الغرور - ربي أكرمن
سليمان بن خالد الحربي
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يَهْدِه اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، ومَنْ يُضْلِلْ فلا هادِيَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه، ومن سار على نهجه، واقتفى أثره، إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أمَّا بَعْدُ:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله -جَلَّ وَعلا-: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ } [آل عمران:30].
معشرَ الإخوة: من تناقضات الإنسان التي لا تنتهي ولا تنقطع أن يسعى إلى الآخرة وتكون همه ورجاءَه، وتكون قناعته بأن هذه الدار دارُ ممر وليست دار مَقرٍّ، ومع ذلك هو يتعامل مع ربه بما أعطاه في الدنيا وما يلقاه منه من حسن القضاء والقدر، وهو يزعم أنه يريد الله والدار الآخرة، وقد ذكر الله في كتابه -جل وعلا- هذا التناقض الإنساني في قوله تعالى: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} [الفجر:15، 16].
فأخبر الله عن طبيعة الإنسان من حيث هو، وأنه جاهلٌ ظالم، لا عِلم له بالعواقبِ، يظن الحالة التي تقع فيه تستمر ولا تزول، ويظن أن إكرامَ الله في الدنيا وإنعامَه عليه يدل على كرامته عنده وقربه منه، وأنه إذا ضيَّق عليه رزقه، أن هذا إهانة من الله له، فرد الله عليه هذا الحسبان: بقوله: {كَلَّا} [الفجر:17]، أي: ليس كل من نعّمته في الدنيا فهو كريم علي، ولا كل من قَدَرْتُ عليه رزقه فهو مهانٌ لدي، وإنما الغنى والفقر، والسَّعَة والضيق، ابتلاءٌ من الله، وامتحانٌ يمتحن به العباد، ليرى من يقوم له بالشكر والصبر، فيثيبَه على ذلك الثواب الجزيل، ومن ليس كذلك فينقلَه إلى العذاب الوَبِيل.
قال القرطبي -رحمه الله-: (الخاسرُ لقصورِ نظَرِه وسوء فكره يرى أن الكرامةَ عند الله والهَوان بكثرة الحظ في الدنيا وقِلته، فأما المؤمنُ فالكرامة عنده أن يكرمهُ الله بطاعتِه وتوفيقه، المؤدي إلى حظ الآخرة، وإن وسع عليه في الدنيا حمده وشكره)([1]).
كثيرٌ من المسلمين يظن أن ما أعطاه الله لكرامته وفضيلته عند الله، وربما يقول بجهله: لو لم أستحق هذا لم يعطني الله، وكذا إن ضيق عليه يظن أن ذلك لهوانه على الله، إن هذا الشعور وهذا الوارد من الغرور الذي حذرنا الله في كتابه كثيرًا، كما في قوله تعالى: {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان:33]، فمَنْ أخبرك أن الله أعطاك ليكرِمَكَ؟ ومن الذي أخبرك أن الله ضيق عليك ليهينك؟ ولهذا قال الله بعدها: {كَلَّا}، نعم كلا ليس لهذا ولا هذا، قال الحسن: «كَذَّبَهُمَا جميعًا بقوله: {كَلَّا}، يقول: ليس هذا بإكرامي ولا هذا بهواني، ولكن الكريم من أكرمتُه بطاعتي غنيًّا كان أو فقيرًا، والمهان من أهنته بمعصيتي غنيًّا كان أو فقيرًا»([2]).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية حول هذه الآية: (الفقر والغنى ابتلاءٌ من الله لعبده، أي ليس كل من وسعت عليه وأعطيته، أكون قد أكرمته، ولا كل من ضيقت عليه وقتّرت، أكون قد أهنته، فالإكرام أن يكرم الله العبد بطاعته والإيمانِ به ومحبته ومعرفته، والإهانة أن يسلبه ذلك، ولا يقع التفاضل بالغني والفقر بل بالتقوى، قال يحيى بن معاذ: لا يوزن غدا الفقر ولا الغنى وإنما يوزن الصبر والشكر)([3]).
فالمغرور إذا أقبلت عليه الدنيا ظن أنها كرامةٌ من الله، وإذا صُرِفت عنه ظن أنها هوانٌ، ومنشأ هذا الغرور الجهل بالله وبصفاته؛ فإن من عرف ربه لا يأمن مكره، ولا هو يغتر بأمثال هذه الخيالات الفاسدة والأحوال الطارئة، بل ينظر إلى فرعون وهامان وقارون وإلى ملوك الأرض وما جرى لهم، كيف أحسن الله إليهم ابتداءً ثم دمرهم تدميرًا، قال تعالى: {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} [مريم:98].
وقد حذر الله تعالى من مكرِه واستدراجه، فقال -جل وعلا-: {فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99]، وقال تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الماكِرِينَ} [آل عمران:54]، وقال -سبحانه وتعالى-: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [النمل:50]، ، وقال تعالى: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} [الطارق:15 - 17].
فكما لا يجوز للعبد الممهل أن يستدلَّ بإمهال السيد إياه وتمكينه من النعم على حب السيد، بل ينبغي أن يحذرَ أن يكون ذلك مكرًا منه وكيدًا، مع أن السيد لم يحذرْه مكر نفسه، فكيف بحق الله الخالق، ومع تحذيره استدراجه أيضا، فإنه من باب أولى، قال أبو حامد الغزالي: (ومنشأُ هذا الغرورِ أنه استدلَّ بنِعَم الدنيا على أنه كريمٌ عند ذلك المنعم، والهوى يميل بالقلب إلى ما يوافقه، وهو التصديق بدلالته على الكرامة)([4]).
