الغلو في الصالحين - 6
ماجد بن سليمان الرسي
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلـٰه إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون). (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبا). (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيما).
أما بعد، فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه، واعلموا أنه تعالى خلق الخلق ليعبدوه ولا يشركوا به شيئًا كما قال تعالى: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون﴾، وأرسل الرسل لذلك قال: ﴿وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إلـٰه إلا أنا فاعبدون﴾، ونهى عباده عن أن يشركوا معه في عبادته أحدًا غيره فقال: ﴿ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين * بل الله فاعبد وكن من الشاكرين﴾، وبـين لنا أن الشرك أعظم الذنوب فقال: ﴿إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما﴾.
***
أيها المؤمنون، تقدم في الخطبة الماضية ذكر المظهر الثاني من مظاهر الغلو في الصالحين، وهو مظهر بناء المساجد على قبورهم، وبينا أدلة النهي عن ذلك من كلام النبي (صلى الله عليه وسلم)، وفي هذه الخطبة نتكلم على المظهر الثالث من مظاهر الغلو في الصالحين وهو مظهر بناء القباب والغرف على قبور الصالحين.
***
مقدمة
عباد الله، من الأمور المنتشرة في بعض بلاد المسلمين؛ البـناء على القبور بالآجُــرِّ([1]) أو الرخام أو السيراميك، أو طلاؤها بالجَــصِّ، وهو ما يعرف بالتَّجصــيص([2]) أو التقصيص، ســواء كان البنــاء يباشــر القبــر من الخارج، أو كان على شكل قبة أو غرفة فوق القبر، فكل هذا محرم شرعًا للأسباب الخمسة التالية:
الأول: أنه مخالف لهدي النبي )صلى الله عليه وسلم) في دفن الميــت.
الثاني: أن البنــاء سبب لتعظيــم الميت والغــلو فيه، فإن الزائرين إذا رأوا بناءً فوق القبر هالـهم ذلك، ومن ثم عَظُـم الميت في نفوسهم، فتعلقت قلوبهم به، ومن ثم دعوه وتوجهوا إليه، كما هو واقع في بعض بلاد المسلمين مع الأسف الشديد، والمشروع هو ترك القبر بلا بناء، يستوي في ذلك المسلمون كلهم.
الثالث: تَحجير الأرض على من سيُدفن فيها بعد أن يَبلى الميت الأول، لأن الناس سيتحرجون من هدم البناء ودفن ميت آخر مكانه، فيكون في ذلك البناء تحجير وتضيـيق على من سيدفن لاحقًا، بخلاف ما لو أعطي للقبـر الأول مجال أن يندثر فيُدفن مكانه ميت جديد.
الرابع: لو جعل الناس على كل قبـر معظم بناء لامتلأت البلد أبنية للموتى بدلًا من أن تكون أبنية للأحياء، وفي هذا من المشقة ما لا يخفى.
الخامس: أن تجصيص القبور من المباهاة وزينة الحياة الدنيا، وتلك منازل الآخرة، وليس بموضع للمباهاة، وإنما يزين الميت عمله الصالح.
***
أدلة النَّهي عن البناء على القبور
أيها المسلمون، وقد جاء في النهي عن البناء على القبور عدة أحاديث وآثار عــن النبي )صلى الله عليه وسلم) وصحابته والتابعيـن وكلام الأئمة، منها:
حديث جابر )رضي الله عنه) قال: «نهى رسول الله )صلى الله عليه وسلم) أن يُجصَّص القبـر، وأن يُقعد عليه، وأن يُـبنى عليه»([3]).
وعن أم سلمة )رضي الله عنها) قالت: «نهى رسول الله )صلى الله عليه وسلم) أن يُـبنى على القبـر أو يُجصَّص»([4]).
وعن أبـي سعيد الخدري )رضي الله عنه)، «أن رسول الله )صلى الله عليه وسلم) نهى أن يبنى على القبور، أو يقعد عليها، أو يُصلَّى عليها»([5]).
***
البناء على القبور من البدع والمحدثات في الإسلام
عباد الله، والبناء على القبور محدث في الإسلام، يدل لهذا أن مقبـرة البقيع بالمدينة النبوية تضم جمًّا غفيرًا من سادات الأمة، من الصحابة وسادات أهل بيت النبي )صلى الله عليه وسلم) وسادات التابعين، غير أنَّ اجتـناب السلف الصالح للبناء عليها وتجصيصها أفضى إلى انطماس آثار أكثرهم، فلذلك لا يُعرف قبور أفرادٍ معدودة منهم.([6]) قاله السمهودي في كتابه «وفاء الوفاء».
