الغيبةُ والنميمةُ شرٌّ بلا خيرٍ"

عبدالمحسن بن محمد العامر
1444/06/26 - 2023/01/19 11:13AM

إنّ الْحَمْدَ للهِ نَحْمَدُه ونستعينُه ، ونستغفرُه ، ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا ، ومن سيئاتِ أعمالِنا ، مَن يَهْدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ له ، ومَن يُضْلِلْ فلا هادِيَ له ، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له ، وأشهدُ أنَّ مُحَمَّدًا عبدُه ورسولُه "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ"

 "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا"

"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا"

أما بعدُ: فإنَّ أصْدَقَ الحديثِ كتابُ اللهِ، وخيرَ الهديِ هديُ محمدٍ صلى اللهُ عليه وسلَمَ، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ مُحْدَثَةٍ بدْعةٌ، وكلَّ بدْعةٍ ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النَّارِ.

معاشرَ المؤمنينَ: كلمةٌ واحدةٌ يُخْرِجُها المرءُ مِنْ بينِ شفتيهِ لا يلقي لها بالاً، ولا يَحسبُ لها حساباً؛ لو خالطتِ ماءَ البحرِ لغيَّرتْ ريحَه ولونَه وطعْمَه مِنْ شدَّةِ نَتَنِها وقُبْحِها، تِلْكُمُ الكلمةُ هي كلمَةُ الغيبَةِ؛ وإنْ كانتْ كلمةً واحدةً، أو إشارةً عَابرةً، أو تلميحاً، أو تَعريضاً؛ عن عائشةَ رضي اللهُ عنها قالتْ: قلتُ للنَّبيِّ صلى اللهُ عليه وسلم: حَسْبُكَ مِنْ صفيَّةَ كذا وكذا ـــ تعني قصيرةً ـــ فقالَ صلى الله عليه وسلم: " لقد قُلْتِ كلمةً لو مُزِجَتْ بماءِ البحرِ لمَزَجَتْهُ" رواهُ أبو داودَ والتّرمذيُّ ، وقالَ حسنٌ صحيحٌ، وصححه الألبانيُّ.

ألا ما أعظَّمَ الغِيبةَ، وما أشْنَعَهَا، وما أَضرَّها على مجتمعاتِ المسلمين.

  ففيها كَشْفٌ لِعوراتِ الآخرينَ؛ عن أبي بَرْزَةَ الأسلميِّ رضي اللهُ عنه قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ: "يا معشرَ مَنْ آمنَ بلِسانِه ولمْ يدْخلِ الإيمانُ قلبَه، لا تغتابوا المُسْلِمِيْنَ، ولا تَتَّبعوا عوْراتِهم، فإنَّهُ مَنْ اتَّبَعَ عَوراتِهم؛ يَتَّبِعُ اللهُ عَورتَه، ومَنْ يَتَّبعِ اللهُ عورتَه؛ يَفْضَحُه في بيتِه "رواه الإمامُ أحمدُ وأبو داودَ وصححه الألبانيُّ.

 وفي الغيبةِ نشرٌ لِعُيوبِهم؛ رُوِي عن بعضِ السَّلفِ أنَّهُ قالَ: أدركتُ قومًا لم يكُنْ لهمْ عيوبٌ، فذكروا عيوبَ الناسِ، فَذَكَرَ الناسُ عيوبَهَمْ، وأدركتُ قومًا كانتْ لهمْ عيوبٌ، فكفُّوا عن عيوبِ الناسِ فنُسِيتْ عيوبُهم.
وفي الغيبةِ استهانةٌ بِمَا في النَّاسِ مِنْ بلاءٍ؛ والمشروعُ للمسلمِ أنْ يقولَ في هذا المَوقِفِ ما أرشدَ إليه النبيُّ عليه الصلاةُ والسلامُ؛ فعنْ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضيَ اللهُ عنهُما قالَ، قالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ:" مَنْ رأى مبتلًى فقالَ: الحمدُ للهِ الذي عافاني ممَّا ابتلاكَ بِهِ، وفضَّلني على كثيرٍ مِمَنْ خَلَقَ تَفضيلًا، لَمْ يُصِبْهُ ذلك البلاءُ" رواهُ ابنُ ماجه وصححهُ الألبانيُّ.

