الغياب الجماعي
د محمد بن حمد الهاجري
أيها الأحبة في الله، لنتصوّر أنّ رجلا يملك بستانا له، بستانا فيه رياحين وأزهار وأشجار وثمار، وهو يتعهّد ذلك البستان، يتعهّده بالرعاية والسقي والعناية التامّة، يرعى ذلك البستان ويحميه ويصونه، يصونه طبعا من عبث العابثين وإفساد الفاسدين المفسدين، وقد كثروا بيننا نسأل الله العافية، فماذا يحدث؟! وماذا تكون النتيجة؟! لا شك أنه سينمو ويعطي أحسنَ الثمار وأروع الأزهار وستسرّ بالنظر فيه، سيسرّ كل من رآه، كل من رآه، ما نظر فيه أحد وفيما فيه من خيرات إلا وقال: تبارك الله ما شاء الله.
ولكن لو جعل هذا البستان نسيًا منسيّا، لا يتعاهده، ولا يرعاه، ولا يسقي أشجاره، ولا يحفظه، ويتركه عرضة للعبث والفساد، فماذا سيكون مصير هذا البستان؟! هل تكون فيه ثمار؟! هل تكون فيه أزهار؟! هل تكون فيه رياحين؟! هل تكون فيه أشجار؟! الأكيد أنّ الإجابة عندنا جميعا وهي مما نتّفق عليه في دون منازع أنه لا يبقى منه شيء ذلك البستان، بل أنّ اسمه كبستان سيندثر وينمحي ولا يبقى منه شيء.
هذا مثال أسوقه إليكم ـ يا أحبتي في الله ـ على وضعنا في العناية بأبنائنا، حيث إننا نعيش فاجعة كبرى لا يعلم إلا الله سبحانه وتعالى إلى ما ستَنتَهي بنا، فإنّك بين الحين والآخر ترى من السلوك ما لا يصدقه العقل.
إن المرض والداء الذي أصِبنا به في تربية أبنائنا لخطير وخطير جدا، وإننا لنشاهد نتائجه بين أيدينا، وتأخذنا الدّهشة بهاتِه النتائج، ، وأن تلكم النتائج إنما مردّها هو تقصيرنا في تربية أبنائنا،
إنه مما يحزن القلب ويتفتّت له الفؤاد أن نرى الكثير من الناس قد أهملوا تربية أبنائهم، واستهانوا بها، وأضاعوها بالجملة، فلا حفظوا أولادهم، ولا ربوهم على البر والتقوى، بل وللأسف الشديد أن الكثير من الآباء ـ أصلح الله شأنهم ـ يساهمون بطريقة مباشرة أو غير مباشرة فيما أصبح عليه وضع أبنائهم. يقول ابن القيم رحمه الله: "كم من والد أشقى ولده ـ أي: كان سببا في شقاء ولده ـ وفلذة كبده، وذلك بإهماله وترك تربيته والعناية به، بل وترك تأديبه، وذلك بإعانته على شهواته، وهو يظن أنه بتدليله وبتلبية شهواته إنما يكرِمه، بينما في الواقع قد أهانه، يظنّ أنه رحمه وهو قد ظلَمه، ففاته الانتفاع بولده، وفوَّت على ولده حظَّه في الدنيا وفي الآخرة".
وهذا التقصير والاهمال شاهدناه بصورة لافته في الأيام الماضية من غياب كبير لأبناءنا وبناتنا عن مقاعد الدراسة وتخلف عن ركب العلم والتعلم ، وتركنا الحبل على الغارب.
مدارس شبه خالية من الطلاب والطالبات على مرأى ومسمع منا جميعاً نحن الإباء دون ان نحرك ساكنا .. وبل وبعضنا ساهم بقصد او بدون قصد في هذا التسيب والإهمال .
مالذي يحدث أيها الإباء .. اين انتم .. ماهو دوركم في هذه الحياة ..
الا تعلمون ان هؤلاء الأبناء والبنات امانة من ربكم .. والذي قال لكم ( انا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين ان يحملنها واشفقن منها وحملها الانسان )
ألم تسمعوا حديث نبيكم صلى الله عليه وسلم ( كلكم راع وكلكم مسئول على رعيته)
ألم تقرأوا قول الله تعالى ( ياأيها الذين آمنوا قوا أنفسكم
واهليكم )
قل لي بربك أيها الاب ماهو دورك في الحياة .. انجبت الأبناء وتركتهم في مهب الريح دون توجيه او رعاية!
