الغيبة ..

د صالح بن مقبل العصيمي
1436/10/17 - 2015/08/02 13:49PM
الْغِيبَةُ
الخطبة الأولى
إنَّ الحمدَ للهِ،نَحْمَدُهُ،ونستعينُهُ،ونستغفِرُهُ،ونعوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أنفسِنَا وسيئاتِ أعمالِنَا،مَنْ يهدِ اللهُ فلاَ مُضِلَّ لَهُ،وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ،وأشهدُ أنْ لا إلهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شريكَ لَهُ،تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وأشهدُ أنَّ مُحَمَّدًا عبدُهُ ورسُولُهُ،وَخَلِيلُهُ - صَلَّى اللهُ عليهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ،وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ،وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كثيرًا أمَّا بَعْدُ ... فَاتَّقُوا اللهَ- عِبَادَ اللهِ- حقَّ التَّقْوَى؛واعلَمُوا أنَّ أَجْسَادَكُمْ عَلَى النَّارِ لَا تَقْوَى. وَاِعْلَمُوا بِأَنَّ خَيْرَ الْهَدْيِّ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ،وَأَنَّ شَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا ، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ،وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ .
حَدِيثُنَا الْيَوْمَ عَنْ آفَةٍ مِنْ آفَاتِ اللِّسَانِ، تَـحْصُدُ الـحَسَنَاتِ، وَتـجْلِبُ السَّيِّئَاتِ، تَظَاهَرَتِ الأَدِلَّةُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى تَـحْرِيـمِهَا، وَشَبَّهَهَا الْقُرْآنُ بِأَمْرٍ تَتَأَذَّى مِنْهُ النُّفُوسُ السَّلِيمَةُ، وَتَشْمَئِزُّ مِنْهُ الْفِطَرُ السَّوِيَّةُ . تَتَلَذَّذُ بِهِ الأَنْفُسُ غَيـرُ السَّوِيَّـةُ ، وَالْقُلُوبُ غَيْـرُ التَّقِيَّــةُ . حَدِيثُنَا الْيَوْمَ عَنْ الْغِيبَةِ، وَالَّتِي لَا تَـحْلُو مَـجَالِسُ فِئَامٍ مِنَ النَّاسِ، إِلَّا بِـهَا، لِبَعْضِهِمْ حَسَنَاتٌ كَالـجِبَالِ؛ فَيُوزِّعُونَـهَا عَلَى غَيْـرِهِمْ ، وَلِبَعْضِهِمْ سَيِّئَاتٌ كَالتَّلَال؛ِ يَأْبَى إِلَّا أَنْ تَكُونَ كَالـجِبَالِ؛ فَقَدْ أَضَافَ إِلَيْهَا مِنْ سَيِّئَاتِ مَنْ اِغْتَابَـهُمْ. لَقَدْ حَذَّرَ الْـجَلِيلُ مِنَ الْغِيبَةِ فَقَالَ جَلَّ فِي عُلَاهُ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ}. تَأَمَّلُوا تِلْكَ الصُّورَةَ الْبَشِعَةَ، لِرَجُلٍ قَدْ جَلَسَ إِلَى جِوَارِ جُثَّةِ أَخِيهِ ، يَـمُدُّ يَدَهُ ، فَيَقْتَطِعُ مِنْ لَـحْمِهِ قِطْعَةً ، ثُـمَّ يَضَعُهَا فِي فَمِهِ، تَأَمَّلُوا تِلْكَ الصُّورَةَ؛ وَيَا لَهَا مِنْ صُوَرَةٍ بَشِعَةٍ ! لَقَدْ شَبَّهَ اللهُ، عَزَّ وَجَلَّ، مَنْ وَقَعَ فِي عِرْضِ أَخِيهِ؛ بـِمَنْ أَكَلَ لَـحـْمَهُ . فَلَا يُـمْكِنُ لِسَوِيٍّ أَنْ يَقْبَلَ ذَلِكَ ؟ ! إِنَّ هَذَا التَّشْبِيهَ ؛ كَافٍ لِلتَّــنْـفِيـرِ مِنَ الْغِــيبَةِ؛ لِيَـجْعَلَ الْعَاقِلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا سِيَاجًا . وَيَأْتِي النَّصُّ النَّبَوِيُّ لِيُفَسِّرَ مَعْنَاهَا، فَيَقُولُ صَلَوَاتُ رَبِّي وَسَلاَمُهُ عَلَيهِ : «أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟» قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ» قِيلَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟ قَالَ: «إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ، فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ . لَقَدْ أَوصدَ الرَّسُولُ، الطُّرْقَ عَنْ ذِكْرِ الْمُسْلِمِينَ بِغِيَابِـهِمْ بِـمَا يَكْرَهُونَ ؛ فَالْكَلاَمُ فِيهِمْ لَا يَعْدُو أَنْ يَكُونَ غِيبَةً ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعَ الْغِيبَةِ ظُلْمٌ وَبُهْتَانٌ؛ فَالْغِيبَةُ حَاصِلَةٌ فِي الْحالَـتَـيـْنِ .
