الغضب وعلاجه

وليد الشهري
1446/03/30 - 2024/10/03 17:11PM

الغضــب وعلاجــه

    الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذُ بالله من شرور أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا، من يهدِ اللهُ فلا مُضلَّ له، ومن يُضلل فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبِه، ومن اهتدى بهديِهِ واستنَّ بسنَّتِه إلى يوم الدين .

     ( يا أيها الناس اتقوا ربَّكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدةٍ وخَلقَ منها زوجَها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا اللهَ الذي تساءلونَ به والأرحامَ إن الله كان عليكم رقيبا ) ، ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حقَّ تقاتِه ولا تموتُنَّ إلا وأنتم مسلمون ) ، ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللهَ وقولوا قولاً سديداً ، يُصلحْ لكم أعمالكم ويغفْر لكم ذنوبَكم ومن يطعِ اللهَ ورسولَه فقد فاز فوزاً عظيماً ) .

أمــــا بعـــد ،،

     فقد أقبل رجلٌ إلى النبيِّ - صلى الله عليه - وسلم يتطلعُ فؤادُه إلى طاعةِ الله، مُصغياً له، باحثاً عن الخير، يطلبُ نُصحاً من نبيِّ الرحمة، لا يطلبُ الدنيا، ولا يطلب مالاً ولا منصباً، فقال له : أوصني، رُبما ظنَّ أنه سيرشدُهُ إلى الصلاةِ ونوافلِها، أو إلى الصيامِ أو الحجِّ أو العمرة، أو إلى أيّ عبادةٍ تُدِرُّ له الحسنات، فيأتيه الجوابُ ويقولُ له : ( لا تغضب )، فيرددُ ويكررُ عليه الوصيةَ كما قال أبو هريرة – رضي الله عنه – راوي الحديث : فردد مراراً قال : ( لا تغضب ) .

     تشيرُ إحدى الدراساتِ أن ما نسبتَه تسعةً وتسعين بالمئة من الجرائمِ والمشاكلِ بين الناس تحدثُ في أولِ عشرين ثانية من حدوث السببِ المؤدي للغضب .

    إن الغضبَ يجمعُ كثيراً من خصالِ الشرّ، وينتجُ عنه تصرفٌ أهوج، وحمقٌ في التعامل، وفقدانٌ للاتزان، إنَّ الغضبَ نارٌ في الفؤاد، وجمرةٌ في القلب، وشَرَارٌ في العين، وتوتُّرٌ في الأعصاب، والغضبُ إذا زادَ خرج الشخصُ عن قَصدِه، وأخرجَهُ عن طَورِه، ورُبما دَفعَ بصاحبِه إلى فعلٍ مَشين، وكلماتٍ بذيئة، وفُحشٍ في العبارات، ونتيجةُ الغضبِ تُوقع في الندم الذي ينتهي إلى الاعتذار، أو الكِبْر عن الاعترافِ بالخطأِ فيقعُ في فعلٍ أسوأ مِنَ الذي قبله، أو في عقوبةٍ شرعيةٍ جَرَّاءَ فعلٍ ترتبَ على غضبِه، ولقد كان من دعائه – عليه الصلاة والسلام : ( وأسألك كلمة الحقِّ في الغضبِ والرِّضا ) [صحيح النسائي] .

     نعم ... كم من طلاقٍ وقعَ نتيجةَ غضبٍ عابر؟ وكم من أُسرٍ تشتتت؟ وكم من قضيةِ قتلٍ وقعت؟ وكم من لحظات ندمٍ وعاقبةٍ سيئةٍ حدثت؟ كُلُّها من لحظاتٍ قليلةٍ من الغضب !! لأنَّ الغضوبَ لا يضرُّ نفسَه فقط، بل قد يضرُّ مَنْ حولَهُ، ويتعدى شرُّه إلى غيرِه، يقول عليُّ بنُ أبي طالب – رضي الله عنه - : "أولُ الغضبِ جنونٌ، وآخرُه ندمٌ، وربما كان العطبُ في الغضب".