أيها الآباء .. افيقوا من سباتكم .. فالأمر ان استمر على هذا النحو من التفريط والغياب لهو خطر عظيم علينا جميعاً ، وخيانة للآمانة ..
اتركوا عنكم الدلع الزائد لأبناءكم والذي هذا هو نتاجه نراه رأي العين في اهمالهم وغيابهم وتسبيهم .
هل فشلتم في تربيتكم لهم وانتم اهل علم وشهادات .. وقد نجح آباؤنا في تربيتنا وهم اميون.
ألم تخبروا ابناءكم انا آبائنا كانوا يسوقنتا الى المدارس سوقاً ولايبالون بيوم ماطر او ريح شديدة .
ألم تخبروا أبناءكم اننا كنا نغدوا لمدارسنا حفاة في مدارس ليست كمدارس اليوم في التطور والإمكانات.
هلا اخبرتموهم أننا كنا نمشي المسافات الطويلة مشياً على الاقدام لانعرف تعليقاً للدراسة وأسابيع ميتة كما يزعمون الآن .
هل اخبرتموهم عن صعوبة المناهج الدراسية في ذلك الزمن ، وأنا نبيت ليلنا ونحن نكتب الصفحات الطوال من الواجبات ، فلا أجهزة ولاحواسب .
هذا هو جيلنا الذي رباه اباؤنا الاميون .. الجيل الذي آثر العلم على النوم .. والجد على الكسل ..
الجيل الذي عمر الحرمين الشريفين وبنى الأبراج والعمائر ..
الجيل الذي اخرج الزيت من باطن الأرض .
الجيل الذي زرع الأرض وحرثها .
الجيل الذي حمى هذه البلاد من كيد الأعداء .
نحن الجيل الذين خططوا الشوارع وبنى المستشفيات والمدارس.
شـباب ذلـلوا سـبل المـعالي***وما عرفوا سوى الإسلام دينا
إذا شهدوا الوغى كانوا كماةً *** يدكون المعـاقل والحـصونـا
وإذا جــنَّ الظلام فلا تراهـم***مـن الإشفـاق إلا ساجديـنـا
كذلك أخرج الإسلام قومي*** شـباباً طـاهـراً حــراً أمــينا
واليوم وللأسف الشديد نفشل نحن الإباء المتعلمون في تربية أبنائنا وزرع حب العلم والدراسة في قلوبهم .
عباد الله : إن على كل أب وأم وكل من استرعاه الله رعية من أبناء المسلمين مسؤولية كبيرة وأمانة عظمى في أعناقهم في توجيه وحثِّ من تحت أيديهم على الحرص في طلب العلم وغرس ذلك في نفوسهم ، وتحبيب ذلك إليهم .
وفي هذا إصلاح لهم وإنباتهم النبات الحسن ودلالتهم على طريق الخير وتحذيرهم من طرق الغواية والشر.
وان نقوم بواجب الرعاية والتوجيه لأبناءنا .. قبل ان نقدم على الله يسألنا عما استرعانا إياه.
الخطبة 2
أيها المسلمون: السعي إلى المعاني والمكارم دأبُ المثابرينَ وعادةُ المُجِدِّين، والعلم هو الشرف الرفيع الذي يوقَّر طالِبُه، ويُجَلُّ في العيون صاحِبُه، ومن أحبَّ العلمَ أحاطت به فضائِلُه، وحلَّت بساحته محاسِنُه، قال المزيني: "سمعتُ الشافعيَّ -رضي الله عنه- يقول: مَنْ تعلَّم القرآنَ عظُمَت قيمتُه، ومن نظَر في الفقه نَبُلَ مقدارُه، ومن كتَب الحديث قويت حجتُه، ومن نظر في اللغة رقَّ طبعه، ومن نظَر في الحساب جزُل رأيُه، ومن لم يصُن نفسَه لم ينفعه عِلْمُه".
