الْـبَــرُّ الرَّحِيمُ

د صالح بن مقبل العصيمي
1437/01/15 - 2015/10/28 15:43PM
الْــبَـــرُّ الرَّحِـيـمُ
الخطبة الأولى
إنَّ الْـحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتِغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شرورِ أنفسِنَا، وسيئاتِ أعمالِنَا، مَنْ يهدِ اللهُ فلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شريكَ لَهُ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وأشهدُ أنَّ مُحَمَّدًا عبدُهُ ورسُولُهُ وَخَلِيلُهُ، وَصَفْوَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ صَلَّى اللهُ عليه، وَآلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كثيرًا.
أمَّا بَعْدُ ... فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ حقَّ التَّقْوَى؛ واعلَمُوا أنَّ أَجْسَادَكُمْ عَلَى النَّارِ لَا تَقْوَى. وَاعْلَمُوا بِأَنَّ خَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ، وَعَلَيْكُمْ بِالْـجَمَاعِةِ؛ فَإِنَّ يَدَ اللهِ مَعَ الْـجَمَاعَةِ، وَمَنْ شَذَّ شَذَّ فِي النَّارِ.
عِبَادَ اللهِ، نَقِفُ الْيَوْمَ وَإِيَّاكُمْ وَقَفَاتٍ مَعَ اِسْمٍ مِنْ أَسْـمَاءِ اللهِ الْـحُسْنَـى ، وَصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ الْعُلَى، نَقِفُ مَعَ اِسْمِ وَصِفَةِ " الْبـَـــرِّ" ، قَالَ تَعَالَى : (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ)، فَهُوَ اللَّطِيفُ بِعِبَادِهِ ، يُـحْسِنُ إِلَيْهِمْ ، وَيُصْلِحُ أَحْوالَـهُمْ. عَطُوفٌ عَلَيْهِمْ ، مُـحْسِنٌ إِلَيْهِمْ، رَفِيقٌ بِـهِمِ، عَمَّ بِبِـرِّهِ جَـمِيعَ خَلْقِهِ ، فَلَمْ يَبْخَلْ عَلَيْهِمْ بِرِزْقِهِ؛ فَهُوَ ذُو الْـجُودِ وَالْكَرَمِ ، يُرِيدُ بِـهِمُ الْيُسْرَ، وَلَا يُرِيدُ بِـهِمُ الْعُسْرَ، يَـعْـفُو عَنْ كَثِيـرٍ مِنْ سَيِّــئَاتِـهِمْ ، وَلَا يُؤَاخِذُهُمْ بِـجَمِيعِ جِنَايَاتِـهِمْ ، وَيَـجْزِيهِمْ بِالْـحَسَنَةِ عَشْرَةَ أَمْثَالِـهَا ، وَيَكْتُبُ لَـهُمْ الْـهمَّ بِالْـحَسَنَةِ حَسَنَةً، وَلَا يَكْتُبُ عَلَيْهِمُ الْـهَمَّ بِالسَّــيِّــئَةِ سَــيِّــئَةً، يُوَسِّعُ عَلَيْهِمْ رِزْقَهُمْ، وَيَرْزُقُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَـحْتَسِبُونَ. يَفْعَلُ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَهُوَ غَنِـيٌّ عَنْهُمْ، وَهُمْ فُقَرَاءُ إِلَيْهِ. فَمَا يَفْعَلُهُ جَلَّ وَعَلَا مِنْ غُفْرَانِهِ زَلَّاتِـهِمْ، وَإِجَابَتِهِ دَعَوَاتِـهِمْ، وَتَفْرِيـجِهِ كُرُبَاتِـهِمْ، دَافِعُهُ لَيْسَ لِـجَلْبِ مَنْفَعَةٍ مِنْهُمْ ، وَلَيْسَ لِدَفْعِ مَضَرَّةٍ تُصِيبُهُ مِنْهُمْ؛ إِنَّـمَا رَحْـمَةً وَبِرًّا بِـهِمْ ، فَهُوُ سُبْحَانَهُ لَا يُـحْسِنُ لِعِبَادِهِ لِيُكَافِئُوهُ، وَلَا لِيَدْفَعُوا عَنْهُ ضَرَرًا، وَيُـخَاطِبُهُمْ فَيَقُولُ لَهُمْ كَمَا فِي الْـحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ: «يَا عِبَادِي، إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُم،ْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ؛ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي، إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ، فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. فَهُوَ الْغَنِـيُّ الْـحَمِيدُ، وَالْـخَلْقُ عَاجِزٌ عَمَّا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ مِنَ الأَفْعَالِ إِلَّا بِأَقْدَارِهِ وَتَيْسِيـرِهِ وَخَلْقِهِ ؛فَكَيْفَ بِـمَا لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهَ ؟!