وفي الغيبةِ شماتةٌ بالمسلمِ؛ والشَّماتةُ مِنْ سُلُوكِ الأعداءِ، وقد تعوّذَ صلى اللهُ عليه مِنْ شماتَةِ الأعداءِ، عن أبي هريرة رضي الله عنه" :أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلمَ كانَ يتعوَّذُ مِنْ سوءِ القَضاءِ، ومِنْ دَرَكِ الشَّقَاءِ، ومِنْ شَمَاتَةِ الأعدَاءِ، ومِنْ جَهْدِ البلاءِ" رواهُ البخاريُّ ومسلمٌ. قالَ الشوكانيُّ: (استعاذَ صلى اللُه عليه وسلمَ مِنْ شَمَاتَةِ الأعداءِ، وأمرَ بالاستعاذةِ مِنها؛ لِعِظَمِ مَوقِعِهَا، وَشِدَّةِ تأثيرِها في الأنفسِ البَشِريَّةِ، ونُفُورِ طِبَاعِ العِبَادِ عَنْها، وقدْ يَتَسَبَّبُ عن ذلك تَعَاظُمُ العداوةِ المُفْضِيةِ إلى استحلالِ ما حرَّمَه اللهُ سبحانَه وتَعالى)

وفي الغيبةِ نشرٌ للحقدِ، والحَسَدِ، والكَراهِيَةِ، والبَغَضَاءِ، بين أفرادِ المُجْتَمَعِ، وقدْ نهى رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ عن ذلك نهياً صريحاً فقالَ: "لا تحاسَدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبِعْ بعضُكم على بيعِ بعضٍ، وكونوا - عبادَ اللهِ -  عن إخوانًا، المسلمُ أخو المسلمِ: لا يظلِمُه، ولا يخذُله، ولا يكذِبُه، ولا يحقِرُه، التقوى ها هنا - ويشيرُ إلى صدْرِه ثلاثَ مراتٍ - بحَسْبِ امرئٍ مِنَ الشَّر أْن يَحْقِرَ أخاه المسلمَ، كلُّ المُسلمِ على المُسلمِ حَرامٌ: دمُهُ ومالُهُ وعِرْضُه" رواهُ مسلمٌ.
وفي الغيبَةِ إفسادُ المودَّاتِ، وقَطْعُ أوَاصِرِ الأُخوَّةِ الإيمَانيَّةِ، وملءُ القلوبِ بالضَّغَائِنِ والعداوات، قالَ بعضُ الحكماءِ: (النَّمِيمَةُ تُهدي إلى القلوبِ البَغْضَاءَ، ومَنْ واجهَكَ فقدْ شَتَمَكَ، ومَنْ نَقَلَ إليكَ فَقَدَ نَقَلَ عَنْكَ، والسَّاعي بالنَّمِيمَةِ كاذبٌ لِمَنْ يسعى إلِيه، وخائنٌ لِمَنْ يَسَعى بِه(

وفي الغيبَةِ استطالةٌ في عِرْضِ المؤمنِ، وهتْكٌ لِحُرْمَتِه، وهذا مِنْ أشَدِّ أنواعِ الرِّبا ـــ عياذاً باللهِ ـــ عن سعيدِ بنِ زيدٍ رضيَ اللهُ عنه قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ: "إن من أرْبى الربا الاستطالةَ في عرضِ المسلمِ بغيرِ حقٍّ" رواهُ أبو داودَ وصححه الألبانيُّ.

واستِطالةُ الرجلِ في عِرْضِ أخيه المسلمِ أشدُّ إثماً مِنَ الزِّنا ـــ عياذاً باللهِ ـــ عنِ عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رضيَ اللهُ عنه قالَ قالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: "الربا ثلاثةٌ وسبعونَ بابًا ، وأيسرُها مثلُ أنْ ينكِحَ الرجلُ أمَّهُ ، و إِنَّ أربى الرِّبا عِرْضُ الرَّجُلِ المسلمِ" رواه ابنُ ماجه وغيرُه وصححه الألبانيُّ.

معاشرَ المؤمنينَ: أرأيتمْ كيفَ تَجْلِبُ الغيبةُ العظائمَ، وكيفَ تحوي الكبائرَ، وكيفَ تُوْقِع في المهالكِ!! وما ذُكِرَ آنفاً ليسَ إلا غيظٌ مِنْ فيضٍ من شرِّ الغيبةِ وأضرَارِها.

أأدركتمْ شيئاً مِنْ حِكْمَةِ الشارعِ الحكيمِ، حينَ حرّمَ الغيبةَ، ونهى عنها، ومَثَّلَ المغتابَ بآكلِ لَحْمِ أخيهِ ميْتاً، قالَ تعالى: "وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ"

قالَ المفسِّرونَ: أي: كمَا تكرهونَ هذا طبعاً، فاكرَهوا ذاكَ شرعاً، فإنَّ عقوبَتَه أشدُّ مِنْ هذا.

باركَ اللهُ لي ولكمْ بالكتابِ والسنَّةِ، ونفعنا بما فيهما من العِبَرِ والحكمَةِ.

أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكمْ إنّه هو الغفورُ الرحيمُ.

 

الخطبةُ الثانيةُ:

الحمدُ للهِ على الفضلِ والإحسانِ، والشكرُ له على الإسلامِ والإيمانِ، وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شركَ له الملكُ الدَّيَّانُ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه رسولُ الإنسِ والجانِ، صلى اللهُ وسلم عليه وعلى آله وصحبِه والتابعينَ لهم بإحسانٍ، ومِنْ تبعَهمْ بإيمانٍ وإذعانٍ ..

أمَّا بعدُ: فيا عبادَ اللهِ: اتقوا اللهَ "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ"

معاشرَ المؤمنينَ: وممّا يجمعُ شرَّ الغيبةِ كلَّه، وأشرَّ منه؛ النَّميمَةُ، التي يُحْرَمُ صاحِبُها مِنْ دخولِ الجنَّةِ ابتداءً، فعن حذيفةَ رضيَ اللهُ عنه، قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ: "لا يدخلُ الجنَّةَ نمَّامٌ" وفي روايةٍ "قتَّات" رواهُ مسلمٌ.

والنَّمِيْمَةُ مِنْ أعْظَمِ أسبابِ عذابِ القبرِ، عن عبد الله بن عبَّاسٍ رضيَ اللهُ عنهما قال: "مرَّ النَّبيُّ صلى اللهُ عليه وسلمَ بقبرينِ، فقالَ: إنَّهما لَيَعذَّبانِ، وما يعذَّبانِ في كبيرٍ؛ أمَّا أحدُهمَا: فكانَ لا يَستتِرُ مِنَ البَولِ، وأمَّا الآخرُ: فكانَ يمشي بالنَّمِيمَةِ، فأخذَ جريدةً رَطْبَةً، فشقَّها نصفينِ، فغرَزَ في كلِّ قبرٍ واحدةً، فقالوا: يا رسولَ اللهِ، لمَ فعلتْ هذا؟ قالَ: لعلَّهُ يُخَفَّفُ عنهما مَا لمْ يَيبسَا" رواه البخاريُّ ومسلمٌ.

ونهى اللهُ تعالى عن طاعةِ النّمامِ، وذلكَ يشملُ النهيَ عن طاعتِه في سماعِ نميمَتِه ابتداءً، وعن طاعتِه في مَقْصَدِه وغَرَضِه منها، قالَ تعالى: "وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيم"

والنّمامُ شديدُ الخطرِ، عَظِيْمُ الفسادِ والشَّرِّ، قالَ يحيى بنُ أبي كثيرٍ: (يُفْسِدُ النَّمَّامُ والكذَّابُ في ساعةٍ مَا لا يُفْسِدُ السَّاحِرُ في سَنَةٍ)

قالَ الذَّهبيُّ رَحِمَهُ اللهُ: (كلُّ مَنْ حُمِلَتْ إليهِ نَميمةٌ، وَقِيْلَ لهُ: قالَ فِيْكَ فلانٌ: كَذا وكذا؛ لَزِمَهُ سِتَّةُ أحوالٍ:
الأولِ: ألَّا يُصَدِّقَهُ لأنَّهُ نَمَّامٌ فاسقٌ، وهوَ مَردُوْدُ الخّبَرِ.
الثاني: أنْ يَنْهاهُ عن ذلكَ ويَنْصَحَهُ ويُقَبَّحَ فِعْلَه.
الثالثِ: أنْ يُبْغِضَهُ في اللهِ عزَّ وجلَّ، فإنَّه بَغِيْضٌ عِنْدَ اللهِ، والبغضُ في اللهِ واجبٌ.
الرابعِ: ألَّا يَظُنَّ في المَنْقُولِ عنه السوءَ لِقَولِهِ تَعَالَى: "اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ"
الخامسِ: ألَّا يَحمِلَه ما حُكيَ لهُ على التَّجَسُّسِ والبَحْثِ عن تَحَقُقِ ذلكَ؛ مصداقًا لِقَولِهِ تَعَالَى "وَلاَ تَجَسَّسُوا".
السادسِ: ألَّا يَرضى لنَفْسِهِ ما نهى النَّمَّامُ عنه، فلا يَحْكِي نَمِيْمَتَه.

عبادَ اللهِ: وتَكْمُنُ خُطُوْرَةُ النّمّامِ في أنَّه يَقِلُّ الاحْتِرَازُ مِنْهُ؛ لأنَّه يَأتي في صُوْرَةِ النَّاصِحِ المُشْفِقِ، فإنْ صَدَّقْتَه تَحَقَّقَ حينئذٍ مَا يُريدُهُ النَّمَامُ مِنَ الإفسادِ.

فلا تَغتروا بهم وإنْ لبسوا ثيابَ النّاصِحينَ، وإنْ تظاهروا بالمُشفقين، وإنْ رقّتْ كلماتُهم بعباراتِ الرحمةِ.

وخيرُ وسيلةٍ لاجتثاثِ الغيبةِ والنّميْمَةِ من المجتمعِ؛ التعاوُنُ على تجنُّبها، والانكارِ على المتكلِّمِ بها في مجالسنِا، وإنْ سكتنا، ورضينا كُنَّا مِنَ المتعاونينَ معه المشاركينَ له في الإثمِ  قالَ تعالى: "وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ"

هذا وصلّوا وسلموا على رسولِ الله كما أمركم بذلكَ اللهُ إذ يقولُ: .....

المشاهدات 872 | التعليقات 0