     عبادَ الله .. إذا تأملنا أكثرَ أسبابِ الغضبِ وجدناها لا تستحقُّ ذلكَ كلَّه، بل رُبما بعضُها تافهة، بدليلِ أنَّ هذا الموقفَ لا يُغْضِبُ غيرَه، بل هو أحياناً ينتقدُ نفسَهُ إذا تَأمَّلَ السبب، ويتمنى أن لو تصرفَ تَصُرُّفاً غيرَ الذي فَعَل، وإنَّه لا بُدَّ أن يتأملَ المسلمُ أن أسبابَ الغضبِ قدرٌ من اللهِ ليس له فيها من الأمرِ شيء، ولا يستطيعُ دفعَها، وهي من الابتلاءِ للمسلمِ، هل سيقومُ بما يُرضي الله، أم لن يفعل إلا ما يُملي عليه هواه؟ لأنَّ بَعْدَ الغضبِ فهو من تصرفِ العبدِ الذي سيُحسبُ عليه ويُكتبُ في صحيفته، فهل سيُنفِذُ العبدُ غضبَهُ كيف وقع؟ أم سَيُسَلِّمُ لقضاءِ اللهِ تعالى ويتصرفُ تصرفَ العقلاء؟

     قال ميمون بن مهران : جاء رجلٌ إلى سلمانَ – رضي الله عنه – فقال : يا أبا عبدِ الله أوصني، قال له : لا تغضب، قال : أمرتني ألا أغضبَ وإنَّه ليغشاني ما لا أملك، قال : إن غَضِبْتَ فامْلِك لسانَك ويدَك )، وفي الصحيحين يقول - عليه الصلاة والسلام - : ( ليس الشديدُ بالصُّرَعَة، إنما الشديدُ الذي يملكُ نفسَه عند الغضب )، وأخرج الإمامُ أحمدُ وأبو داودَ والترمذيُّ وابنُ ماجه بسندٍ حسنٍ مرفوعاً : ( من كظم غيظاً وهو قادرٌ على أن ينفذَه، دعاه الله – عزَّ وجلّ - يومَ القيامةِ على رؤوسِ الخلائقِ حتى يخيِّرَهُ من الحورِ العينِ ما شاء ) .

     أَسْمَعَ رجلٌ أبا الدَّرداءِ – رضي الله عنه – كلاماً فقال : "يا هذا لا تَغْرَقَنَّ في سَبِّنا ودَعْ للصُّلحِ موضعاً، فإنا لا نكافئُ من عصى اللهَ فينا بأكثرَ من أن نُطِيعَ اللهَ فيه" .

ولرُبَّما سكتَ الحليمُ عن الأذى          وفــؤادُه مِنْ حَـرِّه يتــأوهُ

ولرُبَّمـــا عَقَدَ الحـــليمُ لســــانَه          حَذَرَ الجوابِ وإنَّه لمفوَّهُ

ولذلك يُعاملُ المسلمُ غيرَه بأخلاقِه هو لا بأخلاقِ غيرِه إن كانت أخلاقُ غيرِه سيئةً، يقول الله تعالى : ( والذين يجتنبونَ كبائرَ الإثمِ والفواحشَ وإذا ما غَضِبُوا هُم يَغْفِرون ) [الشورى:37]، ويقول الحـقُّ في محكمِ التنزيل : ( ولا تستوي الحسنةُ ولا السيئةُ ادفع بالتي هيَ أحسنُ فإذا الذي بينَك وبينَهُ عداوةٌ كأنَّهُ وليٌّ حميم ) [فصلت:34]،  وقد كان هذا هو خُلُقُه – عليه الصلاة والسلام - فقد كان يُحسِنُ لمن أساءَ إليه، ويعفو عند القدرةِ على عدوِّه، ولا يغضبُ ولا ينتقمُ لنفسه، فقد عَرَضَ عليه مَلَكُ الجبالِ أن يُطْبِقَ على أهلِ مكةَ الأخشبين، فقال : ( بل أرجو أن يُخرجَ اللهُ من أصلابِهم من يعبدُ اللهَ وحدَهُ لا يشرك به شيئاً ) [البخاري:3231]، وعفا عنهم يومَ الفتحِ وهم الذين طاردوه وحاربوهُ وقتلوا أصحابَه وحاولوا قتله، ومع ذلك يجعلُهُم طلقاء فلم يحاسبْهم ولم ينتقمْ لنفسِه قطّ، وعفا عن الذي اخترطَ سيفَه وقال : من يمنعُك مني؟ وعفا عن ذلك الأعرابيِّ الذي جَبَذَهُ برداءِه جبذةً شديدةً أثرتْ في صفحةِ عاتقِهِ - عليه الصلاة والسلام -، ولم يعاقب الذي افترى عليه وقال له أثناءَ قسمةِ الغنائم : اعدل فإنَّك لم تعدل – بأبي هو وأمي – عليه الصلاة والسلام - .