إِنَّ الْـمُغْتَابَ يَظُنُّ أَنَّهُ إِذَا ذَكَرَ أَخَاهُ فِي غَيْبَتِهِ؛ فَالأَمْرُ مُسْتَسَاغٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْشَى اللهَ؛ وَإِنَّـمَا يَـخْشَى الْـمُغْتَابَ. وَهَذَا وَرَبِّي دَليلٌ عَلَى ضَعْفِ الإِيـمَانِ . أَمَا عَلِمَ الْمُتَسَاهِلُ بِالَأعْرَاضِ، وَالْمُتَكَلِّمُ بِغِيبَةِ النَّاسِ؛ بِأَنَّ هُنَاكَ مَنْ يُـحْصِي عَلَيْهِ الْكَلِمَاتِ؟! قَالَ اللهُ جَلَّ فِي عُلَاهُ: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ( . وَقَالَ اللهُ، جَلَّ اللهُ : ( أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ ) وَجَاءَ النَّهْيُ قَاطِعًا : (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا).
عِبَادَ اللهِ ، هُنَاكَ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ الْغِيبَةَ تَقْتَصِرُ عَلَى أُمُورٍ مُـحْدُودَةٍ وَكَبِيـرَةٍ؛ وَهَذَا لَيْسَ صَحِيحًا؛ بَلْ حَتَّى الْكَلِمَاتُ وَالتَّشْبِيهَاتُ الَّتِي قَدْ تَـخْرُجُ عَلَى سَبِيلِ الِانْتِقَاصِ مِنْ صِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ فِي الْـمُـسْلِمِ، كَقِصَرِ قَامَتِهِ، أَوْ لَوْنَ بَشْرَتِهِ؛ يَظُنُّهَا بَعْضُ النَّاسِ هَيِّنَةً؛ وَهِيَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمَةٌ ، قَالَ تَعَالَى : (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ) . عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حَسْبُكَ مِنْ صَفِيَّةَ كَذَا وَكَذَا- تَعْنِي قَصِيرَةً- فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً؛ لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ»، رَوَاهُ أَبُو دَاودَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ . فَاُنْظُرْ إِلَى هَذِهِ الأَفْعَالِ وَالأَقْوَالِ الَّتِي قَدْ يَظُنُّهَا الْبَعْضُ يَسِيرَةً؛ كَيْفَ اِعْتَبَرَهَا الشَّارِعُ مِنَ الْغِيبَةِ الْكَبِيرَةِ ؟!