قال بعض السلف: (رُبَّ مُستدرجٍ بنعم الله عليه وهو لا يعلم، ورُبَّ مفتونٍ بثناء الناس عليه وهو لا يعلم، ورُبَّ مغرورٍ بستر الله عليه وهو لا يعلم)([5]).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، {يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار:6 - 8].
بَاركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونَفَعني وإياكُم بما فيه من الآياتِ والذِّكر الحكيم، أقولُ ما سَمِعْتُم، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ولسائِرِ المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه، وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيمًا لشانه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى جنته ورضوانه، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه وأعوانه.
أمَّا بَعْدُ:
معشر الإخوة: حينما تختصر علاقتَك بربك بما في يدك ومسكنك ومركبك وبما في بدنك فقد أُصِبت بمقتل، تأمَّلْ قصة الثلاثة من بني إسرائيل كما في الصحيحين، «أَنَّ ثَلاثَةً فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَبْرَصَ وَأَقْرَعَ وَأَعْمَى، أَرَادَ اللهُ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ بِالنِّعَمِ وَالتَّكْرِيمِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مَلَكًا»، فَرَدَّ إِلَيْهِمْ عَافِيتَهُمْ، فَذَهَبَ الْبَرَصُ عَنِ الْأَبْرَصِ، وَالْقَرَعُ عَنِ الْأَقْرَعِ، وَالْعَمَى عَنِ الْأَعْمَى، وَأُعْطِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا اشْتَهَاهُ مِنَ المالِ، ثُمَّ بُورِكَ فِي مَاشِيَتِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، «ثُمَّ إِنَّهُ أَتَى الأَبْرَصَ فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ، فَقَالَ: رَجُلٌ مِسْكِينٌ، قَدِ انْقَطَعَتْ بِيَ الْحِبَالُ فِي سَفَرِي، فَلا بَلاغَ لِيَ الْيَوْمَ، إِلَّا بِاللهِ ثُمَّ بِكَ، أَسْأَلُكَ بِالَّذِي أَعْطَاكَ اللَّوْنَ الْحَسَنَ، وَالْجِلْدَ الْحَسَنَ وَالمالَ، بَعِيرًا أَتَبَلَّغُ عَلَيْهِ فِي سَفَرِي، فَقَالَ الْحُقُوقُ كَثِيرَةٌ، فَقَالَ لَهُ كَأَنِّي أَعْرِفُكَ، الم تَكُنْ أَبْرَصَ يَقْذَرُكَ النَّاسُ، فَقِيرًا فَأَعْطَاكَ اللهُ، فَقَالَ، إِنَّمَا وَرِثْتُ هَذَا المالَ، كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ، فَقَالَ، إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللهُ إِلَى مَا كُنْتَ، قَالَ وَأَتَى الأَقْرَعَ فِي صُورَتِهِ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِهَذَا، وَرَدَّ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا رَدَّ عَلَى هَذَا، فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللهُ إِلَى مَا كُنْتَ، وَأَتَى الأَعْمَى فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ، فَقَالَ: رَجُلٌ مِسْكِينٌ وَابْنُ سَبِيلٍ، انْقَطَعَتْ بِيَ الْحِبَالُ فِي سَفَرِي، فَلا بَلاغَ لِيَ الْيَوْمَ، إِلا بِاللهِ ثُمَّ بِكَ أَسْأَلُكَ بِالَّذِي رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ، شَاةً أَتَبَلَّغُ بِهَا فِي سَفَرِي فَقَالَ، قَدْ كُنْتُ أَعْمَى فرَدَّ اللهُ إِلَيَّ بَصَرِي، فَخُذْ مَا شِئْتَ وَدَعْ مَا شِئْتَ، فَوَاللهِ لا أَجْهَدُكَ الْيَوْمَ شَيئًا أَخَذْتَهُ للهِ، فَقَالَ: أَمْسِكْ مَالَكَ، فَإِنَّمَا ابْتُلِيتُمْ، فَقَدْ رُضِيَ عَنْكَ وَسُخِطَ عَلَى صَاحِبَيْكَ»([6]).
وقد روى أحمد في مسنده عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللهَ قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَخْلَاقَكُمْ، كَمَا قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَرْزَاقَكُمْ، وَإِنَّ الله -سبحانه وتعالى- يُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ، وَلَا يُعْطِي الدِّينَ إِلَّا لمنْ أَحَبَّ، فَمَنْ أَعْطَاهُ اللهُ الدِّينَ، فَقَدْ أَحَبَّهُ»([7]).
فلا صاحبُ الكرامةِ هو الكريم، ولا صاحبُ البلاءِ هو المحبوب أو المهان، وإنما التفاضُلُ بالتقوى، فانظرْ في تعظيمك لحدودِ الله تعرفْ منازلك، فلا تنظر إلى غناكَ أو عافيتكَ، ولا تنظر إلى فقركَ ولا مرضك، بل انظر إلى علاقتك بربك، وتعظيم حق والديك، وتعظيم أمر الصلاة وواجبات الدين، وانظر إلى معاملتك مع الخلق وتعظيمك لحرماتهم وأموالهم وأعراضهم، وكَفِّ أذاك عنهم، هنا التقوى، هنا تعرف منزلتك عند الله، ودَعْ عنكَ شرَّ النفس وهَواجِسَ الغُرور.
([1]) تفسير القرطبي (20/47).
([2]) إحياء علوم الدين (3/372).
([3]) مدارج السالكين (2/442).
([4]) إحياء علوم الدين (3/384).
([5]) الداء والدواء (1/79).
([6]) أخرجه البخاري (3/1276، رقم 3277)، ومسلم (4/2275، رقم 2964).
([7]) أخرجه أحمد (1/387، رقم 3672).
المرفقات
1729601773_الغرور - ربي أكرمن.docx