فَجَمَالُ رِبِّنَا الْــبَـــرِّ الرَّحِيمِ وَكَمَالُهُ، وَأَسْـمَاؤُهُ وَصِفَاتُهُ تَقْتَضِي مِنَّا غَايَةَ الْـحُبِّ، وَغَايَةَ الْـخُضُوعِ وَالذَّلِّ وَالطَّاعَةِ لَهُ، فَعَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْلَمُوا عِلْمَ الْيَقِيـنِ أَنَّ إِحْسَانَ اللهُ تَعَالَى إِلَيْهِـمْ؛ إِنَّــمَا بِرَحْـمَةٍ مِنْهُ وَجُود ٍ وَكَرَمٍ؛ لَا لِمُعَاوَضَةٍ، وَلَا لِاسْتِجْلَابِ مَنْفَعَةٍ، وَلَا لِدَفْعِ مَضَرَّةٍ.
عِبَادَ اللهِ، إِنَّ مِنْ بِرِّهِ – جَلَّ وَعَلَا – بِعِبَادِهِ مُضَاعَفَةَ الثَّوَابِ لَـهُمْ، وَمَسْحَ السَّيِّئَاتِ عَنْهُمْ، وَهُنَاكَ الْكَثِـيـرُ مِنْ الأُمُورِ الْيَسِيـرَةِ الَّتِـي يَفْعَلُهَا الْعَبْدُ؛ فَيُضَاعِفُ اللهُ لَهُ الثَّوابَ عَشَرَاتِ بَلْ آلاَفَ الأَضْعَافِ، وَمِنْ ذَلِكَ:
الصَّلَاةُ فِي الْـمَسْجِدِ الْـحَرَامِ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ»، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ. فَانْظُرْ إِلَى هَذَا الأَجْرِ الْعَظِيمِ: صَلَاةٌ وَاحِدَةٌ فِي الْـمَسْجِدِ الْـحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مَائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ. فَهَذِهِ – وَرَبِي- نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ؛ عَمَلٌ قَلِيلٌ نُـجْزَى بِهِ مِثْلَ هَذَا الْـخَيْـرِ الْعَظِيمِ. فَكَيْفَ بِـمَنْ صَلَّى خَـمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، أَوْ أَكْثَـرَ؟! سُبْحانَـكَ مَا أَبَرَّكَ، وَمَا أَكْرَمَكَ! وَمَا أَلْطَفَكَ! عَمَلٌ يَسِيـرٌ تُـجْزِينَا عَلَيهِ هَذَا الْـجَزَاءَ الْوَفِيرَ؟!
ثانيًا: انْظُروا إِلَى لَيْلَةِ الْقَدْرِ كَيْفَ جَعَلَ اللهُ عَمَلَ لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ بِعَمَلِ أَلْفِ شَهْرٍ، قَالَ تَعَالَى:(لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ)، وَلَيْسَتْ بِأَلْفِ شَهْرٍ فَـحَسْبُ، بَلْ وَمَنْ قَامَهَا إِيـمَانًا وَاِحْتِسَابًا غَـــفَــرَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، فَتِلْكَ الذُّنُوبُ الْـمُتَـرَاكِمَةُ، وَالْـمَعَاصِي الْـمُتَتَابِعَةُ؛ يَغْفِرُهَا اللهُ بِقِيَامِ لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ؛ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيـمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ). رَوَاهُ الْـبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. فَتِلْكَ الذُّنُوبُ الْعَظِـيمَةُ تُغْفَرُ بِقِيَامِ لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ، إِنَّهُ الْـجَوَادُ الْــبَــرُّ الرَّحِيمُ. وَانْظُرُوا إِلَى دُعَاءٍ يَقُولُهُ الْمُسْلِمُ بَعْدَ مَا يُرَدِّدُ أَلْفَاظَ الْأَذَانِ خَلْفَ الْمُؤَذِّنِ؛ يَكُونُ سَبَبًا لِدُخُولِهِ الْـجَنَّةِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِذَا قَالَ الْمُؤَذِّنُ: اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ، فَقَالَ أَحَدُكُمْ: اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ... إِلَى نِـهَايَةِ الأَذَانِ، ثُمَّ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، مِنْ قَلْبِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ الْمُؤَذِّنَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، رَضِيتُ بِاللهِ رَبًّــا، وَبِـمُحَمَّدٍ رَسُولًا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا؛ غُفِرَ لَهُ ذَنْبُهُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. اللهُ أَكْبَـرُ! عَمَلٌ يَسِيـرٌ يُدْخِلُنَا الْـجَنَّةَ! فَلِلَّهِ الْـحَمْدُ وَالشُّكْرُ! مَا أَبَــرَّهُ وَمَا أَجْوَدَهُ!