عِبَادَ اللَّهِ، إِنَّنَا قَدْ نَقَعُ فِي الْغُيبَةِ بِسَبَبِ ضَعْفِ إيـمَانِنَا ، أَوْ مَا تُسَوِّلُهُ لَنَا أَنَفْسُنَا، وَتُبِيحُهُ لَنَا عُقُولُنَا وَأَمْزِجَتُنَا وَأَهْوَاؤُنَا ، وَنـْحْنُ نَظُنُّ أَنَّنَا نُـحْسِنُ صُنْعًا . وَقَدْ نَقَعُ فِي الْغُيَّبَةِ بِسَبَبِ الْمُجَامَلَةِ لِـجُلَسَائِنَا . فَتَجِدُ الْوَاحِدَ مِنَّا يُجَامِلُ جَلِيسَهُ ، عَلَى حِسَابِ دِينِهِ ، فَيُسَايِرُ الـمُغْتَابَ وَيُؤَيِّدُهُ ، أَوْ يَسْكُتُ وَلَا يُنْكِرُ الْمُنْكَرُ ، وَهَذَ لَا شَكَّ إِثْـمٌ كَبِيـرٌ، وَذَنْبٌ عَظِيمٌ ، فَمِمَّا يُجَرِّئُ الْـمُغْتَابَ، وَيَـجْعَلُهُ يَتَمَادَى فِي غَيِّهِ؛ أَنَّهُ يَـجِدُ آذَنًا صَاغِيَةً؛ قَالَ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ رَدَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ؛ رَدَّ اللَّهُ عَنْ وَجْهِهِ النَّارَ يَوْمَ القِيَامَةِ» رَوَاهُ التِّــرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ. وَقَالَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ:(يَنْبَغِي لَمَنْ سَـمِعَ غَيْبَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ أَنْ يَرُدَّهَا، وَيَزْجُرَ قَائِلَهَا، فَإِنْ لَـمْ يَسْتَطِعْ؛ فَارَقَ ذَلِكَ الْمَجْلِسَ) . وَلِلْغِيبَةِ أَسْبَابٌ كَثِيرَةٌ ، مِنْهَا :
1- السَّعْيُ لَأَنْ يَشْفِيَ الـمُغْتَابُ الْغَيْظَ الَّذِي فِي صَدْرِهِ تِـجَاهَ غَيْـرِهِ؛ فَيَذْكُرُ مَسَاوِئَ مَنْ يَبْغَضُهُ، وَيَـحْقِدُ عَلَيهِ .
2- إِرَادَةُ رِفْعَةِ النَّفْسِ، وَخَفْضِ غَيْرِهِ ؛ كَأَنْ يَقُولُ : فُلَانٌ جَاهِلٌ، أَوْ فَهْمُهُ سَقِيمٌ ، أَوْ عِبَارَتُهُ رَكِيكَةٌ ...... إلخ
3- مُوَافَقَةُ الْـجُلَسَاءِ، وَمُـجَامَلَتُهُمْ، فِيمَا هُمْ عَلَيهِ مِنَ الْبَاطِلِ؛ لِكَيْ يَكْسِبَ رِضَاهُمْ، حَتَّى وَلَوْ أَدَّى ذَلِكَ إِلَى بُغْضِ اللهِ لَهُ، وَهَذَا مِنْ ضَعْفِ الإِيـمَانِ، وَعَدَمِ مُرَاقَبَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فِي السِّرِّ وَالْعَلَنِ. وَهَذَا السَّبَبُ مِنْ أَكْثَرِ الأَسْبَابِ اِنْتِشَارًا، وَمِنْ أَشَدِّهَا بَلَاءً، وَمِنْ أَعْظَمِهَا ذَنْبًا؛ لَأَنَّ صَاحِبَهَا طَلَبَ إِرْضَاءَ النَّاسِ فِي غَضَبِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ .
4- إِظْهَارُ التَّعَجُّبِ مِنْ أَصْحَابِ الْمَعَاصِي؛ كَأَنْ يَقُولُ : مَا رَأَيْتُ أَعْجَبَ مِنْ فُلَانٍ ! كَيْفَ يـُخْـطِئُ وَهُوَ رَجُلٌ عَاقِلٌ ؟! أَوْ كَبِيرٌ أَوْ عَالِـمٌ؟! إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.
5- السُّخْرِيَةُ وَالاِسْتِهْزَاءُ بِالآخَرِينَ وَالْاِحْتِقَارُ لَـهُمْ؛ فَتَجِدُهُ لَا يَعْتَبِرُ لِخَادِمِهِ، أَوْ أَجِيرِهِ غِيبَةً؛ فَيَغْتَابُ عَامِلَهُ، وَيَذْكُرُ عُيُوبَهُ لِلآخَرِينَ؛ كَأَنْ يَقُولُ: إِنَّ عَامِلِي قَلِيلُ الْفَهْمِ، وَضَعِيفُ الْاِسْتِيعَابِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ؛ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ هَذَا الْعَامِلَ لَا غِيبَةَ لَهُ، وَلَا حُرْمَةَ لَهُ، وَقَدْ يَكُونُ هَذَا الْعَامِلُ -عِنْدَ اللّهِ- أَعِظَمَ مِنْه مَكَانَةً ، وَأَرَفْعَ دَرَجَةً. وَقَدْ يَذْكُرُ نَوَادِرَهُ أَوْ بَعْضَ تَصَرُّفَاتِهِ الْمُـنْقِصَةِ لَهُ؛ لِيُضْحِكَ بِـهَا الآخَرِينَ، فَيَبُوءُ بِالإِثْـمُ هُوَ وَأَصْحَابُهِ الَّذِينَ يَسْكُتُونَ عَلَى الْمُنْكَرِ وَيُقِرُّونَهُ عَلَيهِ .
6- وَمِنْ أَسْبَابِـهَا : الظُّهُورُ بِـمَظْهَــرِ الْغَاضِبِ للهِ ، الْمُنْتَصِرِ لِـحُرُمَاتِهِ ؛ فَيَقُولُ : فُلَانٌ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ اللهِ ، يَفْــعَلُ كَذَا وَكَذَا ، وَيَقَعُ فِي غِيبَتِهِ .
7- وَمِنْ أَسْبَابِـهَا: الْـحَسَدُ؛ حَيْثُ يـَحْسُدُ الـمُغْــتَــابُ مَنْ يُثْنِي عَلَيْهِ النَّاسُ وَيُـحِبُّونَهُ؛ لِعِلْمِهِ، أَوْ دِينِهِ، أَوْ كَرَمِهِ، أَوْ لِغَيْر ذَلِكَ؛ فَيُحَاوِلُ الْـمُغْتَابُ- الْـحَسُودُ قَلِيلُ الدِّينِ وَالْعَقْلِ- أَنْ تَزُولَ هَذِهِ النِّعْمَةُ؛ فَلَا يَـجِدُ طَرِيقًا لِذَلِكَ إِلَّا بِغِيبَتِهِ، وَالْوُقُوعِ فِي عِرْضِهِ؛ بـِهَدَفِ أَنْ يُزْيَلَ نِعْمَتَهُ ، أَوْ يُقَلِّلَ مِنْ شَأْنِهِ عِنْدَ مَنْ يُثْنُونَ عَلَيهِ .
عِبَادَ اللهِ، إِنَّ عُقُوبَةَ الْـمُغْتَابِ عَظِيمَةٌ؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَمَّا عُرِجَ بِي مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ، يَخْمُشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ، وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاودَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، فَهَذَا الْـمَنْظَرُ الْبَشِعُ، مُتَوَعَّدٌ بِهِ كُلُّ مُغْتَابٍ، لَـمْ يَتُبْ مِنْ ذَنْبِهِ، وَيَتَحَلَّلُ مِنْ أَخِيهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ، وَلَمْ يَدْخُلِ الْإِيمَانُ قَلْبَهُ، لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنِ اتَّبَعَ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِعُ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ يَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاودَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ . وَقَالَ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «إِنَّ مِنْ أَرْبَى الرِّبَا الِاسْتِطَالَةَ فِي عِرْضِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ». رَوَاهُ أَبُو دَاودَ، وَغَيْـرُهُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ . وَإِلَيْكُمْ بَعْضَ الْـحُلُولِ الْمُقْتَـرَحَةِ لِلتَّخَلُّصِ مِنْ كَبِيرَةِ الْغِيبَةِ :
1- أَنْ يَتَّفِقَ مَعَ: الزُّمَلَاءِ، وَالأَصْدِقَاءِ، وَالأَهْلِ؛ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَإِنْكَارِ الْمُنْكَرِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، فَأَيـُّمَا وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَقَعَ فِي الْغِيبَةِ؛ ذَكَّرُوهُ، وَحَذَّرُوهُ، وَنَهَرُوهُ، وَزَجَرُوهُ، فَإِنْ لَـمْ يَسْتَجِــبْ اِجْتَنَبُوهُ؛ وَلَا يُـجَامِلُونَهُ عَلَى حِسَابِ دِينِهِمْ، فَهُوَ لَا يَضُرُّ نَفْسَهُ فَحَسْبُ؛ بَلْ يَضُرُّهُمْ مَعَهُ ، فَهُمْ شُرَكَاؤُهُ فِي الإِثْـمِ إِنْ لَـمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ.