***
فتاوى الأئمة في التحذير من البناء على القبور
قال الإمام مالك (رحمه الله): «أكره تجصيص القبور والبناء عليها وهذه الحجارة التي يبنى عليها».([7])
وقال القرطبيُّ )رحمه الله): «ويكره الآجر في اللحد، وكرهه أبو حنيفة وأصحابه، لأن الآجر لإحكام البناء، والقبر وما فيه للبِـلى، فلا يليق به الإحكام، وعلى هذا يُسوَّى بين الحجر والآجر».([8])
وقال الشافعي )رحمه الله): «وأحبُّ ألَّا يُـجصص (أي القبر)، فإن ذلك يشبه الزينة والخيلاء، وليس الموت موضع أحد منهما، ولم أر قبور المهاجرين والأنصار مجصصة.
وقد رأيت من الولاة من يهدم بمكة ما يبنى فيها، فلم أر الفقهاء يعيبون ذلك».([9])
وقال ابنُ القَيِّم )رحمه الله): «وكذلك القباب التي على القبور يجب هدمها كلها، لأنها أُسِّست على معصية الرسول، لأنه قد نهى عن البناء على القبور كما تقدم، فبناءٌ أُسِّس على معصيته ومخالفته بناء محرَّم، وهو أولى بالهدم من بناء الغاصب قطعًا»([10]).
عباد الله، وقد حكى الإمام العلامة محمد بن علي الشوكاني )رحمه الله) إجماع المسلمين على تحريم البناء على القبور، ووجوب أن يكون القبـر مكشوفًا إلى السماء، غير مغطى بغرفة ولا قبة ولا مسجد ولا غير ذلك.([11])
***
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
***
الخطبة الثانية في بيان خلاصة القول في المظاهر الثلاثة المتقدمة
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد، فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن خلاصة القول في المظاهر الثلاثة المتقدمة أن الصلاة عند القبور وبناء المساجد عليها محرم بدلالة النصوص الشرعية، وكذا بناء الغرف والقباب عليها، لأن هذا وسيلــة لعبادتها، كما حصل في الأمم السابقة، والوسائل لها أحكام المقاصد، والواجب أن تكون الـمساجد على حِدةٍ، والقبور على حِدة، وتكون مكشوفة إلى السماء، فما بُنِيت المساجد لتكون مقابر، وما بُنِيت القبور لتكون مساجد، والله أعلم.
***
ثم اعلموا رحمكم الله أن الله سبحانه وتعالى أمركم بأمر عظيم فقال (إن اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تسليما)، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض عن أصحابه الخلفاء، وارض عن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، وانصر عبادك الموحدين. اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا، والزلازل والمحن وسوء الفتن، ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة، وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. سبحان ربنا رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
أعد الخطبة: ماجد بن سليمان، واتس: 00966505906761
([1]) الآجر: نوع من الطوب، ومادته طبيخ الطين. انظر «لسان العرب».
([2]) التجصيص هو طلاء الأبنية بالجص، والجص طلاء أبيض، يستعمل للتزيين، وهو سبب لتقوية ما طلي به، لأنه إذا يبس صار صلبًا مُتماسكًا، فإن طلي به تراب القبر كان ذلك سببًا في ثبات التراب وعدم اندثاره، والجص هو الذي يسمى في زماننا بالجبس.
([3]) رواه مسلم (970).
([4]) رواه أحمد (6/299)، وقال محققو «المسند»: «صحيح لغيره» (44/179).
([5]) رواه أبو يعلى في «مسنده» (1020)، وصحح الألباني )رحمه الله) إسناده في «تحذير الساجد» (ص22).
([6]) انظر «وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى» (ص916)، تحقيق: محمد محيي عبد الحميد، الناشر: دار إحياء التراث العربي، لبنان.
([7]) «المدونة» (1/189).
([8]) «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي، تفسير سورة الكهف، آية رقم 21، باختصار يسير.
([9]) «الأم»، كتاب الجنائز، باب ما يكون بعد الدفن.
([10]) «إغاثة اللهفان» (1/380).
([11]) «شرح الصدور في تحريم رفع القبور» ص20، الناشر: دار الهجرة، صنعاء.
المرفقات
1727928365_المظهر الثالث من مظاهر الغلو في الصالحين.doc
1727928376_المظهر الثالث من مظاهر الغلو في الصالحين.pdf