وَالْأَذْكَارُ بَابٌ عَظِـيمٌ يَفْتَحُهُ الْــبَــرُّ الرَّحِيمُ لِعِبَادِهِ؛ لِيُضَاعِفَ لَهُمُ الْأُجُورَ؛ فَانْظُرُوا إِلَى هَذِهِ الأَذْكَارِ الْيَسِيرَةِ بِأَعْدَادٍ مَـحْصُورَةٍ تَرَتَّبَتْ عَلَيْهَا أُجُورٌ عَظِيمَةٌ، وَمِنْ ذَلِكَ:
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ قَالَ: رَضِيتُ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا، وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ). رَوَاهُ أَبُو دَاودَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ. وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ سَبَّحَ اللهَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَحَمِدَ اللهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَكَــبَّــرَ اللهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، فَتْلِكَ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ، وَقَالَ: تَمَامَ الْمِائَةِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ؛ غُفِرَتْ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ. سُبْحانَـكَ مَا أَبَرَّكَ، وَمَا أَكْرَمَكَ؛ عَمَلٌ يَسِيـرٌ تُـجْزِينَا عَلَيهِ هَذَا الْـجَزَاءَ الْوَفِيرَ؟! وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبـِحَمْدِهِ، فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، حُطَّتْ خَطَايَاهُ، وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ البَحْرِ) رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. سُبْحَانَكَ عَلَى جُودِكَ وَكَرَمِكَ وَلُطْفِكَ وَإِحْسَانِكَ! مَا عَبَدْنَاكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيُبْلِغُ - أَوْ فَيُسْبِغُ - الْوَضُوءَ ثُمَّ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ؛ إِلَّا فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. مَا أَلْطَفَ اللهَ! وَمَا أَبَرَّهُ! وَمَا أَرْحَـمَهُ! وَمَا أَكْرَمَهُ! تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْـجَنَّةِ لِـمَنْ عَمِلَ هَذَا الْعَمَلَ الْيَسِيـرَ؟! مَا أَعْجَزَ بَعْضَنَا عَنْ نَيْلِ هَذَا الْــخَــيْــرِ الْوَفِــيــرِ بِعَمَلٍ يَسِيــرٍ.
وَانْظُرُوا إِلَى فَضْلِ البْـرِّ الرَّحِيمِ عَزَّ وَجَلَّ: رَكْعَتَانِ يُصَلِّيهِمَا الْعَبْدُ يَنَالُ بِـهِمَا مَغْفِرَةً عَظِيمَةً، حَيْثُ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لاَ يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. اللهُ أَكْبَـرُ! رَكْعَتَانِ يَغْفِرُ اللهُ بِـهِمَا لِلْعَبْدِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ! فَهْلَ رَأَيْتُمْ بِرًّا وَجُودًا أَعْظَمَ مِنْ هَذَا؟!
وَقَالَ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الوُضُوءَ، ثُمَّ أَتَى الجُمُعَةَ، فَدَنَا وَاسْتَمَعَ وَأَنْصَتَ، غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجُمُعَةِ وَزِيَادَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ) رَوَاهُ أَبُو دَاودَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ.