2- أَنْ يَتَذَكَّرَ الإِنْسَانُ أَنَّهُ مَتَى وَقَعَ فِي الْغِيبَةِ؛ فَهُوَ مُتَعَرِّضٌ لِسَخَطِ اللهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالِى- وَمَقْتِهِ، كَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ الأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ، وَمِنْهَا: قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ، لاَ يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ، لاَ يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَهْوِي بِـهَا فِي جَهَنَّمَ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ
3- وَعَلَى الْـمُغْتَابِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ حَسَنَاتِهِ يُـؤْخَذُ مِنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَتُعْطَى لَمِنْ اِغْتَابَهُ عِوضًا عَمَّا اِسْتَبَاحَهُ مِنْ عِرْضِ أَخِيهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ؛ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ مَنْ اِغْتَابَهُمْ ، وَطُرِحَتْ عَلَى سَيِّئَاتِهِ، وَرُبَّـمَا تَرْجُحُ كِفَّةُ سَيِّئَاتِهِ، فَيَدْخُلِ النَّارَ بِسَبَبِ الْغِيبَةِ .
4- أَنْ يَنْظُرَ إِلَى سَبَبِ الْغِيبَةِ :
أ‌- فَإِذَا كَانَتْ لِغَضَبٍ؛ فَعَلَيهِ أَنْ يُذَكِّرَ نَفْسَهُ بِأَنْ يَقُولُ لَـهَا : إِنْ أَمْضَيْتُ غَضَبـِي عَلَيهِ، أَخْشَى أَنْ يُـمْضِيَ اللهُ غَضَبَهُ عَلَيَّ، فَإِنَّ اللهَ قَدْ نَـهَانِي عَنْهَا فَعَصَيْتُهُ، وَاِسْتَخْفَفْتُ بِنَهْيِهِ .
ب‌- إِذَا كَانَ سَبَبُ الْغِيبَةِ مُوَافَقَةُ الآخَرِينَ، وَطَلَبُ رِضَاهُمْ؛ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللهَ يَغْضَبُ عَلَيْهِ إِذَا طَلَبَ سَخَطَهُ بِرِضَا الْمَخْلُوقِيـنَ ، فَكَيْفَ يَرْضَى أَنْ يُسْخِطَ الْـخَالِقَ، الَّذِي بِيَدِهِ كُلُّ شَيْءٍ ، مِنْ أَجْلِ إِرْضَاءِ مَـخْلُوقٍ، لَا يَـمْلِكُ لَهُ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا ؟
ت‌- وَإِنْ كَانَ سَبَبَهَا إِضْحَاكُ الْآخَرِينَ؛ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمُغْتَابِ أَنْ يَتَعَجَّبَ مِنْ نَفْسِهِ : كَيْفَ أَهْلَكَ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِ إِضْحَاكِ غَيْرَهُ ؟!
