العين حق (معدلة)

هلال الهاجري
1444/11/18 - 2023/06/07 05:52AM

الحمدُ للهِ الواحدِ القهارِ، العزيزِ الجبارِ، مُقدرِ الأقدارِ، جاعلِ كلِ شيءٍ على ما يحبُ ويختارُ، الحمدُ للهِ لا يخيُّبُ من أمَّلَه ورجاه، ولا يُفلحُ من قنطَ من رحمتِه وما دعاه، والصلاةُ والسلامُ على خيرِ خلقِ اللهِ وعلى آلهِ وصحبِه ومن والاه.

(قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) .. أما بعد:

حديثُنا اليومَ عن العينِ، وما أدراكَ ما العينُ، (الْعَيْنُ حَقٌّ) كما أخبرَ نبيُنا عليه الصلاةُ والسلامُ، ولَكن قَبلَ أَنْ نَبدأَ في هذا الموضوعِ يجبُ أن نقرِّرَ أَصلاً عظيماً، وهو أَنَّهُ لا يَقعُ شَيءٌ في هذا الكَونِ إلا بإذنِ اللهِ، كَمَا قَالَ تَعالى: (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)، وكَمَا قالَ عليه الصلاةُ والسلامُ: (وَاعْلَمْ أَنَّ الأمة لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتْ الْأَقْلاَمُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ).

خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَليْهِ وسَلَّمَ وأَصحَابُه نَحْوَ مَكَّةَ حَتَّى إِذَا كَانُوا بِشِعْبِ الْخَزَّارِ مِنَ الْجُحْفَةِ، اغْتَسَلَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ وَكَانَ رَجُلاً أَبْيَضَ حَسَنَ الْجِسْمِ وَالْجِلْدِ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ وَهُوَ يَغْتَسِلُ فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ وَلا جِلْدَ مُخَبَّأَةٍ –أي عذراءٍ-، فَلُبِطَ سَهْلٌ – أي صُرعَ وسَقطَ على الأرضِ- فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَليْهِ وسَلَّمَ فَقيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ لَكَ فِي سَهْلٍ وَاللَّهِ مَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ وَمَا يُفِيقُ، قَالَ: (هلْ تَتَّهِمُونَ فِيهِ مِنْ أَحَدٍ؟)، قَالُوا: نَظَرَ إِلَيْهِ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَليْهِ وسَلَّمَ عَامِرًا فَتَغَيَّظَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: (عَلامَ يَقْتُلُ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ، هَلا إِذَا رَأَيْتَ مَا يُعْجِبُكَ بَرَّكْتَ –أَيْ دعوتَ له بالبركةِ-)، ثُمَّ قَالَ لَهُ: (اغْتَسِلْ لَهُ)، فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَمِرْفَقَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ وَأَطْرَافَ رِجْلَيْهِ وَدَاخِلَةَ إِزَارِهِ فِي قَدَحٍ ثُمَّ صُبَّ ذَلِكَ الْمَاءُ عَلَيْهِ يَصُبُّهُ رَجُلٌ عَلَى رَأْسِهِ وَظَهْرِهِ مِنْ خَلْفِهِ يُكْفِئُ الْقَدَحَ وَرَاءَهُ فَفَعَلَ بِهِ ذَلِكَ، فَرَاحَ سَهْلٌ مَعَ النَّاسِ لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ.

فهذه رسالةٌ إلى من لا يُبالونَ بسترِ عوراتِ الأبناءِ والبناتِ، وإلى الذين يتساهلونَ في كشفِ أفخاذِهم وصدورِهم، وإلى النساءِ الاّتي يكشفن أجسادَهنّ في الأعراسِ بلبسِ الفاضحِ من اللباسِ، فهذا رجلٌ كبيرٌ قويٌ أصابَه ما أصابَه من صديقٍ بسببِ رؤيةِ شَيءٍ مِن مَحاسِنِهِ، فكيفَ بحاسدٍ تُبرِزُ لَهُ مَحَاسِنَكَ ومَحَاسنَ الضُعفاءِ من النساءِ والصغارِ؟.