عِبَادَ اللهِ:"إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ" مَا أَعْظَمَ هَذَا الِاسْمَ! وَمَا أَجَلَّهُ! وَتَأَمَّلُوا فِي هَذِهِ الآيَةِ، وَلْتَطْرُقْ وُجْدَانَكُمْ، وَلْتُحَرِّكْ قُلُوبَكُمْ، وَلْتُحْدِثْ تَغَيـُّـــرًا فِي أَنْفُسِكُمْ. حَيْثُ قَالَ تَعَالَى حاكِيًا عَنْ حِوَارِ أَهْلِ الْـجَنَّةِ بَعُضِهُمْ لِبَعْضٍ: (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ)، لَقَدْ كَشَفُوا سِرَّ وُصُولِـهِمْ إِلَى الْـجَنَّةَ، لَقَدْ أَنْـجَاهُمُ اللهُ مِنَ النَّارِ، وَأَدْخَلَهُمُ الْـجَنَّةَ ، فَهُمُ النَّاجُونَ الْمُكْرَمُونَ فِي دَارِ النَّعِيمِ، لَقْدَ وَقَاهُمُ الْبَـُّر عَذَابَ السَّمُومِ، منّةً مِنْهُ وَفَضْلاً ، وَبِــرًّا بِـهِمْ وَإِحْسَانًا، لِمَا عَلِمَهُ مِنْ تَقْوَاهُمْ وَخَشْيَتِهِمْ وَإِشْفَاقِهِمْ. لَقَدْ عَاشُوا عَلَى حَذَرٍ وَخَوْفٍ مِنْ هَذَا الْيَومِ الْعَظِيمِ، عَاشُوا مُشْفِقِينَ خَوْفًا مِنْ حِسَابِهِ فِي حَيَاتِـهِمْ الدُّنْيَا، فَلَمْ يَـخْدَعْهُمْ أَمَانُ الدُّنْيَا ؛ بَلْ عَاشُوا فِي خَوْفٍ مِنَ اللهِ؛ دَفَعَهُمْ هَذَا الْـخَوفُ لِلْخَشْيَةِ وَالْعَمَلِ، فَأَحْسَنَ اللهُ إِلَيْهِمْ وَبَرَّ بِـهِمْ. يَا لِعِظَمِ هَذِهِ الآيَةِ : (إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ)!
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ، رَحِمَهُ اللهُ:
وَالْبَرُّ فِي أَوْصَافِهِ سُبْحَانَهُ *** هُوَ كَثْرَةُ الْـخَيْـرَاتِ وَالإِحْسَانِ
وَصْفٌ وَفِعْلٌ فَهْوَ بَــرٌّ مُـحْسِنٌ *** مَوْلَى الْـجَمِيلِ وَدَائِمُ الإِحْسَانِ
عِبَادَ اللهِ، عَلَيْنَا أَنْ نَعْلَمَ أَنَّ مِنْ بِرِّهِ – جَلَّ وَعَلَا-: سِتْـرُهُ عَلَى عِبَادِهِ فِي حَالِ ارْتِكَابِ الْمَعْصِيَةِ، مَعَ كَمَالِ رُؤْيَتِهِ لَـهُمْ، وَلَوْ شَاءَ لَفَضَحَهُمْ بَيْـنَ خَلْقِهِ؛ وَهَذَا مِنْ كَمَالِ بِرِّهِ وَلُطْفِهِ. وَمِنْ بِرِّهِ: شُهُودُ حِلْمِ اللهِ فِي إِمْهَالِ رَاكِبِ الْـخَطِيئَةِ، وَلَوْ شَاءَ لَعَاجَلَهُ بِالْعُقُوبَةِ؛ وَمِنْ بِرِّهِ، جَلَّ وَعَلَا، بِعِبَادِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ فِيمَا وَعَدَهُمْ بِهِ مِنَ الأَجْرِ وَالثَّوَابِ، قَالَ تَعَالَى: (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ).
عِبَادَ اللهِ، إِنَّ اللهَ، عَزَّ وَجَلَّ، بَارٌّ بِـخَلْقِهِ، وَالْبَـرُّ أَبْلَغُ مِنَ الْبَارِّ؛ لِأَنّ الْبَــرَّ يَتَتَابَعُ بِرُّهُ، وَيَتَوَالَى إِحْسَانُهُ، وَيَكْثُرُ عَطَاؤُهُ، حَيْثُ كَثُرَ خَيْـرُهُ وَطَابَ، فَاللهُ فَاعِلُ الْبِــرِّ وَالِإحْسَانِ، يـُحْسِنُ إِلَى عِبَادِهِ بِالْـخَيْــرِ، وَيُوَسِّعُ عَلَى الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، وَيُـمْهِلُ الْعَاصِي، خَلَقَ الْـخَلْقَ لِيُسْعِدَهُمْ، وَيُـحْسِنَ إِلَيْهِمُ وَيُكْرِمَهُمْ؛ وَلَكِنْ هُنَاكَ مَنْ يَأْبَى، هُنَاكَ مَنْ يُشَاقِقُ الْبَرَّ الرَّحِيمَ فِي حُكْمِهِ وَأَحْكَامِهِ، وَيُشَاقِقُ رَسُولَهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَعْتَــرِضُ عَلَى أَحْكَامِهِ، وَيُهِيــنُ أَوْلِيَاءَهُ، فَالْكَوْنُ كُلُّهُ مَا خُلِقَ إِلَّا لِعِبَادَةِ اللهِ؛ قَالَ تَعَالَى: (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) فَمِنْ بِرِّهِ جَلَّ وَعَلَا أَنَّهُ لَا يَقْطَعُ الإِحْسَانَ بِسَبَبِ الْعِصْيَانِ، وَبَلَغَ مِنْ بِرِّهِ جَلَّ وَعَلَا بِعِبَادِهِ أَنَّهُ يَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَاصِيهِمْ مَعَ إِسَاءَتِهِ.
اللَّــهُــمَّ ارْزُقْنَا ذِكْرَكَ وَشُكْرَكَ وَحُسْنَ عِبَادَتِكَ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرُوهُ يَغْفِرْ لَكُمْ، إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمْ.









الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى عِظَمِ نِعَمِهِ وَاِمْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شريكَ لَهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشَهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَخَلِيلَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمَاً كَثِيرَاً . أمَّا بَعْدُ ...... فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ حَقَّ التَّقْوَى، وَاِسْتَمْسِكُوا مِنَ الْإِسْلَامِ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، وَاِعْلَمُوا أَنَّ أَجْسَادَكُمْ عَلَى النَّارِ لَا تَقْوَى.
عِبَادَ اللهِ، مِنْ آثَارِ هَذَا الاِسْمِ الْعَظِيمِ الْـجَـمِيلِ (الْبَــرِّ) أَنْ يَـحْرِصَ الْعَبْدُ أَنْ تَكُونَ كُلُّ أَعْمَالِهِ خَيِّــرَةً، وَأَنْ يَتَخَلَّقَ بِآثَارِ هَذَا الاِسْمِ، وَأَنْ يَكُونَ مُشْتَــغِلاً بِأَعْمَالِ الْبِـــرِّ؛ وَأَنْ يَبْذُلَ الإِحْسَانَ لِلْغَيْـرِ، وَأَنْ يَسْتَبِقَ الْـخَيْــرَاتِ؛ وَأَلَّا يُضْمِرَ الشَّرَّ لِأَحَدٍ، وَلَا يُؤْذِي أَحَدًا؛ وَأَنْ يَكُونَ مِعْطَاءً؛ وَأَنْ يَكُونَ بَارًّا بِوَالِدَيْهِ، مـُحْسِناً إِلَيهِمَا، وَاصِلًا لِرَحِـمِهِ، وَأَنْ يُـحْسِنَ إِلَى الْـخَلْقِ؛ فَأَنْوَاعُ الْبـِرِّ لَا تُعَدُّ وَلَا تُـحْصَى؛ فآثَارُ هَذَا الِاسْمِ الْعَظِيمِ كَثِيــرَةٌ، فَتَأَمَّلُوهَا - يَرْحَـمُكُمُ اللهُ-؛ وَاِعْمَلُوا بِـمُقْتَضَاهَا. رَزَقَنِــي اللهُ وَإِيَّاكُمْ رِضَاهُ وَالْـجَنَّةَ. فَاللهُ جَلَّ وَعَلَا مَوْلَى الْـجَمِيلِ، وَدَائِمُ الْإِحْسَانِ، فَلَا يَسْتَغْنِـي مَـخْلُوقٌ عَنْ إِحْسَانِهِ وَبِرِّهِ طَرْفَةَ عَيْــنٍ، قَالَ تَعَالَى:) رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً (، وَقَالَ تَعَالَى: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ)، وَقَالَ تَعَالَى:(وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ).
