الغيبة وشيء من أضرارها 1439/07/27
عمر بن عبد الله بن مشاري المشاري
1439/07/26 - 2018/04/12 18:12PM
الغيبة وشيء من أضرارها[1]
الحمدلله القائل:{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}[ق: 18] وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً, أما بعد:
فاتقوا الله أيها المؤمنون, واعلموا أنكم على كلامكم محاسبون.
معاشر المسلمين: إنَّ الله تعالى لم يحرم شيئاً إلا لحكمة, وإنَّ الغيبة والنميمة حرَّمهما الله, وهما من كبائر الذنوب, فلا يجوز أن يذكر المسلم أخاه بسوء, ولا أن ينقل كلاماً من شخص إلى آخر فيُفسد بينهما, ويقطِّع أواصر الألفة والمحبة والقرابة, وقد نهى الله عن الغيبة فقال تعالى: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 12] قال الإمام السعدي رحمه الله: (شبَّه أكل لحمه ميتًا، المكروه للنفوس غاية الكراهة، باغتيابه، فكما أنكم تكرهون أكل لحمه، وخصوصًا إذا كان ميتًا، فاقد الروح، فكذلك فلتكرهوا غيبته، وأكل لحمه حيًا)[2].
عباد الله: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟» قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ» قِيلَ أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟ قَالَ: «إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ، فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ»[3] أخرجه مسلم.
معاشر المسلمين: من الناس من جعل أعراض الناس فاكهة يتفكَّه بها في المجالس, لا يطيب له مجلس إلا بذكر السوء في غيره, يُحدِّث جليسه بقوله: أرأيت ما فعل فلان, أسمعت ما قال, فلان فيه كذا وفلانة فيها كذا, وقد يصل به الأمر إلى اتهامه في نيته ودينه وعرضه, ومن كان هذا فعله فهو المفلس الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟» قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، فَقَالَ: «إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ، وَصِيَامٍ، وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ»[4] أخرجه مسلم. وأما عن عقوبة الغيبة فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (لَمَّا عَرَجَ بِي رَبِّي مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ، يَخْمُشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ. فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ، وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ)[5] أخرجه الإمام أحمد وأبوداود وصححه الألباني. فما أشدَّ عذاب أهل الغيبة في الآخرة, وما أشد خطر اللسان إذا أفلته صاحبه ولم يُمسكه عما حُرِّم عليه, ومن العجب أن يستهين أقوام بأمر الغيبة والنميمة, فلا يلومون أنفسهم ولا يحاسبونها ولا يتوبون إلى الله منها, ومن العجب أنَّ أهل الغيبة قد يلومون من يغتابهم ولا يلومون أنفسهم على غيبتهم غيرَهم, ولا يريديون أحداً أن يلومهم, فلا تنه أيها المغتاب عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم قال مجاهد رحمه الله: (لا تذكر أخاك في غيبته إلا كما تحب أن يذكرك في غيبتك)[6].
معاشر المسلمين: إنَّ الغيبة من أخلاق اللئام, قَالَ عَدِيُّ بنُ حَاتمٍ رضي الله عنه: (الْغِيبَةُ رَعْيُ اللِّئَامِ) وسُئِلَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ عَنْ صِفَةِ اللَّئِيمِ، فَقَالَ: اللَّئِيمُ إذَا غَابَ عَابَ، وَإِذَا حَضَرَ اغْتَابَ) [7] وعن القاسم مولى معاوية، قال: (سمعت ابن أمِّ عبد رضي الله عنه يقول: ما التقم أحد لقمة أشرّ من اغتياب المؤمن)[8]. وقال ابن الجوزي رحمه الله: (كم أفسدت الغيبة من أعمال الصالحين وكم أحبطت من أجور العاملين وكم جلبت من سخط رب العالمين فالغيبة فاكهة الأرذلين وسلاح العاجزين, مضغةٌ طالما لفظها المتقون, نغمةٌ طالما مجَّتها أسماع الأكرمين)[9]. وقال عوف: (دخلت على ابن سيرين فتناولت الحجَّاج فقال ابن سيرين: إن الله تعالى حكم عدل فكما يأخذ من الحجاج يأخذ للحجاج وإنك إذا لقيت الله عز وجل غدا كان أصغر ذنب أصبته أشد عليك من أعظم ذنب أصابه الحجاج)[10]. انتهى ما قال رحمه الله ولقد عاب رجل رجلاً عند بعض الأشراف فقال له: قد استدللت على كثرة عيوبك بما تكثر من عيوب الناس. لأن طالب العيوب إنما يطلبها بقدر ما فيه منها. أما سمعت قول الشاعر:
لا تهتكنْ من مساوي الناس ما ستروا...فيهتك الله ستراً من مساويكا
واذكر محاسن ما فيهم إذا ذكروا ... ولا تعب أحداً منهم بما فيكا[11]
أيها المؤمنون: إنَّ المستمع للغيبة شريك فيها ما لم ينكر على المغتاب, قال ابن قدامة رحمه الله: (المستمع للغيبة شريك فيها، ولا يتخلص من إثم سماعها إلا أن ينكر بلسانه، فإن خاف فبقلبه وإن قدر على القيام، أو قطع الكلام بكلام آخر، لزمه ذلك)[12].