ث‌- وَإِنْ كَانَ سَبَبَهَا الـرَّحْـمـَةُ وَالشَّفَقَةُ -كَمَا يَتَصَوَّرُ- فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ بِالْغِيبَةِ؛ فَإِذَا رَأَى غَيْرَهُ عَلَى مُنْكَرٍ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْلُكَ الطَّرِيقَ الصَّحِيحَ، وَهُوَ النَّصِيحَةُ عَلَى اِنْفِرَادٍ، دُونَ تَشْهِيـرٍ بِهِ، وَمِثَالُ ذَلِكَ : مَنْ يَذُمُّ إِمَامَ مَسْجِدِهِ؛ بِأَنَّ فِيهِ عَيْبَ كَذَا وَكَذَا، أَوْ أَنَّ فُلَانًا لَيْسَ بَارًّا بِوَالِدَيْهِ، أَوْ يَذُمُّ تِلْمِيذًا بِأَنَّهُ غَيْرُ ذَكِيٍّ ، أَوْ ضَعِيفُ الْـمُسْتَوَى، أَوْ أَنَّ أَهْلَهُ مُهْمِلُونَ لَهُ، فَعَلَيهِ بِإِسْدَاءِ النَّصِيحَةِ عَلَى الطَّرِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ السَّلِيمَةِ، دُونَ اللُّجُوءِ لِلْغِيبَةِ .
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبً فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ .














الْـخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى عِظَمِ نِعَمِهِ وَاِمْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ لَا شريكَ لَهُ،تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وَأَشَهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ،وَخَلِيلُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ،وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ،وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا . أمَّا بَعْدُ ...... فَاِتَّقُوا اللهَ - عِبَادَ اللهِ- حَقَّ التَّقْوَى،وَاِسْتَمْسِكُوا مِنَ الْإِسْلَامِ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى،وَاِعْلَمُوا أَنَّ أَجْسَادَكُمْ عَلَى النَّارِ لَا تَقْوَى .
عِبَادَ اللَّهِ، الْغِيبَةُ كَسَائِرِ الْمَعَاصِي يـَجـِبُ الْمُبَادَرَةُ إِلَى التَّوْبَةِ مِنْهَا ، فَالتَّوْبَةُ مِنْ الْغِيبَةِ ضَرُورِيَّةٌ لَكُلِّ مُسْلِمٍ، وَطَرِيقُ التَّوْبَةِ:
1- أَنْ يَتَحَلَّلَ مِـمَّنْ اِغْتَابَهُ، وَيَطْلُبَ مِنْهُ الْعَفْوَ ، فَيَقُولُ لَهُ : لَقَدْ وَقَعْتُ فِي غِيبَتِكَ، وَقَدْ نَدِمْتُ وَتُبْتُ إِلَى اللهِ، فَأَرْجُو أَنْ تُسَامِـحَنـِي ، وَتَعْفُوَ عَنـِّي.
2- فَإِنْ عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي لِلْجَفَاءِ وَالْبَغْضَاءِ، أَوْ يَتَرَتَّبُ عَلَى إِخْبَارِ مَنْ اِغْتَابَهُ مُنْكَرٌ آخَرُ ، فَلَا يُـخْبِـرْهُ ، وَإِنـَّمَا يَذْكُرُهُ بِالْـخَيْـرِ، فِي الْمَجَالِسِ الَّتِي ذَكَرَهُ فِيهَا بِالشَّرِّ ، وَيَرُدُّ عَنْهُ الْغِيبَةَ بـِجُهْدِهِ وَطَاقَتِهِ.
3- وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا؛ تَصَدَّقَ عَنْهُ، وَاِسْتَغْفَرَ لَهُ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ.
4- وَعَلَيْهِ أَنْ يُرَاعِيَ شُرُوطَ التَّوْبَةِ، وَمِنْهَا النَّدَمُ عَلَى مَا فَاتَ، وَالْعَزْمُ الْـجَازِمُ عَلَى عَدَمِ الْعُودَةِ إِلَى ذَلِكَ الذَّنْبِ مَرَّةً أُخْرَى .
