العناية النبوية بليالي العشر

عبد الله بن علي الطريف
1446/09/14 - 2025/03/14 01:03AM

العناية النبوية بليالي العشر 1446/9/14هـ

أيها الأحبة: هكذا الدنيا، وهكذا الأيام تتقضَّى وتذهبُ، وكأنها لم تمر، ففي هذه الليلة ينتصف الشهر، وما بعد الانتصاف إلا ليالي العشر الأواخر من شهرِ الخيرِ وهي أفضل ليالي العام..

أيها الإخوة: لقائل أَنْ يقول لما فُضلت، ولما اهتم بها النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كل هذا الاهتمام، فليالي شهر رمضان واحدة.؟ نقول له إنها ليست كبقية ليالي الشهر لعدة أسباب منها:

أن فيها ليلة القدر: وكان النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يتحراها، فَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْه- قَالَ: «إِنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأُوَلَ مِنْ رَمَضَانَ، ثُمَّ اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَوْسَطَ فِي قُبَّةٍ تُرْكِيَّةٍ عَلَى سُدَّتِهَا حَصِيرٌ، قَالَ: فَأَخَذَ الْحَصِيرَ بِيَدِهِ فَنَحَّاهَا فِي نَاحِيَةِ الْقُبَّةِ، ثُمَّ أَطْلَعَ رَأْسَهُ فَكَلَّمَ النَّاسَ، فَدَنَوْا مِنْهُ، فَقَالَ: «إِنِّي اعْتَكَفْتُ الْعَشْرَ الْأُوَلَ أَلْتَمِسُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ [يعني ليلةَ الْقَدْرِ] ثُمَّ اعْتَكَفْتُ الْعَشْرَ الْأَوْسَطَ، ثُمَّ أُتِيتُ، فَقِيلَ لِي: ‌إِنَّهَا ‌فِي ‌الْعَشْرِ ‌الْأَوَاخِرِ فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَعْتَكِفَ فَلْيَعْتَكِفْ» فَاعْتَكَفَ النَّاسُ مَعَهُ" رواه مسلم.. وقد سماها الله تعالى بليلة القدر في كتابه فقال: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ) [القدر:1-2]  وذلك لعظم قدرها وجلالة مكانتها عند الله، ولكثرة مغفرة الذنوب وستر العيوب فيها؛ فهي ليلة المغفرة، قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «‌مَنْ ‌قَامَ ‌لَيْلَةَ ‌الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» رواه البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْه- ومن فضائلها أن القرآن أُنزل فيها قال الله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) [القدر:1]، وصفها تعالى بأنها ليلة مباركة فقال: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ..) [الدخان:3] أي كثيرة الخير والبركة، ومن بركتها أن الله تعالى أنزل فيها أفضل الكلام..

ومن فضائلها أن الملائكة والروح وهو جبريل عليهم السلام ينزلون فيها وهم لا ينزلون إلا بالخير والبركة والرحمة. قال الله تعالى: (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) [القدر:4] ومن فضائلها: أنها سالمة من كل آفة وشر، وذلك لكثرة خيرها، (سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) [القدر:5] 

واختصها الله تعالى بخصائص لم يخص بها غيرها فقال تعالى: (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) أَيْ: فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ يُفْصَلُ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إِلَى الْكَتَبَةِ أَمْرُ السَّنَةِ، وَمَا يَكُونُ فِيهَا مِنَ الْآجَالِ وَالْأَرْزَاقِ، وَمَا يَكُونُ فِيهَا إِلَى آخِرِهَا كُلُّ أَمْرٍ مُحْكَمٌ لَا يُبَدَّلُ وَلَا يُغَيَّرُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: (أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا) أَيْ: جَمِيعَ مَا يَكُونُ وَيُقَدِّرُهُ اللَّهُ تَعَالَى وَمَا يُوحِيهِ فَبِأَمْرِهِ وَإِذْنِهِ وَعِلْمِهِ..

أيها الإخوة: وهذه الليلة خيرٌ من ألف شهر قال الله تعالى: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) [القدر:3] مبتدؤها من غروب الشمس ومنتهاها طلوع الفجر. والمعنى أن العمل فيها خيرٌ من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، أي خَيْرٌ مِن ثلاثٍ وثمانين سنة وأربعةِ أشهر.. وهذا مما تتحيرُ فيه الألباب، وتندهشُ له العقول، حيث مَنَّ اللهُ تبارك وتعالى على هذه الأمةِ الضعيفةِ القُوةِ والقُوى، بليلة يكون العمل فيها يقابل ويزيد على ألف شهر، عُمُر رجل معمر عمرًا طويلا نيفًا وثمانين سنة..

وإذا كانت ليالي هذه الأيام أقل من إحدى عشرة ساعة، وهي تساوي ألف شهر أي أن الدقيقة الواحدة منها تعدل ما يزيد على شهر ونصف.. فما أثمن ثوانيها، وأنفس دقائقها..

