الغنيمة الباردة

تركي بن عبدالله الميمان
1445/06/21 - 2024/01/03 08:12AM

 

الخُطْبَةُ الأُوْلَى

إِنَّ الحَمْدَ لِلهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ ونَتُوبُ إِلَيه، مَنْ يَهْدِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

أَمَّا بَعْدُ: فَاعْلَمُوا أَنَّ التَّقْوَى: وَسِيْلَةٌ لِمَحَبَّةِ الرَّحْمَنِ، وَدُخُوْلِ الجِنَانِ، والنَّجَاةِ مِنَ النِّيْرَانِ، وَهِيَ خَيْرُ لِبَاسٍ، وَأَعْظَمُ أَسَاسٍ! ﴿أَفَمَنْ أَسَّسَبُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ﴾.

عِبَادَ الله: مِنْ حِكْمَةِ اللهِ ﷻ، أَنْ نَوَّعَ بَينَ الفُصُول، ما بَيْنَ بَرْدٍ وحَرٍّ، وَجَدْبٍ وَمَطَر، وطُوْلٍ وَقِصَر! ﴿يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ﴾.

وَهَا هُوَ بَرْدُ الشِّتَاء: قَدْ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِزَمْهَرِيْرِهِ؛ لِيُذَكِّرَنَا بِآيَةٍ مِنْ آيَاتِاللهِ السَّاطِعَةِ، وَحِكَمِهِ البَاهِرَةِ!  

وَفِي كُلِّ شَيءٍ لَهُ آيةٌ

تَدُلُّ على أنَّهُ وَاحِدُ 

وَمِنْ حِكَمِ الشِّتَاءِ: أَنَّ فِيهِ مَصَالِح لِلْعِبَادِ! يَقُوْلُ ابنُ القَيِّم: (فَفِي الشِّتَاءِ: تَغُوْرُ الحَرَارَةُ فِي بُطُوْنِ الأَرْضِ؛ فَتَتَوَلَّدُ الثِّمَار، وَيَسْتَكْثِفُ الهَوَاء؛ فَيَحْصُلُ السَّحَابُ والمَطَرُ،والثَّلْجُ والبَرَدُ، الَّذِي بِهِ حَيَاةُ الأَرْضِ وَأَهْلِهَا!).

 

وَجَاءَ بَرْدُ الشِّتَاء؛ لِيُذَكِّرَنَا بِنِعْمَةِ اللهِ عَلَيْنَا: مِنَ البُيوتِ والثِّيَابِالسَّاتِرَةِ؛ قال U: ﴿وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ﴾.

قال البَغَوِي: (﴿لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ﴾: يَعْنِي مِنْ أَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا وَأَصْوَافِهَا: مَلَابِسَ وَلُـحَفًا؛ تَسْتَدْفِئُونَ بِهَا).

 

وَفِي فَصْلِ الشِّتَاءِ: يَقْطَعُ المُسْلِمُ رَاحَتَهُ: وَيُنَازِعُ نَفْسَهُ عَنْ فِرَاشِهِ؛ لِيَقُوْمَ إِلَى صَلَاةِ الفَجْرِ (مَعَ شِدَّةِ البَرْدِ، وَغَلَبَةِ النَّوْمِ)؛ لِأَنَّهُيَخَافُ زَمْهَرِيْرَ جَهَنَّمَ! ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ* فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾. قال العُلَمَاءُ: (إِنَّ اللهَ مَدَحَ الَّذِينَ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ لِدُعَائِهِ؛فَيَشْمَلُ ذَلِكَ: كُلَّ مَنْ تَرَكَ النَّوْمَ، وَقَامَ إِلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ! فَإِنَّ صَلَاةُ الفَجْرِ: تَأْتِي فِي وَقْتِ مَشَقَّةٍ؛ بِسَبَبِ بَرْدِ الشِّتَاءِ،وَطِيبِ النَّوْمِ فِي الصَّيْفِ، فَخُصَّتْ بِالمُحَافَظَةِ؛ لِكَوْنِهَا مُعَرَّضَةً لِلضَّيَاعِ، بِخِلَافِ غَيْرِهَا).

 

وَالشِّتَاءُ رَبِيْعُ المُؤْمِنِ: طَالَ لَيْلُهُ فَقَامَهُ، وَقَصُرَ نَهَارُهُ فَصَامَهُ! قال ﷺ: (الغَنِيمَةُ البَارِدَةُ: الصَّوْمُ فِي الشِّتَاءِ). وقال ابنُ مَسْعُودٍ t: (مَرْحَبًا بالشِّتَاءِ: تَنْزِلُ فِيهِ البَرَكةُ، وَيَطُوْلُ فِيْهِ اللَّيلُ لِلْقِيَامِ، وَيَقْصُرُ فِيْهِ النَّهارُ لِلْصِّيامِ). قال ابْنُ رَجَب: (إِنَّما كانَ الشِّتَاءُ رَبِيْعَ المُؤْمِنِ؛ لأَنَّهُ يَرْتَعُفيهِ في بَسَاتِينِ الطَّاعَاتِ، كما تَرْتَعُ البَهَائِمُ في مَرْعَى الرَّبِيْع؛ فَتَسْمَنُ وَتَصْلُحُ أَجْسَادُهَا؛ فَكَذَلِكَ يَصْلُحُدِيْنُ المُؤْمِنِ في الشِّتَاءِ؛ فإنَّ المُؤْمِنَ يَقْدِرُ على صِيَامِنَهَارِهِ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ، وَأَمَّا قِيَامُ لَيْلِ الشِّتَاءِ؛فَلِطُوْلِهِ: يُمْكِنُ أَنْ تَأْخُذَ النَّفْسُ حَظَّهَا مِنَ النَّوْمِ، ثُمَّتَقُوم).

ولهذا قال أَحَدُ التابعين -عندَ مَوْتِه-: (مَا أَبْكِي عَلَى دُنْيَاكُمْ؛ رَغْبَةً فِيهَا، وَلَكِنْ أَبْكِي عَلَى ظَمَأِ الْهَوَاجِرِ، وَقِيَامِ لَيْلِ الشِّتَاءِ!).

 

وَمِنْ دُرُوْسِ الشِّتَاءِ: أَنَّه يُذَكِّرُ بِزَمْهَرِيرِ جَهَنَّم، وَيَدْعُو إلىالاِسْتِعَاذَةِ مِنْهَا! قال ﷺ: (اِشْتَكَتِ النَّارُ إلى رَبِّهَا، فَقالَتْ: "يا رَبِّ، أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا!" فَأَذِنَ لَهَا بنَفَسَيْنِ، نَفَسٍ في الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ في الصَّيْفِ، فَهْوَ أَشَدُّ ما تَجِدُونَ مِنَ الحَرِّ، وَأَشَدُّ ما تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ!). قال I: ﴿هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ﴾، قال ابنُ عَبَّاسٍ t: (الغَسَّاقُ: هُوَ الزَّمْهَرِيرُ يَحْرِقُهُمْ بِبَرْدِهِ: كَمَا تَحْرِقُهُمُ النَّارُ بَحَرِّهَا!).

 

والوُضُوْءُ في البَرْدِ؛ يُكَفِّرُ السيئَات، ويَرْفَعُ الدَّرَجَات! قال ﷺ: (أَلَا أَدُلُّكُمْ علَى ما يَمْحُو اللهُ بِهِ الخَطَايا، ويَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجاتِ؟)قالُوا: (بَلَى، يا رَسُوْلَ اللهِ!) قال: (إسْباغُ الوُضُوءِ علَى المَكارِهِ!).

