُّ اللسان عن المسلمين سمة الأتقياء، الذين اجتنبوا الغيبة والهمز واللمز كما تجتنب النجاسات، فلا يسمحون بأن تدار في مجالسهم، كما لا يسمحون لكؤوس الخمر أن تدارَ فيها.

 

فهاهو الإمام البخاري عليه رحمة الله يقول: إني لأرجو أن ألقى الله ولا يحاسبني أني اغتبت أحداً.

والحافظ ابن دقيق رحمه الله يقول: ما تكلمت بكلمة ولا فعلت فعلاً إلا وأعددت له جواباً بين يدي الله.

 

ومن أعجب الأقوال قول الشيخ محمدٍ الأمينِ الشنقيطي رحمه الله - وقد توفي قبل ست وأربعين سنة - . يقول: لَقتلُ الأولاد ونهبُ الأموال أهونُ عندي من أخذ الحسنات من رجلٍ كبيرٍ مثلي. ولما اغتاب رجل في مجلسه، فنهاه الشيخ بهدوء، فقال المغتاب: أنا المتكلم لا أنت، يعني:لا تحاسبني على كلامي، فقال الشيخ: إما أن تَسكت بأدب، أو تَخرج)([7]).

 

ولما قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - : حَسْبُكَ مِنْ صَفِيَّةَ كَذَا وَكَذَا!-تَعْنِي قَصِيرَةً- فَقَالَ: لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ!([8]).

 

كلمةٌ واحدة تفسد ماء البحر!! فاللهم رحماك رحماك؛ فإن ألسنَتنا أفسدتْنا، وكلماتِنا كَلَمَتْنا.

 

ولقد كانت الغيبة عند الصحابة نادرة الوقوع، وإليكم الدليل من هذه القصة الصحيحة: يقول جَابِرٌ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَارْتَفَعَتْ رِيحُ جِيفَةٍ مُنْتِنَةٍ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:أَتَدْرُونَ مَا هَذِهِ الرِّيحُ؟ هَذِهِ رِيحُ الَّذِينَ يَغْتَابُونَ الْمُؤْمِنِينَ([9]).

 

ولمّا كانت الغيبة في عهدهم قليلةً شُم لها ريح، ولما كثرت في أزماننا لم نتبين رائحتها المنتنة.

 

ومن أراد كفارة الغيبة فعليه بالاستغفار لمن اغتابه، وذكره بمحاسن ما فيه في المواطن التي اغتابه فيها. وأما إعلامه فإنه يوغر صدره ويؤذيه، ولعله يهيج عداوته ([10]).

 

(وكثير من أهل الغِيبة إذا نُصِحوا قالوا: نحن لا نكذب عليه هو يعمل كذا! ولقد قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهتَّه..وإن كنت صادقًا في قولك مخلصًا في نصحك فوجدت في أخيك عيبًا فالواجب عليك أن تناصحه. هذا هو مقتضى الإخوة الإيمانية)([11]).  ( فإن خفت منه وجب عليك الإِنكارُ بقلبك، ومفارقةُ ذلك المجلس إن تمكنت)([12]).

 

نعم؛ ( تباح الغيبة لستة أسباب:

أحدها: التظلم إلى السلطان والقاضي، ومسئول يأخذ لك حقك.

الثاني: الاستعانة على تغيير المنكر لمن يرجو قدرته.

الثالث: الاستفتاء. كأن يقول للمفتي: ظلمني فلان، فهل له؟

الرابع: تحذير المسلمين من الشر.

الخامس: أن يكون مجاهراً بفسقه أو بدعته، فيذكره بما يجاهر به فقط.

السادس: التعريف لا الانتقاص، كمَنْ لا يُعرف إلا بلقب، كالأعرج)([13]).

 

أيها المسلمون: ومن أقبح الغِيبةِ غِيبةُ ولاةِ الأمور من العلماء والأمراء، وأهلِ الفضل والصلاح والذين يأمرون بالقسط من الناس. يَحُطُّون من أقدارهم، وينزعون الثقة بهم، يطعنون في أعمالهم وجهودهم، بل لا يُذكر عظيم إلا انتقصوه، ولا يتميز مسؤول إلا مَقَتوه، يَمشون بالكذب والتدليس، والمغالطة والتشويش. يُحْيون العصبيات، ويَتهمون النيّات، ويوزعون الاتهامات. حمَّالو الحطب، ومشعلو اللهب. فالعيون غمازة، والألسن همازة، والكلمات لمازة، مجالسهم شر، وصحبتهم ضُر. وقانا الله شر ألسنتنا، وحفظ علينا حسناتنا.

 

  • اللهم: يا من عزَّ فارتفع، وذلَّ كلَّ شيء له فخضع، وجهك أكرم الوجوه، وجاهُك أعظم الجاه، وعطيِّتك أعظم العطيِّة، تجيب المضطرَّ، وتكشف الضرَّ، وتغفر الذنب، وتقبل التوب، لا إله إلا أنت
  • يا من أظهر الجميل، وستر القبيح، يا حَسَنَ التجاوز، يا واسعَ المغفرة، يا باسطَ اليدين بالرحمة، يا عظيمَ المَنِّ، يا كريمَ الصَّفْح، يا صاحبَ كلِّ نَجْوَى.
  • اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، والموت راحة لنا من كل شر.

------

([1]) الجواب الكافي: ص 111

([2]الضياء اللامع من الخطب الجوامع (3 / 183)

([3]) تفسير القرطبي - (16 / 335)

([4]صحيح مسلم 6758

([5])  الأذكار النووية للإمام النووي ص441

([6]المدخل لابن الحاج  (3 / 136)

([7])خطب ومحاضرات للشيخ علي القرني (3 / 18)

([8])سنن أبي داود (4875) والترمذى (2502) وقال: حديث حسن صحيح. وصححه السفيري في شرحه لصحيح البخاري = المجالس الوعظية (1/ 379) وصححه الألباني في صحيح الترغيب (3/ 50) وحسنه السيوطي كما في فيض القدير (5/ 411)

([9])  مسند أحمد (14784- 14844 ). وقد حسنه البيهقي وابن حجر، وصححه الضياء والهيتمي والألباني.

([10]الوابل الصَّيِّب ص219

([11])الضياء اللامع من الخطب الجوامع (3 / 183)

([12])الأذكار النووية للإمام النووي ص 429

([13])شرح صحيح مسلم للنووي (16  /142و143)

المرفقات

المسمومة

المسمومة

المشاهدات 1717 | التعليقات 0