     إن على العاقلِ أن يكونَ أكمَلَ من الجاهلِ الذي يجهلُ عليك بقوله أو فعلِه، بل عليه أن يرى قدرَ نفسِه ولا يُنزِلَ نفسَه منازلَ السُّفَهاء

يُخاطِبُني السَّفيهُ بكلِّ قُبْحٍ          فأكرهُ أن أكـونَ له مُجيباً

يزيدُ سفاهةً وأزيدُ حِلـماً          كعودٍ زادَهُ الإِحراقُ طِيباً

    كانت جاريةٌ لعليِّ بنِ الحُسينِ تسكبُ عليه الماءَ ليتوضّأَ للصلاة، فسقط الإبريقُ من يدِ الجاريةِ على وجهِهِ فشَجَّهُ، فرفع رأسَه إليها فقالت الجارية : إن الله تعالى يقول : ( والكاظمينَ الغيظ ) [آل عمران:134]، فقال لها : قد كظمتُ غيظي، قالت :  ( والعافين عن الناس )، فقال لها : عفا الله عنكِ، قالت : ( والله يُحبُّ المحسنين ) قال : اذهبي فأنت حرة .

     قال مروانُ بنُ الحكم في وصيتِه لابنه عبدِ العزيز : "وإن كان بِكَ غضبٌ على أحد من رعيتك فلا تؤاخذُهُ به عند سَوْرَةِ الغضبِ واحبسْ عنه عقوبَتَك حتى يسكنَ غضبُك، ثم يكونُ منك ما يكونُ وأنتَ ساكنُ الغضبِ منطفئُ الجمرة "، ولذلك نُهِيَ القاضي عن الحُكمِ وهو غضبان؛ لأنَّ الغضبَ يُغطِّي العقلَ أحياناً فربما يجور أو يُخطئُ في الحكم .

      قال أبو مسعود عُقبةُ بنُ عَمرو - رضي الله عنه - : كنتُ أضربُ غلاماً لي بالسوطِ فسمعتُ صوتاً من خلفي ( اعلم أبا مسعود ) فلم أفهمِ الصوتَ منْ شِدةِ الغضب، فلمَّا دنا منِّي إذا هو رسولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم - فسقط السوطُ من يدي من هيبتِه، فقال : ( اعلم أبا مسعود أن اللهَ أقدرُ عليكَ منكَ على هذا الغلام )، فقلت : يا رسول الله هو حُرٌّ لوجهِ الله، فقال – صلى الله عليه وسلم - : ( أما لو لم تفعلْ لَلَفَحَتْكَ النارُ، أو لَمَسَّتْكَ النار ) [مسلم]

    عبادَ الله .. كلُّ ما ذكرناه إنما هو في الغضبِ المذموم، والذي يكونُ من أجلِ أمورِ الدُّنيا وحظوظِها، أمَّا إذا كانَ منْ أجلِ اللهِ ومِنْ أجلِ دينِهِ والغَيرةِ على محارمِه فهو غضبٌ محمود، قال الله عن غضب موسى – عليه السلام – لما عبدوا العجل : ( ولما رجع موسى إلى قومِهِ غضبانَ أَسِفاً قالَ بِئسما خلفتموني من بعدي ) [الأعراف:150]، وتقول عائشة – رضي الله عنها – : ( ما ضرب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – شيئاً قطُّ بيدِه ولا امرأةً ولا خادماً إلا أن يُجاهِدَ في سبيل الله، وما نِيلَ منهُ شيءٌ قطُّ فينتقمَ مِنْ صاحبِهِ إِلا أن يُنْتَهَكَ شيءٌ من مَحارمِ اللهِ فينتقمُ لله ) [مسلم]

     أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .

الخطـبة الثانية

     الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وعظيمِ امتنانه، وأشهد أن لا إله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهدُ أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمداً عبدُه ورسولُه الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلمَ وباركَ عليه وعلى آله وأصحابِه وأتباعِه بإحسانٍ إلى يوم الدين .. أما بعد ،،

    فعند حديثِنا عن علاجِ الغضبِ وكيفيةِ مواجهتِه لنتقيَ ما ينتجُ عنه، فأولُ ما نُوصي به خُلُقُ التَّحِّلي بالصبرِ، ولا بُدَّ من حَملِ النَّفسِ عليه، ولا بُدَّ من تَجَشُّمِ ذلك لتنتفعَ بالصبرِ بعدَ دعاءِ اللهِ تعالى وسؤالِه صلاحَ حالك، فمن لا صبرَ لَهُ لن يفلحَ حتى مع نفسِهِ في حياتِه فلاحاً يرضيه، ثم من علاج الغضبِ الاستعاذةُ باللهِ من الشيطانِ الرجيم، قال تعالى : ( وإما ينزغنَّك من الشيطانِ نزغٌ فاستعذ بالله إنَّهُ هو السميع العليم ) [فصلت:36]، وفي الصحيح عن سليمان بن صُرد قال : استبَّ رجلانِ عندَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ونحنُ عندهُ جلوسٌ، وأحدُهما يَسُبُّ صاحبَهُ مُغْضَباً قد احمرَّ وجهُهُ، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم – ( إني لأعلمُ كلمةً لو قالَها لذَهَبَ عنهُ ما يجد، لو قال : أعوذُ باللهِ منَ الشيطانِ الرجيم )، ومن العلاج السكوتُ ولزومُ الصمتِ، كما جاء في المسندِ مرفوعاً ( وإذا غَضِبَ أحدُكُم فليسكُت ) [صححه الألباني]، ولأنَّ تقاذفَ الكلامِ يزيدُ الأمرَ حِدَّةً، فإذا رُزِقَ المسلمُ العقلَ والصبرَ إذا ابتليَ بأمثالِ هؤلاءِ الجاهلين فهي نعمةٌ ورفعةٌ للمسلم، إذ أنَّ ذلك من خُلُقِ المتقينَ الأبرار، قال تعالى : ( وإذا خاطبهمُ الجاهلونَ قالوا سلاماً ) [الفرقان:63] أي قالوا قولاً يسلمون فيه من الإثمِ ومن أذاهم .

     ومما يواجَهُ به الغضبُ تطبيقُ سُنةِ الجلوسِ عندَ الغضب، فقد جاءَ في المسند بسند صحيحٍ مرفوعاً : ( إذا غضبَ أحدُكم وهو قائمٌ فليجلسْ فإن ذَهَبَ عنه الغضبُ وإلا فليضطجع) [صحيح أبي داود]، وكذلك الوضوء فقد جاء ذلك بسندٍ حسنٍ عند أحمدَ وأبي داود مرفوعاً : ( إن الغضب من الشيطانِ، وإنَّ الشيطانَ خُلِقَ من النار، وإنما تُطفأُ النارُ بالماءِ، فإذا غَضِبَ أحدُكم فليتوضأ) .

     إنَّ المسلمَ إذا تذكرَ عواقبَ الغضبِ الوخيمةِ وما يُؤدّي بهِ إلى مواقفَ تعيسةٍ، ومصائبَ قد يطولُ أثرُها بسببِ شيءٍ لا يستحقُّ ذلك، فإنَّ ذلك يزجرُه عن الاسترسالِ في هذه الخُلقِ الذميم، ومما يَدفعُ أسبابَ الغضبِ والمشكلاتِ بين المسلمين التخلقُ والتعوُّدُ على صفةِ العفوِ في موضعِ استحبابه، يقول تعالى : ( فمن عفا وأصْلَحَ فأجرُهُ على الله ) [الشورى:40]، فإذا رَغَّبَ المسلمُ نفسَهُ في ثوابِ الحِلْمِ وكظمِ الغيظ، وخَوَّفَ نفسَه من عقابِ اللهِ لِمَا يَنتُجُ عنِ الغضبِ من اعتداءٍ وآثام، كان ذلك مُعيناً لهُ بعد اللهِ على تركِ فِعلِ ما يَشين، وتصرفٍ لا يليق، ولو تذكرَ الغاضبُ قُبحَ هيئتِهِ وصورتِهِ عند الغضبِ، وما يقومُ بِهِ بعضُهم من أعمالٍ وأقوالٍ وطَيَشٍ لَعَلِمَ سوءَ ما يُقدِمُ عليه، ولأَبْقَى هيبتَه أمامَ الناس، فيكونُ ذا سكينةٍ ووقارٍ، لا يُستفزُّ لأتفهِ الأسباب، ولا يُستدرجُ بأبسطِ الكلمات .

     جَنَّبَنا اللهُ وإيَّاكم شرَّ الغضب، ووقانا ربُّنا غضبَه وعقابَهُ يومَ الحساب، وزادنا اللهُ وإياكم مِن حُسنِ الأخلاقِ وجميلِ الصفاتِ، وطيبِ الكلماتِ.. وصلوا وسلموا على الرحمة المهداة، والنعمةِ المسداة، محمد بنِ عبد الله ..

 

المرفقات

1727964589_خطبة ( 17 ) الغضب.docx

المشاهدات 569 | التعليقات 0