العمل القسري وظلم العمالة.
أ.د عبدالله الطيار
الخطبة الأولى:
إنّ الحمدَ للهِ نحمدُهُ ونستعينُهُ، ونعوذ باللهِ منْ شرورِ أنفسنَا ومنْ سيئاتِ أعمالنا منْ يهدهِ اللهُ فلَا مُضلّ لهُ ومنْ يُضلِلْ فلا هاديَ لهُ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنّ محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُهُ بعثهُ اللهُ رحمةً للعالمينَ، صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وأصحابهِ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا، أمّا بعدُ: فاتّقوا اللهَ أيها المؤمنونَ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون} [آل عمران:102].
أيُّها المؤمنون: لقد عاشتْ البشريةُ قبلَ بعثةِ نبينِّا محمدٍ صلّي اللهُ عليهِ وسلّمَ قرونًا مظلمةً وأزمنةً عصيبةً مؤلمةً؛ ينتشرُ فيها الظلمُ والفسادُ والطغيانُ، وتسلّطُ القويِّ على الضعيفِ، حتى جاءَ الإسلامُ، فهذّبَ النفوسَ، وحرّرَ القيودَ الظالمةَ، ووضعَ الحدودَ، ونظّمَ الحقوقَ، وجعلَ للإنسانِ شأنًا وقيمةً.
وحثَّ الإسلامُ على الوفاءِ بالحقوقِ، والمبادرةِ بأدائها، وخاصةً حقُّ العمَّالِ والخَدَمِ، قال صلى اللهُ عليهِ وسلّم:(أَعطوا العامِلَ أجرَه قبلَ أن يجفَّ عرقُه)(رواه ابن ماجة)، وأرشَدَ أصحابَ الأعمالِ إلى حسنِ التّعاملِ معَ منْ تحتَ أيديهمْ من العمالِ وعدمِ المشقةِ عليهمْ وتكلفتهمْ فوقَ طاقتِهِمْ، يقولُ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ: (إِخْوَانَكُمْ خَوَلُكُمْ جَعَلَهُمْ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ فَأَعِينُوهُمْ)(رواه البخاري).
وحثَّ الإسلامُ أيضًا على حُسنِ الخلُق وعدَمِ الظلمِ والأذَى، فقدْ وردَ أنّ أبَا مسعودٍ الأنصاريّ رضيَ اللهُ عنهُ قالَ: كُنْتُ أَضْرِبُ غُلَامًا لي بالسَّوْطِ، فَسَمِعْتُ صَوْتًا مِن خَلْفِي، اعْلَمْ، أَبَا مَسْعُودٍ، فَلَمْ أَفْهَمِ الصَّوْتَ مِنَ الغَضَبِ، قالَ: فَلَمَّا دَنَا مِنِّي إذَا هو رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَإِذَا هو يقولُ: اعْلَمْ، أَبَا مَسْعُودٍ، اعْلَمْ، أَبَا مَسْعُودٍ، قالَ: فألْقَيْتُ السَّوْطَ مِن يَدِي، فَقالَ: اعْلَمْ، أَبَا مَسْعُودٍ، أنَّ اللَّهَ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ علَى هذا الغُلَامِ، قالَ: فَقُلتُ: لا أَضْرِبُ مَمْلُوكًا بَعْدَهُ أَبَدًا)(رواه مسلم). وهذا في العبدِ المملوكِ فكيفَ بغيرِهِ ممنْ جعلهم اللهُ أحرارًا؟ وقالَ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (لِلْمَمْلُوكِ طَعَامُهُ وَكِسْوَتُهُ وُلُا يُكَلّفُ مَا لَا يَطِيقُ) (رواه البخاري في الأدب المفرد) .
أيُّهَا المؤمنونَ: وَمِنْ صُوَرِ الظُّلْمِ وَالْعَمَلِ الْقَسْرِيّ التي يقعُ فيها أصحابُ الأعمالِ، مَا يلي:
أولاً: عدمُ الوفاءِ بالعقودِ: بحيثُ يقومُ صاحبُ العملِ بكتابةِ عَقدٍ بينهُ وبينَ عاملِهِ على عملٍ ومرتبٍ معينٍ، فإذا حضَر العاملُ أرغَمَهُ على توقيعِ عقدٍ آخرَ منْ أجلِ تقليلِ راتِبِهِ، وكذلكَ يُجْبِرُهُ على أعمالٍ أخرى غيرِ متفقٍ عليهَا، فيضطرُّ هذا المسكينُ إلى الموافقةِ والتوقيعِ وهو مُرْغَمٌ ومِنْ غيرِ اختيارٍ منهُ.
ثانيًا: بَخْسُ حقِّ العاملِ: بحيثُ يقومُ صاحبُ العملِ بتأجيرهِ على غيرهِ، ثمَّ يأخُذُ ثمنَ عملِهِ، ويعطيهِ القليلَ منه، ويأخذُ هو الباقي، وكأنَّ هذا العاملَ عبدٌ منْ عبيدِهِ يتحكَّمُ فيهِ كيفَ يشاءُ.
ثالثًا: استقدامُ العمّالِ والخادماتِ ثم تسريحهمْ وتركهمْ يعملونَ في أيّ مكانٍ دونَ حسيبٍ ولا رقيبٍ ويأخذونَ على ذلكَ مبالغَ معينةً: وهذا فيهِ ضررٌ على البلادِ والعبادِ، ويمسُّ أمنَ الوطنِ والمواطنينَ.
رابعاً: المماطَلةُ فِي أداءِ الحقوقِ وعدَمُ الوفاءِ بِهَا وتأخيرُها.
خامسًا: إجبارُ العاملِ على التوقيعِ بأخذِ جميعِ حقوقِهِ كلّ سنةٍ دونَ أدائهَا كاملةً.
سادساً: استقدامُ العاملاتِ والخادماتِ ثم استغلَالَهُنَّ في أعمالٍ غيرِ مناسبةٍ: ويأخذونَ
على ذلكَ أموالاً كثيرة.
سابعًا: معاملةُ هؤلاءِ العمالِ بجميعِ صورِ القهرِ والذُّلِّ والاستخفافِ، فبعضُ الكفلاءِ هداهم اللهُ يتركُ عامِلَهُ أو عُمَّالَهُ في مكانٍ بعيدٍ وقاحلٍ دونَ سكنٍ، أو طعامٍ أو شرابٍ، فيضطرُّ هؤلاءِ العمالُ إلى الهروبِ خوفًا وحرصًا على حياتِهِمْ.
ثامنًا: سبِّ الخادمِ وضربِهِ وأذيتهِ على أدنى خطأٍ منهُ دون رحمةٍ ولا شفقةٍ.
عبادَ الله: لقد أمرَ الإسلامُ بالوفاءِ بالعهودِ والالتِزامِ بالعقود، قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُم لأَمَانَاتِهِم وَعَهدِهِم رَاعُون}[المؤمنون: 8]، وقال جل وعلا:{يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوفُوا بِالعُقُودِ} [المائدة: 1]. والمسلمُ الذي يخافُ اللهَ، ويخافُ منْ ظلمِ النّاسِ، يكونُ صادقًا في تعاملِه، ملتزَمًا العدلَ في أقوالِه وأفعالِه، أمينًا على من استرعاهُ اللهُ عليهِ منْ العمالِ والخدمِ، فلا يكذِبُ ولا يغِشُّ ولا يخونُ ولا يغدرُ، بل يلتزمُ بِمَا وَعَدَ، طاعةً لربِّهِ جلَّ وعَلَا، واستجابةً لأمرهِ تعالى:(يَا عِبَادِي، إنّي حَرَّمتُ الظُّلمَ على نفسي، وجعلتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرّمًا، فلا تظالموا)(رواه مسلم)، وقالَ الله تعالى: (ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَجُلٌ أَعْطَى بِي، ثم غَدَرَ، ورَجُلٌ بَاعَ حُرًّا، فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، ورَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا، فَاسْتَوْفَى مِنْهُ، ولَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ)(رواه مسلم).