فَوَسِعَتْ أَفْضَالُهُ وَنِعَمُهُ الْبَــرَّ وَالْفَاجِرَ؛ وَالْمُسْلِمَ وَالْكَافِرَ، وَأَهْلَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، وَالإِنْسَانَ وَالْـحَيَوَانَ وَالْــجَانَّ؛ فَسُبْحَانَهُ الْعَظِيمُ ذُو الْبِــرِّ وَالإِحْسَانِ: (فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)؛ فَهُوَ يُـحْسِنُ إِلَى السَّائِلِيـنَ بِـحُسْنِ عَطَائِهِ، وَيَتَفَضَّلُ عَلَى الْعَاجِزِينَ بِـجَزِيلِ جَزَائِهِ " وَلَا يَقْطَعُ الِإحْسَانَ بِسَبَبِ الْعِصْيَانِ، وَيُعْطِيهُمْ زَمَنًا لِلْإِمْهَالِ"، "لَا يَصْدُرُ عَنْهُ الْقَبِيحُ، وَكُلُّ مَا فَعَلَهُ رَبُّنَا مَلِيحُ " فَلَكَ الْـحَمْدُ وَالشُّكْرُ رَبَّنَا مِـمَّنْ حَضَرَ، لَكَ الْـحَمْدُ وَالشُّكْرُ رَبَّنَا مِـمَّنْ حَضَرَ.
اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا حُبَّكَ، وَحُبَّ مَنْ يُـحِبُّكَ، وَحُبَّ عَمَلٍ يُقَرِّبُ إِلَى وَجْهِكَ. الَّلهُمَّ رُدَّنَا إِلَيْكَ رَدًّا جَمِيلًا، وَلَا تَـجْعَلْ فِينَا وَلَا بَيْنَنَا شَقِيًّا وَلَا مَـحْرُومًا، الَّلهُمَّ اِجْعَلْنَا هُدَاةً مَهْدِيينَ غَيْـرَ ضَالِّينَ وَلَا مُضِلِّينَ، اللَّهُمَّ اِحْمِ بِلَادَنَا وَسَائِرَ بِلَادِ الإِسْلَامِ وَالْـمُسْلِمِينَ مِنَ الفِتَنِ وَالمِحَنِ، مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَن، اللَّهُمَّ اِحْفَظْ لِبِلَادِنَا أَمْنَهَا وَإِيمَانَهَا وَاِسْتِقْرَارَهَا، الَّلهُمَّ وَفِّقْ وَلِيَّ أَمْرِنَا لِمَا تُحِبُ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَاصِيَتِهِ لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَاِجْعَلْهُ هَادِيًا مَـهْدِيًّــا، وَأَصْلِحْ بِهِ الْبِلَادَ وَالْعِبَادَ، الَّلهُم ارْفَعْ رَايَةَ السُّنَّةِ، وَاِقْمَعْ رَايَةَ البِدْعَةِ، الَّلهُمَّ احْقِنْ دِمَاءَ الْـمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَوَلِّ عَلَيْهِمْ خِيَارَهُمْ وَاِكْفِهِمْ شَرَّ شِرَارِهِمْ، اللهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا الَّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا الَّتِي إِلَيْهَا مَعَادُنَا، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ. اللهُمَّ أَكْثِرْ أَمْوَالَ مَنْ حَضَرُوا مَعَنَا، وَأَوْلَادَهُمْ، وَأَطِلْ عَلَى الْخَيْرِ أَعْمَارَهُمْ، وَأَدْخِلْهُمُ الْجَنَّةَ، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلَامٌ عَلَى المُرْسَلِينَ، وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ. وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَآلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كثيرًا.

المرفقات

مَشْكُولَةٌ.docx

مَشْكُولَةٌ.docx

غير مشكولة.docx

غير مشكولة.docx

المشاهدات 2271 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا