الغيرة على الأعراض للشيخ عبدالواحد محمد شبير

الغيرة على الأعراض


أيها المسلمون: ذكر ابن كثير في البداية والنهاية في حوادث سنة مائتين وستة وثمانين أنَّ امرأة تقدمت إلى قاضي الري فادَّعت على زوجها بصداقها خمسمائة دينار، فأنكره ، فجاءت ببينة تشهد لها به ، فقالوا: نريد أن تُسفرَ لنا عن وجهها حتى نعلم أنها الزوجة أم لا ، فلما صمَّمُوا على ذلك قال الزوج: لا تفعلوا ، هي صادقة فيما تدعيه ، فأقرَّ بما ادَّعت ؛ ليصون زوجته عن النظر إلى وجهها ، فقالت المرأة حين عرفت ذلك منه وأنه إنما أقر ليصون وجهها عن النظر: هو في حِلٍّ من صَداقي عليه في الدنيا والآخرة ، الله أكبر لقد حفظ هذا الرجل الصالح وجه امرأته من أن يراها الشهود ، وحفظ حسنها من أن يلطخ بالأعين ، أجل إنه يحب نساءه فيغار عليهن ويمنع حياءهن ويصون أخلاقهن.

نعم عباد الله فالغيرة من الغرائز البشرية التي أودعها الله في الإنسان وهي الحمية وكره شركة الغير في حق الإنسان ، قارنوا بين هذا الرجل الغيور الذي أبى أن تخرج امرأته أمام الرجال بحجابها وأبى أن تكشف عن وجهها لأجل الشهادة لأخذ حقها ، وبين من يُخرج امرأته في القنوات وعلى الشاشات أمام العالم كله كاشفة عن وجهها متزينة بل ويضاحك المذيعة أمام زوجته دون حياء أو خجل أين هذا وأمثاله من الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه أن النبي  : ((إن الله يغار ، وإن المؤمن يغار ، وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم عليه)).

وثبت أن سعد بن عبادة قال : يا رسول الله ، لو وجدت مع أهلي رجلاً لم أمسَّه حتى آتي بأربعة شهداء؟! قال رسول الله  : ((نعم)) ، قال: كلا والذي بعثك بالحق ، إنْ كنتُ لأعاجله بالسيف قبل ذلك ، قال رسول الله : ((اسمعوا إلى ما يقول سيدكم ، إنه لغيور ، وأنا أغير منه ، والله أغير مني ) ، وفي رواية قال رسول الله : (( يا معشر الأنصار ، ألا تسمعون ما يقول سيدكم؟ قالوا: يا رسول الله لا تلمه ؛ فإنه رجل غيور ، والله ما تزوج فينا قط إلا عذراء ، ولا طلق امرأةً له فاجترأ رجل منا أن يتزوجها من شدة غيرته ، قال سعد: والله إني لأعلم يا رسول الله إنها لحق ، وإنها من عند الله ، ولكني عجبت ).

واستمعوا ماذا يقول الصحابي الجليل علي رضي الله عنه ألا تستحون ؟! ألا تغارون؟! يترك أحدكم امرأته تخرج بين الرجال تنظر إليهم وينظرون إليها ، ويقول رضي الله تعالى عنه لزوجته فاطمة : ما خيرٌ للمرأة ؟ قالت: ألاَّ ترى الرجال ولا يروها ، ويقول محمد بن علي بن الحسين رحمه الله : "وما من امرئ لا يغار إلا منكوس القلب".

ويقول ابن القيم رحمه الله: "إذا رحلت الغيرة من القلب ترحَّلت المحبة ، بل ترحل الدين كله".


عباد الله: إن الزوج الشهم العظيم الحسن الخلق الذي يخاف الله تعالى ويغار على زوجته أن يرى أجنبيٌ شيئاً من جسدها، إنه لا يخرج بها كاشفةً وجهها ولا مقدم شعرها ، لا في سيارةٍ ينظر إليها الغادي والرائح عند إشارات المرور، ولا في الأسواق يمشي بجانبها وهي في كامل زينتها والجميع ينظر إليها ولا في القنوات الفضائية ولا في أي مكان ، فمن فعل ذلك قد أشهد العالمين على دياثته في رضاه بتبرجها فالذي لا يغار على أهله ولا محارمه يسمى دَيوثاً والدَّيوث هو الذي لا يغار على اهله، والدياثة من الرذائل التي ورد فيها وعيد شديد ، وهي من الكبائر عند العلماء ، كما دل على ذلك حديث النبي  : ( ثَلَاثَةٌ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ أَبَدًا: الدَّيُّوثُ مِنَ الرِّجَالِ ، وَالرَّجُلَةُ مِنَ النِّسَاءِ، وَمُدْمِنُ الْخَمْرِ " . فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ أَمَّا مُدْمِنُ الْخَمْرِ فَقَدْ عَرَفْنَاهُ، فَمَا الدَّيُّوثُ مِنَ الرِّجَالِ ؟ قَالَ: " الَّذِي لَا يُبَالِي مَنْ دَخَلَ عَلَى أَهْلِهِ " . قُلْنَا: فَالرَّجُلَةُ مِنَ النِّسَاءِ ؟، قَالَ: " الَّتِي تَشَبَّهُ بِالرِّجَالِ ) وقال  ( ثَلاَثَةٌ قَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَنَّةَ : مُدْمِنُ الْخَمْرِ ، وَالْعَاقُّ ، وَالدَّيُّوثُ ، الَّذِي يُقِرُّ فِي أَهْلِهِ الْخَبَثَ ).

عباد الله : لقد كان أهل الجاهلية يتحلون بالغيرة ويبالغون فيها ، حتى إنَّ بعضهم كان يبالغ في غَيْرته على محارمه حتى وصل الحد به أن يدفنَ ابنته في التراب وهي حيَّة ؛ خوفًا من أن تقعَ في الفاحشة إذا كبِرَتْ ، نعم كانوا يرفعون شعارًا وهو " قتْل البنات من المكرمات " ولكن عندما جاء الإسلامُ حثَّ على التخلُّق بخُلق الغَيْرة على المحارم بدون إفراط ، وحرَّم قتْلَ البنات ، ورفَع شعارًا هو" أكرموا البنات ؛ فإنهنَّ غاليات"، ومِن إكرام البنت أن نربِّيَها على الفضيلة والحجاب ، والستر والعفاف ؛ لأن البنت مثل اللؤلؤة ، يوم أن تخرج اللؤلؤة من مَحَارتها ، فإنها تموت وتُصبح سوداء، تُصبح لا قيمة لها ولا أحد يرغب في شرائها ، وتسقط قيمتها، ولكن يوم أن تبقى اللؤلؤة في مَحَارتها أيَّامًا وشهورًا وسنوات ، فإنها تكون ثمينة ، تكون غالية ولا تُقدَّر بثمن، وكذلك الفتاة يوم أن تكون في بيتها ، لا ترى الرجال ولا الرجال يرونها، تكون غالية وتكون ثمينة، وعندما تخرج من بيتها إلى بيت الزوجيَّة ، فإنها تخرج مكرَّمة معزَّزة مصونة

معاشر المسلمين: الغيرة منها المحمودة ومنها المذمومة المرفوضة ، لما رواه الإمام أحمد في المسند والنسائي بسند حسن قال رسول اللَّه : "إن من الغيرة ما يحب الله ومنها ما يبغض الله ، فأما الغيرة التي يحبها الله فالغيرة في الريبة، وأما الغيرة التي يبغضها الله فالغيرة في غير الريبة" فعلى الزوجين أن يدع كل منهما للآخر مجالاً لمراقبة الله تعالى ومحاسبة ضميره ، فلا يعكر كل منهما سعادة الأسرة بالغيرة الزائدة في غير ريبة ، وخاصة إذا التزما حدود الشرع وتجنبا مواطن الشبهات، فعلى الزوجة أن تكون مدافعة عن زوجها لا أن تكون محققة معه تسأله دائمًا أين كنت ، وماذا فعلت ، ومع من كنت ، إلى آخر هذه المضايقات ، وعلى الزوج أيضاً فيما إذا التزمت زوجته ستر بدنها وصون نفسها وعدم الخلوة بالأجانب ولم تخضع في قولها مع الأجانب فلا يُقحم نفسه في ريبة تجلب الشقاء للأسرة بسبب غيرة مذمومة لأن غلو الزوج في الغيرة على أهل بيته يؤدي به إلى سوء الظن بهم والتجسس عليهم من غير سبب يدعو لذلك ، ولقد كان فرسان الإفرنج في القرون الوسطى لأجل أن يضمنوا عفة نسائهم ، كانوا يربطون الأحزمة الحديدية ذات الأقفال حول وسط المرأة ويحتفظون بالمفاتيح معهم! لكن في المجتمع المسلم لا حاجة لذلك لأن المسلم لدية مراقبة ذاتية لله سبحانه.

إذاً فلتكن الغيرة في موضعها الصحيح من غير إفراط ولا تفريط ثم إن المرأة إذا علِمت من زوجها أو وليّها الغيرة عليها راعت ذلك وجعلته في حُسبانها وراعته ، فهذه أسماءُ بنت أبي بكر تقول : تَزَوّجَني الزّبَير وما له في الأرضِ مِنْ مالٍ ولا مَمْلوكٍ ولا شيءٍ غيرِ ناضحٍ وغير فَرَسِهِ ، فكنتُ أعلِفُ فرسَهُ وأستقي الماءَ وأخرِزُ غَربَهُ وأعجِن ، ولم أكن أُحسِنُ أخبزُ ، وكان يَخبزُ جاراتٌ لي من الأنصار ، وكن نِسوَةَ صِدق ، وكنتُ أنقل النّوَى من أرض الزّبير التي أقطَعَهُ رسولُ  على رأسي ، وهي مِنِّي على ثُلثَي فَرسَخ ، فجِئتُ يوماً والنّوَى على رأسي ، فلقيتُ رسولَ  ومعهُ نَفَرٌ من الأنصار ، فدَعاني ثم قال : إخْ إخ ، ليحمِلَني خَلفَه ، فاستحيَيتُ أن أسيرَ معَ الرّجال ، وذكرتُ الزّبيرَ وغَيرَتَه ، وكان أغيَرَ الناس ، فَعَرَفَ رسولُ اللّهِ  أني قد استحييتُ فمضى ، فجئتُ الزّبيرَ فقلتُ : لَقيَني رسولُ الله  وعلى رأسي النّوَى ، ومعهُ نفرٌ من أصحابه ، فأناخَ لأركبَ ، فاستَحييتُ منه ، وعرَفتُ غَيرتَك ، فقال : والله لَحملُكِ النّوى كان أشدّ عليّ من ركوبِك معَه ، قالت : حتى أرسلَ إليّ أبو بكرٍ بعدَ ذلك بخادمٍ تَكفيني سِياسةَ الفَرَس ، فكأنما أعتَقَني . متفق عليه.

اللهم احفظ نسائنا وبناتنا من كل سوء ووفقهن لامتثال شرعك واجعلهن صالحات قانتات حافظات لفروجهن ، اللهم من أراد تغريب نسائنا وبناتنا فرد كيده في نحره

المشاهدات 2592 | التعليقات 0