وصدق الله العظيم {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ}[الأنبياء: 47]
باركَ اللهُ لي ولكمْ في القرءانِ العظيمِ ونفعنيِ وإيّاكمْ بما فيهِ من الآياتِ والذّكرِ الحكيمِ أقولُ مَا سمعتمْ فاستغفروا اللهَ يغفرْ لي ولكمْ انَّهُ هو الغفورُ الرَّحيمِ.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ على إحسانِهِ، والشُّكرُ لهُ على توفيقِهِ وامتنَانِهِ، وأشهدُ أن لَا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ تعظيمًا لشأنِهِ، وأشهدُ أنّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ الدّاعِي إلى رضوانِهِ، صلّى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وأصحابِهِ وإخوانِهِ، وسلّمَ تسليمًا كثيرًا، أمَّا بعدُ:
فاتَّقُوا اللهَ عبادَ اللهِ واعلموا أنَّ هؤلاءِ العمّالَ المظلومينَ سوفَ يقفونَ أمامَ اللهِ يومَ القيامةِ ليحاجُّوا كفلائَهُم في تلكَ المظالِمِ ويقتصُّونَ منهمْ لأخذِ حقوقِهِمْ الّتي سُلِبَتْ منهم في الدّنيا، قَالَ صلّى اللهُ عليهِ وسلمَ لأصحابهِ تحذيرًا لهمْ منْ هذا اليومِ: (أتدرونَ ما المفلسُ؟ قالوا: المفلسُ فينَا منْ لَا درهمَ لهُ ولَا متاعَ. فقالَ: إنَّ المفلسَ منْ أُمّتِي، يَأتي يومَ القيامَةِ بصلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ، ويأتي قدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا. فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ. فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ، قَبْلَ أَنْ يَقْضِي مَا عَلَيْهِ. أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ) (رواه مسلم).
فحقوقُ اللهِ تعالى تُبْنَى على المسامَحَةِ، أمَّا حُقوقُ العبادِ فَتُبنى على المشاحَّة، وإذَا دَعتكَ نَفسكَ إلى ظُلمِ الضَّعيفِ حِينمَا نَظرتَ إلى ضَعْفِه وَعَجْزِه وَقِلَّةِ حِيلتهِ فَتذكَّر أنَّ اللهَ جلَّ جلاله أقوى مِنْكَ، وأنَّهُ سيقتص لكل مظلوم لا مَحَالَة، فارحموا ضعفهم، وأحسنوا إليهم، وارفقوا بهم عسى الله تعالى أن يرحمنا جميعًا.
عباد الله: اعلموا أنّ مِنْ أعظمِ مقاصِدِ الشّرِيعَةِ وجوبَ المحافظةِ على كرامةِ الإنسانِ، وتقريرِ حقِّ العملِ لهُ، وصونِ كرامتِهِ، ووجوبَ الوفاءِ بحقوقِهِ الماديَّةِ والمعنويةِ، ومنعِ ظلمِهِ وقذفِهِ وسبّهِ، وأنْ يكونَ أجرُهُ موفيًّا لحاجياتِهِ الضروريةِ حتى تستقيمَ الأمورُ، ويذهبَ الحسدُ والعداوةُ والبغضاءُ، ويسودَ العدلُ والوفاءُ. فاتّقُوا اللهَ أيُّهَا النَّاسُ، واحرصوا على الوفاءِ بمَا أمركمْ بِهِ واجتنبوا المظالِمَ فَإِنّهَا حَسْرَةٌ وَنَدَامَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
هَذا وصلُّوا وسلّموا على الحبيبِ المصطفى والنبيّ المجتبى محمد بن عبد الله فقد أمركم الله بذلك فقال جلَّ من قائل عليماً: [إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً](الأحزاب:٥٦).
الجمعة: 5-2-1441هـ