عباد الله: من نُقلت إليه نميمة بأنَّ فلاناً قال فيك كذا وكذا فعليه نحو ذلك ستة أشياء ذكرها ابن قدامة رحمه الله:
الأول: أن لا يصدق الناقل، لأنَّ النمام فاسق مردود الشهادة. الثاني: أن ينهاه عن ذلك وينصحه.
الثالث أن يبغضه في الله، فإنه بغيض عند الله.
الرابع: أن لا يظن بأخيه الغائب السوء.
الخامس: أن لا يحمله ما حكى له على التجسس والبحث، لقوله تعالى: {وَلَا تَجَسَّسُوا} [الحجرات: 12].
السادس: أن لا يرضى لنفسه ما نهى النمام عنه، فلا يحكى نميمته[13].
معاشر المسلمين: وقع الفضل بن سهل على قصة ساع سعى إليه فقال: نحن نرى قبول السِّعاية شراً منها؛ لأنَّ السِّعاية دلالة، والقبولَ إجازة، فاتقوا الساعي فإنَّه إن كان في سِعايته صادقاً كان في صدقه آثما، إذ لم يحفظ الحرمة ويستر العورة. وقال الإسكندر لرجل سعى إليه برجل: أتحبُّ أن نقبل منك ما تقول فيه على أن نقبل منه ما يقول فيك؟ قال: لا. قال: فَكُفَّ عن الشر يَكُفَّ عنك الشر[14]. ودخل رجل على الخليفة عبدِ الملك رحمه الله فقال: هل من خلوة؟ فأقبل عبد الملك على أصحابه، وقال: إذا شئتم، فقاموا. فقال له عبد الملك: اسمع لا تمدحني في وجهي, فإني أعرف بنفسي منك, ولا تَكذُبني فليس لكذوب رأي, ولا تَـسـعـيـنَّ بأحدٍ إليّ، فقال الرجل: أأنصرف، قال إذا شئت، فقام وانصرف)[15].
معاشر المسلمين: إياكم والغيبة والنميمة فإنَّ لها من الآثار السيئة, ما يكون مفرِّقاً للأقارب والجيران والأصحاب وما يكون مفكِّكاً لنسيج المجتمع الواحد, ويُدخل على المتحابين التباغض والكراهية وسوء الظن, فعليكم الحذر من الغيبة والنميمة ومن المغتاب ومن النميمة والساعي بها, وكذلك فإنَّ المغتاب ينال العقاب في قبره وفي الآخرة.
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] تم إعدادها يوم الاثنين 23/07/1439هـ, ليوم الجمعة 27/07/1439هـ جامع بلدة الداخلة في سدير, عمر المشاري.
[2] تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص: 802).
[3] أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب, باب تحريم الغيبة برقم (2589).
[4] أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب, باب تحريم الظلم برقم (2581).
[5] أخرجه الإمام أحمد في مسنده من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه برقم (13340) وأبو داود في كتاب الأدب, باب في الغيبة برقم (4878) وصححه الألباني في الصحيحة برقم (533).
[6] إحياء علوم الدين (2/ 181).
[7] ينظر أدب الدنيا والدين (ص: 266-267).
[8] تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (22/ 306).
[9] التذكرة في الوعظ (ص: 124).
[10] الرسالة القشيرية (1/ 291)
[11] مجاني الأدب في حدائق العرب (3/ 117).
[12] مختصر منهاج القاصدين (ص: 170).
[13] ينظر مختصر منهاج القاصدين (ص: 174-175).
[14] ينظر أدب الدنيا والدين (ص: 268)
[15] محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء (1/ 474-475).
المرفقات
وشيء-من-أضرارها
وشيء-من-أضرارها
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق