الغُرف المغلقة عن البيت المفتوحة للعالم
عبدالكريم الخنيفر
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يُضللْ فلا هاديا له.
وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسولُه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا،
أما بعد، عبادَ الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فبالتقوى تنهمر علينا الرحمات، وتُضاء لنا الظُلمات، وتُمحى الذنوب والعثَرات، قال تعالى: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَءَامِنُواْ بِرَسُولِهِۦ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِۦ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِۦ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ۚ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).
عباد الله، هاهوَ ابني وابنتي أعلمُ أنهم في المنزلِ أغلبَ وقتِهم، فلا يخالطون الأشرارَ في الخارج، ولا يُكثرون التحوامَ مع الأصحاب، قُصارى همِّهم أن يجلبوا الأكلَ من موصّل الطلباتِ عند الباب، نعم لقد نجحتُ في جعلهم قريبين بأجسادهم مني فقد قدّمتُ لهم أحدثَ الأجهزةِ التواصليةِ والترفيهية، ووفّرتُ لهم أسرعَ اتصالٍ بالشبكة، وهيّأتُ غُرَفَهُم بكافةِ سبلِ الراحةِ والترفيه؛ لتكونَ كهوفًا يأوون إليها معظمَ وقتهم.
إني لأبٌ مثاليٌّ إذ أتخذُ هذا الأسلوب!
أوّاه أيها الأبُ الذي هذا صنيعُك أو قريبٌ من ذلك، بل آهٍ وآهٍ وآهٍ إذ تضيّعُ من تعولُ ليكونَ فَرَطًا لهذا الفضاءِ بالغِ الاتساعِ سهلِ العبورِ شديدِ الظلمة، يهتبلُ ابنَك وابنتَك ذلك العالمُ الافتراضيًّ المجهولُ المسمومُ المحمومُ في مستنقعِه المنتنِ وقاعِه العميقِ وشَرَكِهِ الشائك.
صحيحٌ أنهم أمامَ أعينكم بأجسادهم لكنَّ عقولَهم وقلوبَهم هناكَ مع مجاهيلِ الشرقِ والغرب، حيث أخلاطُ هذا العالمِ مِمَّن لا يعرفون معروفًا ولا ينكرون منكرا، بل لا دينهُم دِينُنا ولا أخلاقُهم أخلاقُنا ولا عاداتُهم عاداتُنا.
أبناؤنا وبناتُنا يعيشون معنا لكنهم يتعايشونَ هناك مع أولئك القومِ، يقضون معهم أكثرَ وقتهم، يسمعون أغانيهم ويشاهدون أفلامَهم ويتأملون طباعَهم، يرون ذلك بأجملِ صورةٍ وأبدعِ وصف، فتعجبُهم تِلْكُمُ الأخلاق، وتجذِبُهم ذيكَ العادات، بل وأخطرُ من هذا أن يتقبَّلوا إلحادَهم وشذوذَهم وفسقَهم.
ثم لا تسلْ بعد ذلك أيُّ حالٍ آلَ إليه أبناؤُنا وبناتُنا، أيُّ أخلاقٍ وعاداتٍ، بل أي عقيدةٍ وديانة.
عبادَ الله، لئن كان من أعظمِ مقاصدِ الهجرةِ ألا ينشأَ الجيلُ الصاعدُ بين ظهرانيّ الكافرين، يعتادون على كفرِهم ويأخذون من طبائِعهم ويتأثرون بفسادِ أخلاقِهم، فكيف إذن وقد تحققت تلكم الأفعالُ عبرَ الأجهزةِ الإلكترونية؟! وقد سألتِ الملائكةُ من لم يهاجر في قول الله سبحانه وتعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا).
ومعنى هذا السؤال: ما الذي تميّزتم به عن المشركين؟ ما الذي اختلفتم فيه عنهم؟
وإن أبناءَنا لمسؤولون: (فيمَ كنتم) وإن آباءَهم وأمهاتِِهم لمسؤولون: أين كنتم، فحيروا جوابًا أو لا تعرِّضوا أنفسَكم وأبناءَكم لهذا السؤال.
ثم ماذا يا عبادَ الله؟ هذه بضاعةُ القومِ رُدّت إلينا، ولئن راجتِ هذا البضاعةُ المنتنةُ إذن نشأَ جيلٌ مَسْخٌ فاقدٌ لهُويتِه مضيّعٌ لدينِه منسلخٌ عن أخلاقه، يتقبّل العلاقاتِ الجنسيةَ المحرمة، ويحتفلُ بالأعيادِ الكفريةِ المنحرفة، ويمارس ما أوغل فيه الغرب والشرق من الضلال والفساد
وما يوذنُ بالخطر ظهورُ بوادرِ هذا التأثرِ للعلنِ في العالمِ الافتراضي والواقعي، ولو فتَّشنا عن الأسباب لوجدنا ضعفَ الرقابة أحدَ أهمها، ضعفَ الرقابةِ مع انفجارٍ هائلٍ للتقنيةِ والاتصال، وتواصلٍ مهولٍ منزوعِ الحدود ِوالفروقات مع كافة أقطار العالم، وقد قال الرسول ﷺ: ((كفى بالمرء إثمًا أن يضيِّع من يعول)). اللهم أصلح لنا النيةَ والذُّرية، واجعلنا هداةً مهتدين، أقول قولي هذا وأستغفر اللهَ من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه أما بعد، عبادَ الله…
لعلنا نسألُ بعد حديثنا السالف: ما الحلُ إذن؟
هل الحلُ أن نذوبَ مع هذا العالم ونرضى بأن نكون تابعين لا متفرِّدين لا متبوعين؟
هذا والله ما لم نُخلقْ لأجله، بل إننا بكوننا مسلمين لنا الأصالة والحقُّ المطلقُ في التشريع والتربية.
(لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ).
إذن لعلَّ الحلَّ أن نقطعَ الاتصال والتواصلَ مع العالم الآخر المختلف عنا ونمنعَ أبناءَنا وبناتنا من هذه الأجهزة؟
وهذا مما يستحيلُ تطبيقه، وهو كذلك علاجٌ خاطئٌ للمشكلة؛ إذ لم نخلقْ لننعزلَ عن العالم، وليس المنع المطلقُ للأجهزة عن الأبناء والبنات حلًّا فعَّالا، بل ربِّما تكون له ردة فعلٍ أسوء وأخطر.
هل حرنا جوابًا وأعيانا الحل؟ كلا! لكل مشكلة علاج، والعلاج يا عباد الله بالتوعية والترشيد والمراقبة، فالتوعية تكون بغرس العقيدة الصحيحة والأخلاق الحميدة والتحذير من الشر وأهله.
والترشيد يكون بالاستخدام المعتدل للأجهزة وإشغال الأبناءِ والبناتِ بما ينفعهم في دينهم ودنياهم وكثرة الخُلطة لهم.
أما المراقبةُ فلا تعني التجسس، بل إن التجسسَ محرَّمٌ كما قال تعالى: (وَلا تَجَسَّسُوا)
ولكنّ المراقبةَ هي معرفةُ اهتمامِ الأبناءِ والبنات، وما يتابعون ومن يصاحبون.
يكون ذلك كلُّه مع استصحابِ النصيحةِ حينًا، والتغافلِ حينا.
يكون ذلك بكثرةِ الخُلطة، وجعلِ المعايشةِ الواقعيةِ هي السمتُ الغالبُ على أهل المنزل، وكذلك خلطةُ الآخرين والتواصلُ الحقيقيُ معهم.
وأعظمُ من هذا وذاك كثرةُ الدعاءِ لهم بالصلاحِ والهدايةِ
إنَّ التغيُّر المستمرَّ -يا عباد الله- في حالِ العالم والمجتمعاتِ يفرضُ على الآباءِ والأمهات ضبطَ مسايرةِ كلِّ جديد بالأصول الشرعية الأصيلة، وهذا التحدي من الابتلاء الذي يبتلينا الله به، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِى مَآ ءَاتَىٰكُمْ ۖ فَٱسْتَبِقُواْ ٱلْخَيْرَٰتِ).
اللهمَّ أصلِحْ لنا ديننا الذي هو عِصمة أمرنا، وأصلِحْ لنا دُنيانا التي فيها معاشنُا، وأصلِح لنا آخرتنا التي إليها معادنا. اللهم اجعل الحياة زيادةً لنا من كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كلِّ شرٍّ يا ربَّ العالمين.
ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين، واجعلنا للمتقين إماما، اللهم أصلح أبناءنا وبناتنا واجعلهم قرة عين لوالديهم.
اللهم من أرادنا بسوء أو فساد فأشغله في نفسه وردَّ كيده في نحره.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وول على المسلمين خيارَهم واكفهم شرَّ شرارهم.
اللهم وفق ولي أمرنا لما تحب وترضى وخذ بناصيته للبر والتقوى، اللهم وفقه ونائبه لما فيه خير البلاد والعباد.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
المرفقات
1637863844_الغرف المغلقة عن البيت المفتوحة للعالم.pdf
منصور بن هادي
جزاك الله خير الجزاء
وجعلها الله في ميزان حسانتك
شيخنا المبارك
موفق ومسدد ومعان
تعديل التعليق