 

وَمِنْ مَكَارِهِ الشِّتَاءِ: أَمْرَاضُ البَرْدِ: (مِنْ زُكَامٍ وَحُمَّى)، وَهِيَ كَفَّارَاتٌلِمَنْ صَبَرَ عَلَيْها؛ فَلَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَتَسَخَّطَهَا! قَالَ ﷺ: (مَا لَكِ يَا أُمَّ السَّائِبِ تُزَفْزِفِينَ -أَيْ تَرْتَعِدِيْنَ-؟) قَالَتْ: (الحُمَّى، لَا بَارَكَ اللهُ فِيهَا!) فقال: (لَا تَسُبِّي الحُمَّى، فَإِنَّهَا تُذْهِبُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ، كَمَا يُذْهِبُ الكِيرُ خَبَثَ الحَدِيدِ).

أَقُوْلُ قَوْلِي هَذَا، وَاسْتَغْفِرُ اللهَ لِيْ وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَاسْتَغْفِرُوْهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيم

 

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ

الحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، والشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيْقِهِ وَامْتِنَانِه، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا الله، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُه.

أَمَّا بَعْدُ: فَأَعِيْنُوا الفُقَرَاءَ، عَلَى مُوَاجَهَةِ الشِّتَاءِ؛ فَإِنَّالصَّدَقَةَ تَرُدُّ البَلاءَ؛ قال ﷺ: (صَنَائِعُ المَعْرُوفِ؛ تَقِي مُصَارِعَ السُّوء).

 

وَإِذَا كانَ النَّاسُ يَفِرُّونَ مِنْ زَمْهَرِيْرِ الدُّنْيا: بِاللِّبَاسِ وَالكِسْوَةِ؛ فَهَلْفَرَرْنَا مِنْ زَمْهَرِيْرِ الآخِرَةِ بِـ(لِبَاسِ التَّقْوَى)؛ فَهُوَ اللِّباسُ الَّذِي يَدُوْمُ ولا يَبْلَى، وَهُوَ الَّذِي يَحْمِيكَ مِنْ بَرْدِ جَهَنَّم!

 

وَلْنَتَذَكَّرْ بِهَذَا البَرْدِ؛ نَعِيْمَ أَهْلِ الجَنَّةِ! قال تعالى -واصِفًا حَالَهُم-: ﴿مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا﴾.قال ابنُ كَثِير: (أَيْ لَيْسَ عِنْدَهُمْ حَرٌّ مُزْعِجٌ، وَلَا َبرْدٌ مُؤْلِمٌ، بَلْ هِيَ مِزَاجٌ وَاحِدٌ، دَائِمٌ سَرْمَدِيٌّ، لَا يَبْغُونَ عنها حِوَلَاً!).

*******

* اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ والمُسْلِمِينَ، وأَذِلَّ الشِّرْكَ والمُشْرِكِيْن.

* اللَّهُمَّ فَرِّجْ هَمَّ المَهْمُوْمِيْنَ، وَنَفِّسْ كَرْبَ المَكْرُوْبِين.

* اللَّهُمَّ آمِنَّا في أَوْطَانِنَا، وأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُوْرِنَا، وَوَفِّقْ وَلِيَّ أَمْرِنَا وَوَلِيَّ عَهْدِهِ لما تُحِبُّ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَاصِيَتِهِمَا لِلْبِرِّ والتَّقْوَى.

* عِبَادَ الله: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾.

* فَاذْكُرُوا اللهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوْهُ على نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ ﴿وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾.

إعداد: قناة الخطب الوجيزة

https://t.me/alkhutab

 

المرفقات

1704258682_‎⁨ (الغنيمة الباردة-الشتاء) نسخة مختصرة منزوعة الحواشي⁩.pdf

1704258682_(الغنيمة الباردة) (الشتاء) -نسخة للطباعة.pdf

1704258682_خط كبير (الغنيمة الباردة) (الشتاء).pdf

1704258682_‎⁨ (الغنيمة الباردة-الشتاء) نسخة مختصرة منزوعة الحواشي⁩.docx

1704258682_ (الغنيمة الباردة) (الشتاء) -نسخة للطباعة.docx

1704258682_خط كبير (الغنيمة الباردة) (الشتاء).docx

المشاهدات 586 | التعليقات 0