بِقُوَّةِ الْعِلْمِ تَقْوَى شَوْكَةُ الأُمَمِ *** فَالْحُكْمُ فِي الدَّهْرِ مَنْسُوبٌ إِلَى الْقَلَمِ
كَمْ بَيْنَ مَا تَلْفِظُ الأَسْيَافُ مِنْ عَلَقٍ *** وَبَيْنَ مَا تَنْفُثُ الأَقْلامُ مِنْ حِكَمِ
لَوْ أَنْصَفَ النَّاسُ كَانَ الْفَضْلُ بَيْنَهُمُ *** بِقَطْرَةٍ مِنْ مِدَادٍ لا بِسَفْكِ دَمِ
فَاعْكِفْ عَلَى الْعِلْمِ تَبْلُغْ شَأْوَ مَنْزِلَةٍ *** فِي الْفَضْلِ مَحْفُوفَةٍ بِالْعِزِّ وَالْكَرَمِ
أيها الطلاب: عودوا إلى مقاعد العلم بالرغبة والانشراح والانبساط، والعزيمة والجِدِّ، وترفَّعُوا عن خمول الضِّعَة، ومهانة النقص والتفريط والكسل
الجَدُّ في الجِدِّ والحرمانُ في الكسل *** فانصب تُصِبْ عن قريبٍ غايةَ الأملِ
إن الفتى مَنْ بماضي الحزم متَّصِفٌ *** وما تعوَّد نقص القول والعمل
مَنْ ضيَّع الحزمَ لم يظفر بحاجته *** وَمَنْ رمَى بسهام العُجْب لم يَنَلِ
أيها الطلبة: بَاكِرُوا وبادِرُوا إلى الحضور إلى المقاعد الدراسية، وإيَّاكم والتأخرَ والتقهقرَ، فإن التبكيرَ بركةٌ ورزقٌ ونجاحٌ وتوفيقٌ، روى الترمذيُّ عن صخر الغامدي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم بارِكْ لأمتي في بكورها"
أيها الطلبة: اسْعَوْا إلى العلم سعيًا، الذي يحقُّ ويليق به، وإياكم والضجرَ والمللَ والسآمةَ، والعجز والانقطاع.
اطْلُبْ وَلَا تَضَّجِرْ مِنْ مَطْلَبٍ *** فَآفَةُ الطَّالِبِ أَنْ يَضْجَرَ
اطلبوا العلم، فمَن طلَب العلمَ قوَّمَه صغيرًا، وقدَّمَه كبيرًا، قال عروة بن الزبير: "يا بَنِيَّ، اطلبوا العلم، فإن تكونوا صغارا لا يحتاج إليكم، فعسى أن تكونوا كبارا لا يُستغنى عنكم".
واحرصوا على المدارس، فالمدارس هي المغارس، ومن فاته الدرسُ فاته الغرسُ، وأديموا النظرَ في الكتُب، ولا تملُّوا من المطالَعة والبحث، والقراءة والتقييد، والمذاكرة والمدارسة والحفظ، قال ابن الجوزي -رحمه الله-: "ولو قلتُ: إني طالعتُ عشرينَ ألفَ مجلدٍ كان أكثرَ، وأنا بعدُ في الطلب".
أيها الطلاب: الجِدَّ الجِدَّ، بين القماطر والدفاتر، والمحابر والمساطر، حتى تبلغوا غايتكم، قال بعضهم: "ظللتُ أربعين عاما، ما قِلْتُ، ولا بِتُّ، ولا اتكأتُ إلا والكتابُ موضوع على صدري".
وسُئِلَ الإمامُ أحمدُ بن حنبل -رحمه الله تعالى-: "إلى متى تطلُب العلمَ؟ قال: من المحبرة إلى المقبرة".
أيا الأبناء الكرام: العلمَ مفتوحة أبوابُه فانهلوا, ومجالَسه وحلقه فسابقوا, فمن أراد عزّ الدنيا وشرفها ومجد الآخرة ورفعتها فعليه بالعلم, ومن لم يصبر على مرّ التعلم ساعة تجرع ذل الجهل طول حياته, ومن خدم المحابر خدمته المنابر, ومن آثر الراحة، فاتته الراحة, ولئن كنتم اليوم صغارَ قوم فأنتم غداً كبارُه, فصاحب الهمة من يقول أنا عوض الأمة فيمن يرحل من علمائها, وليس ذلك مجرد أماني بل كلام يتبعه همة وجدّ وتحصيل بلا تواني.
مـا الفخر إلا لأهـل العلم إنهـم على الهدى لِمن استهدى أدلاء
وقدر كـل امرئ ما كـان يحسنه والجاهلون لأهـل العلم أعداء
ففز بعلم تعـش حيـاً بـه أبـداً فالناس موتى وأهل العلم أحياء