ولفضلها وأهميتها كانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَجْتَهِدُ فيها اجتهادًا شديدًا لم يجتهد مثله في بقية الشهر، تَقُوْلُ أمنا عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- «كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ».. وَكَانَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ، أَحْيَا اللَّيْلَ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ، وَجَدَّ وَشَدَّ الْمِئْزَرَ» رواهما مسلم.. فيعلم من هذا أن النبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يخص العشر الأواخر من رمضان بمزيد عملٍ لا يَعْمَلُهُ في أول الشهر ولا وسطه، ومن الأعمال التي كان يعملها: إحياءَ الليلِ كلِّه: والمقصود بإحياءِ الليل أي: أنه لا ينام طوال الليل على خلاف هديه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بل يمضي الليل مستيقظًا يتعبدُ بعباداتٍ متنوعة، فيبدأها بالفطور بعد غروب الشمس، وصلاة المغرب والعَشَاءَ، وما يتبعهما من سنن ورواتب، ومكث في المسجد أو اعتكاف فيه، وقراءة للقرآن وذكر الله ودعائه وتهجد والسُحور وغيرها مما يشرع من الأعمال المندوبة، وليس المعنى أنه يقضي الليلَ في الصلاة، بدليل أن صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْه- زَوْجَ النَبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "كَانَتْ تَأْتِيه وكَانَ مُعْتَكِفًا، فَتَزُورُهُ لَيْلًا وَتُحَدِّثُهُ، ثُمَّ تَنْقَلِبَ، فَيَقُومُ مَعَها ليَقْلِبَها". رواه ابن حبان وصححه الألباني.. وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْها-، قَالَتْ: «مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَامَ لَيْلَةً حَتَّى الصَّبَاحِ، وَمَا صَامَ شَهْرًا مُتَتَابِعًا إِلَّا رَمَضَانَ» رواه مسلم. وفي رواية: قَالَتْ: «لَا أَعْلَمُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «قَرَأَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ فِي لَيْلَةٍ» رواه النسائي وغيره وصححه الألباني  

ومن مظاهر اهتمام النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بها أنه يخصُ ليالي العشر بإيقاظ أهله للصلاة فيها دون غيرها من ليالي رمضان، فعَنْ عَلِىٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْه- قَالَ «كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُوقِظُ أَهْلَهُ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ». رواه الترمذي وصححه الألباني. وفي رواية الطبراني: وكُلُ صَغِيرٍ وكَبِيرٍ يُطِيْقُ الصَلَاةَ".. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ زَيْنَبَ بنتِ أُمِّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- وهي ربيبته: لَمْ يَكُنْ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا بَقِيَ مِنْ رَمَضَانَ عَشْرَةُ أَيَّامٍ يَدَعُ أَحَدًا يُطِيقُ الْقِيَامَ إلا أقامه" كذا في تحفة الأحوذي وفتح الباري.. وفي حديث النُّعْمَانَ بْنِ بَشِيرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْه- قَالَ "قَامَ بِنَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ‌لَيْلَةَ ‌ثَلَاثٍ ‌وَعِشْرِينَ، ثُم قَامَ بِنَا لَيْلَةِ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، ثُمَّ قَامَ بِنَا لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَأَرْسَلَ إِلَى بَنَاتِهِ وَنِسَائِهِ وَحَشَدَ النَّاسَ" رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وصححه الألباني. وهذا يدل على أنه يتأكد إيقاظ أهل البيت في آكد الأوتار التي تُرجى فيها ليلة القدر..

أحبتي: وفي هذا الزمان صار السهر في رمضان سلوك اجتماعي عام؛ وهذا يسهل علينا حث الأهل على استثمار ليالي العشر فالكل مستيقظ، ولن نجد عناء في إيقاظهم.. لكن علينا بذل الجهد في إقناعهم وترغيبهم في استثمار الليالي الفاضلة، والدعاء لهم والثناء على من بذلَ جهدًا في طاعة أو تَوَجَهَ إليها.. وليكن حثهم بلطف وحب، وأن نكون قدوة حسنة لهم من خلال إظهار الاهتمام في هذه الليالي والحرص على الوقت فيها.. وشغله في الطاعات المتنوعة.. وتأجيل كثير من الأعمال غير المهمة لما بعدها..

الخطبة الثانية:

أيها المتسابقون إلى الفردوس الأعلى: أدعوكم ونفسي دعوة صادقة من قلب محب لكم فأقول: أمامنا في العشر الأواخر ليلة خير من ألف شهر وقد أخفاها عنا لنجتهد في طلبها، مبتدؤها من غروب الشمس ومنتهاها طلوع الفجر.. قَالَ عنها رسولنا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «‌مَنْ ‌قَامَ ‌لَيْلَةَ ‌الْقَدْرِ ‌إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ.» رواه البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ-رَضِيَ اللهُ عَنْه- وسهل علينا قيامها.. في حديث النُّعْمَانَ بْنِ بَشِيرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْه- قَالَ: ".. قَامَ بِنَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَيْلَةِ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ: فَقُلْنَا لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَوْ نَفَّلْتَنَا بَقِيَّةَ لَيْلَتِنَا هَذِهِ، فَقَالَ: «إِنَّهُ مَنْ قَامَ مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ».. رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة والنسائي وأحمد وصححه الألباني.

أيها الإخوة: لنحافظ على صلاة التراويح بكل عزيمة ونشاط.. وصلاة القيام.. ولا نضيع منها تكبيرة.. هي تسع ليالٍ أو عشر لنجاهد أنفسنا على قيامها ونحث أهلنا عليه.. لعلنا نفوز بإدراك ليلة القدر ونحوز ما أعده الله لمدركها من الأجر..

اللهم وفقنا لاستثمار الأوقات، وأعِذْنا من العجز والكسل، وأعِنَّا على شكرك وذكرك وحسن عبادتك...

المشاهدات 523 | التعليقات 0