عِبادَ اللهِ .. مِن أعظمِ الأسبابِ التي يُتقى بها العينُ والحسدُ هو ذكرُ اللهِ تعالى كما جاءَ في الحديثِ: (وَآمُرُكُمْ أَنْ تَذْكُرُوا اللَّهَ، فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ خَرَجَ الْعَدُوُّ فِي أَثَرِهِ سِرَاعًا حَتَّى إِذَا أَتَى عَلَى حِصْنٍ حَصِينٍ فَأَحْرَزَ نَفْسَهُ مِنْهُمْ، كَذَلِكَ الْعَبْدُ لَا يُحْرِزُ نَفْسَهُ مِنْ الشَّيْطَانِ إِلَّا بِذِكْرِ اللَّهِ)، فيحافظُ الإنسانُ على أذكارِ الصباحِ والمساءِ ومنه قولُ النبيِ صلى اللهُ عليه وسلمَ: (مَا مِنْ عَبْدٍ يَقُولُ فِي صَبَاحِ كُلِّ يَوْمٍ وَمَسَاءِ كُلِّ لَيْلَةٍ: بِسْمِ اللَّهِ الَّذِي لَا يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ إلَّا لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ)، ويحافظُ على الأذكارِ الواردةِ في جميعِ الأحوالِ، مثلُ دعاءِ الخروجِ من المنزلِ، قالَ عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: (مَنْ قَالَ إذا خَرَجَ مِنْ بيْتِهِ: بِسْم اللَّهِ، توكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ، ولا حوْلَ ولا قُوةَ إلاَّ بِاللَّهِ، يقالُ لهُ هُديتَ وَكُفِيتَ ووُقِيتَ، وتنحَّى عنه الشَّيْطَانُ .. فيقولُ الشَّيْطَانُ لِشَيْطانٍ آخرٍ: كيْفَ لك بِرجُلٍ قَدْ هُدِيَ وَكُفي وَوُقِيَ)، فإذا وَقاكَ ربُ العالمينَ، فلا تَضرُكَ بعدَ ذلكَ عَينٌ. 

وأما الصِغارُ فيُعوَّذونَ باللهِ تعالى من شرِ العينِ، كما كانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَوِّذُ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، يَقُولُ: (أُعِيذُكُمَا بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ، وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لَامَّةٍ)، وَيَقُولُ: (كَانَ إِبْرَاهِيمُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَوِّذُ بِهِمَا إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ)، فالصِغارُ هم أكثرُ عُرضةً للعينِ، فعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ وَلَدَ جَعْفَرٍ تُسْرِعُ إِلَيْهِم الْعَيْنُ أَفَأَسْتَرْقِي لَهُمْ؟ فَقَالَ: (نَعَمْ).

 

ومن الاحتياطاتِ التي جاءتْ وقايةً من العينِ، عدمِ إظهارِ النِعمِ الخاصةِ التي يُحسدُ على مثلِها، ومنه قولُ يعقوبَ عليه السلامُ لبنيه: (وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ)، قالَ أهلُ التفسيرِ: (أَنَّهُ خَافَ عَلَيْهِمُ الْعَيْنَ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا أُعْطُوا جَمَالًا وَقُوَّةً وَامْتِدَادَ قَامَةٍ، وَكَانُوا أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا لِرَجُلٍ وَاحِدٍ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَتَفَرَّقُوا فِي دُخُولِهِمْ لِئَلَّا يُصَابُوا بِالْعَيْنِ، فَإِنَّ الْعَيْنَ حَقٌّ).

ومن ذلك سِترُ محاسنِ من يُخافُ عليه من العَينِ خاصةً أمامَ الحاسدينَ، جاءَ في الأثرِ أنَّ عثمان رَضِيَ اللهُ عَنْهُ رأى صبيًّا مليحًا، فقالَ: (دَسِّمُوا نُونَتَه، لئلَّا تُصيبُه العَيْنُ) أيْ: سَوِّدُوا نونتَه، والنُّونةُ: هي النُّقرةُ الَّتي تكونُ في ذِقنِ الصَّبىِّ الصَّغيرِ، وهي من علاماتِ الجمالِ، فإذا وضعوا عليها اللونَ الأسودَ لم تظهرْ، فَيَختَفي جَمَالُها.

وكانَ محمدُ بنُ ظَفَرٍ الكندي من أحسنِ الناسِ وجهاً، وأمدَّهم قامةً، وأكملَهم خَلْقاً، فكان إذا كشف وجهَه مَرِضَ وأُوذيَ بسببِ العينِ، فكان لا يمشي إلا مُقَنَّعاً -أي مُتلَثِماً-، ولذلك سُميَ بالمُقنّعِ الكِنْدي.

يا أهلَ الإيمانِ .. ينبغي على من رأى ما يُعجبُه فيما أُعطيَ الناسُ أن يدعوا لهم بالبركةِ، كما جاءَ في قصةِ سهلٍ رضيَ اللهُ عنه: (عَلامَ يَقْتُلُ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ، إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مِنْ أَخِيهِ مَا يُعْجِبُهُ فَلْيَدْعُ لَهُ بِالْبَرَكَةِ)، فيقولُ: اللهم باركْ له، أو باركْ فيه، أو باركْ عليه، وأما إذا رأى ما يُعجبُه فيما أنعمَ اللهُ عليه، فيقولُ: ما شاءَ اللهُ لا قوةَ إلا باللهِ، كما قَالَ الرجلُ الصالحُ لصاحبِ الجنتينِ: (وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ)، فقد يُصيبُ الإنسانُ مالَه أو ولدَه أو حتى نفسَه بالعينِ، فلا يُشترطُ في العينِ حاسدٌ ولا عدوٌ، والواقعُ يشهدُ بذلكَ.

نفعني اللهُ وإياكم بهديِ الكتابِ، وسنةِ المصطفى عليه السلامُ، أقولُ ما تسمعونَ، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم.

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ ربِ العالمينَ، أحمدُه تعالى وأشكرُه، وأثني عليه الخيرَ كلَه، أهلُ الثناءِ والحمدِ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه، اللهم صلِ وسلم عليه وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسلينَ .. أما بعد:

فقد جاءَ في الحديثِ: (مَا أَنْزَلَ اللَّهُ دَاءً إِلاَّ أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً)، ومن ذلك العينُ، فكما جعلَ اللهُ تعالى لها وسائلَ لدفعِها قبلَ أن تقع، جعلَ لها أيضاً وسائلَ لرفعِها بعد أن تقعَ، ومن ذلكَ اغتسالُ العائنِ أو وضوءُه كما في قصةِ سهلٍ رضيَ اللهُ عنه، وكما جاءَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: (كَانَ يُؤْمَرُ الْعَائِنُ فَيَتَوَضَّأُ ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ الْمَعِينُ).

وأما إذا كانَ العائنُ لا يُعرفُ، فإن من أفضلِ وسائلِ العلاجِ هو الرُقيةُ بكتابِ اللهِ تعالى وما جاءِ في أحاديثِ النبيِ صلى اللهُ عليه وسلمَ، عَنْ عائشة قَالَتْ: (أَمَرَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ أَمَرَ أَنْ نَسْتَرْقِيَ مِنَ الْعَيْنِ).

واعلمْ أن أفضلَ من يرقي المَعِينَ نَفسُهُ إن كَانَ يَستطيعُ أو والدَاه أو أقاربُه المُحبونَ، كما جاء في حديثِ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ رضيَ اللهُ عنها، أن النبيَ صَلَّى اللهُ عَليْهِ وسَلَّمَ أَمرَها أَن تَرقيَ أبناءَها بنفسِها لأنّها أشفقُ الناسِ عليهم وهذا له أثرٌ كبيرٌ في الرقيةِ، فيقرأُ عليه الفاتحةَ سبعاً وآيةَ الكُرسي وسورَ الإخلاصِ والمعوَّذتينِ ثلاثاً ثم ينفثُ عليه، ويعيذُه باللهِ تعالى بما جاءَ في السنةِ كقولِه: (أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ)، وسيجدُ لذلكَ أثراً عظيماً بإذنِ اللهِ.

وَاعْلَم أيها العبدُ المُبتلى أن مَا أَخطأكَ لَمْ يَكُن لِيُصيبَكَ، وَمَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُن لِيُخطِئَكَ، وَاعْلَمْ أنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الفَرَجَ مَعَ الكَربِ، وَأَنَّ مَعَ العُسرِ يُسراً، فإذا يئسَ الأطباءُ المَهرةُ، وعجزَ الرُقاةُ البَرَرةُ، وطَرقتَ جميعَ الأبوابِ، وأحزنَ حالكَ الأحبابُ، فتذكر (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ).

اللهم اشفِ مرضانا ومرضى المسلمينَ، اللهم اجعله طَهورًا لهم، وارفع منزلتَهم، وأبدلهم من بعد المرضِ صحةً، ومن بعد البلاءِ عافيةً، اللهم كنْ لأهلِنا المُستضعفينَ في كلِ مكانٍ، اللهم اجعل لهم فرجاً ومخرجاً، اللهم احقِنْ دماءَهم، واحفظ أعراضَهم، وآمنهم في أوطانِهم، اللهم واكشفْ عنهم البلاءَ، والطف بعبادِك المسلمينَ في كلِ مكانٍ يا ربَ العالمينَ.

المرفقات

1686106322_العين حق.docx

1686106328_العين حق.pdf

المشاهدات 1355 | التعليقات 0