عِبَادَ اللَّهِ، أَبَاحَ الإِسْلَامُ الْغِيبَةَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَذَلِكَ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ؛ ذَكَرَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ مِنْهَا :
1- عِنْدَمَا يَتَظَلَّمُ إِلَى الْقَاضِي؛ فَيَقُولُ : فُلَانٌ ظَلَمَنِـي ، أَوْ فَعَلَ بِي كَذَا وَكَذَا .
2- الْاِسْتِعانَةُ عَلَى تَغْيِيـرِ الْمُنْكَرِ؛ وَذَلِكَ بَعْدَ بَذْلِهِ الْجُهْدَ فِي نُصْحِ الْعَاصِي وَزَجْرِهِ؛ فَيَقُولُ للْمَـسْؤولِينَ: فُلَانٌ يَعْمَلُ كَذَا وَكَذَا ، فَاُزْجُرُوهُ .
3- الْاِسْتِفْتَاءُ : كَأَنْ يَقُولُ لِلْمُفْتِـي: ظَلَمَنِـي أَبِي، أَوْ أَخِي، فَمَاذَا أَصْنَعُ ؟
4- جَرْحُ الرُّواةِ فِي عِلْمِ الْـحَدِيثِ، فَيُقَالُ : فُلَانٌ وَضَّاعٌ، أَوْ كَذَّابٌ، أَوْ مُدَلِّسٌ
5- الإِخْبَارُ بِعَيْبٍ عِنْدَ الْـمُشَاوَرَةِ،كَأَنْ يَقُولُ: فُلَانٌ خَطَبَ اِبْنَتِـي، فَمَاذَا تَعْرِفُ عَنْهُ ؟ فَهُنَا يَـلْزَمُ ذِكْرُ عُيُوبِهِ وَمَـحَـاسِنِهِ؛ إَذَا كَانَتْ مُؤَثِّرَةً عَلَى الزَّوَاجِ
6- وَمِنْهَا إِخْبَارُ الرَّئِيسِ عَنْ فِسْقِ مَرْؤُوسِهِ وَبِدْعَتِهِ؛ لِيَحْذَرَ الْـمُسْلِمُونَ مِنْهُ.

اللَّهُمَّ اِحْفَظْ أَلْسِنَتَنَا مِنَ الْكَذِبِ، وَالْغِيبَةِ، وَالنَّمِيمَةِ، وَسَائِرِ آفَاتِ اللِّسَانِ!
الَّلهُمَّ اِحْمِ بِلَادِنَا وَسَائِرَ بِلَادِ الإِسْلَامِ مِنَ الفِتَنِ، وَالمِحَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَن،الَّلهُمَّ وَفِّقْ وَلِي أَمْرِنَا، لِمَا تُحِبُ وَتَرْضَى،وَخُذْ بِنَاصِيَتِهِ لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى،الَّلهُمَّ اجْعَلْهُ سِلْمًا لِأْوْلِيَائِكَ،حَرْباً عَلَى أَعْدَائِكَ،الَّلهُم ارْفَعْ رَايَةَ السُّنةِ،وَأَقْمَعْ رَايَةَ البِدْعَةِ،الَّلهُمَّ احْقُنْ دِمَاءَ أَهْلِ الإِسْلَامِ فِي كُلِّ مَكَانٍ،«اللهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا الَّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا الَّتِي فِيهَا مَعَادُنَا، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ»( ). اللهُمَّ أَكْثِرْ أَمْوَالَ مَنْ حَضَرَ،وَأَوْلَادَهُمْ،وَأَطِلْ عَلَى الْخَيْرِ أَعْمَارَهُمْ،وَأَدْخِلْهُمُ الْجَنَّةَ. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى المُرْسَلِينَ وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ وَقُومُوا إِلَى صَلَاتِكمْ يَرْحَمْكُمُ اللهُ.
المرفقات

مَشْكُولَةٌ.docx

مَشْكُولَةٌ.docx

غير مشكولة.docx

غير مشكولة.docx

المشاهدات 2560 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا