العمال والخدم وسيد الأمم
حامد الشثري
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله, (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) [آل عمران: 102], (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا) [النساء: 1], (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا * يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيماً) [الأحزاب: 70 و71].
أما بعد ..
فقبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم كان الناس في جاهلية جهلاء، وضلالة عمياء، وكان الظلم بادياً، والطغيان سائداً، ولم يكن للخدم العمال والموالي نصيب من الرحمة والشفقة والعطف، بل يعاملون بالغلظة والجفاء والشدة، فلا يَطعَمُ إلا رديء الطعامِ إن وجد، ولا يكتسي إلا أردى اللباس إن طلب، يُلاقي صنوفَ العذابِ، ويُضربُ حتى يَبتلَ بدمعه التراب، وإن تجاوز وأخطأ، شُجت منه الناصية، أو بالسيف ضربت القافية، حتى ماتوا وهم أحياء
وما أن أطلت بشائر النور، وهب نسيم الرسالة، وبعث نبي الرحمة، إلا واستبشر الضعفاء قبل الكبراء، وسُر الخدمُ قبل الرؤساء، فبعد الضلال المبين، والظلام الأليم، أتى الفضل الكبير، والرحمة العظيمة (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ)
أيها المؤمنون: دين الإسلام دين عظيم، لا يفرق بين صغير ولا كبير، ولا ذكر ولا أنثى، ولا رئيس ولا مرؤوس، ولا صاحب عمل ولا عامل، بل الجميع في ميزانه سواسية في المعاملة، ولذا كان العمال والخدم موتى قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ، مكرمين معززين بعد بعثته،
وهذه وقفات يسيرة، من شذى السيرة، تبين لنا توجيه النبي صلى الله عليه وسلم القولي، وتطبيقه العملي، في التعامل معهم،
روى البخاري ومسلم عن المعرور بن سُوَيْد، قال: لَقِيْتُ أبا ذر بالرَّبَذَة، وعليه حُلَّةٌ، وعلى غلامه حُلَّة، فسألتُه عن ذلك، فقال: إني سابَبْتُ رجلا فعَيَّـرْتُه بأمِّه، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم : «يا أبا ذَرٍّ أعيّـرْتَهُ بأمِّه؟ إنَّك امرؤ فيكَ جاهلية، إخوانُكم خَوَلُكُم، جَعَلَهُم اللهُ تحت أيديِكم، فمن كان أخوه تحت يده، فلْيُطْعِمه مما يأكلُ، ولْيَلْبِسُه مما يَلْبَسُ، ولا تكلُفُوهم ما يَغْلِبُهم، فإنْ كَلَفْتُمُوهم فَأَعِيْنُوهُم»
تأمل تفاصيل هذا الحديث العظيم، سمى النبي صلى الله عليه وسلم العمال والخدم بالإخوان، وأن الله عز وجل سخرهم للعمل تحت أيديكم، ثم كان التوجيه العظيم، أن يأكل مما تأكل، ويلبس مما تلبس، وأن التكليف في العمل لا يكون إلا بما يطيق، وإن كان العمل أكثر من طاقته، فأعنه عليه ولا تتركه وحده
وفي رواية أخرى قال صلى الله عليه وسلم: (ومَن لم يُلائِمْكم منهم فبِيعوهم، ولا تُعذِّبوا خَلْقَ اللهِ) وكان البيع للعبيد والإماء في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، أما في زمننا هذا فهو أن تعيدهم لبلادهم أو تأذن لهم بأن ينقلوا كفالتهم لغيرك، لا أن تحبسهم فلا أنت أعطيتهم حقهم، ولا أنت الذي تركتهم، وسمى النبي صلى الله عليه وسلم حبسهم عذاباً، وظلماً كبيراً.
أيها المؤمنون:
وروى مسلم في صحيحه عن أبي مسعود، عقبه بن عمرو أنه قال (كُنْتُ أَضْرِبُ غُلَامًا لي بالسَّوْطِ، فَسَمِعْتُ صَوْتًا مِن خَلْفِي، اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ، فَلَمْ أَفْهَمِ الصَّوْتَ مِنَ الغَضَبِ، قالَ: فَلَمَّا دَنَا مِنِّي إذَا هو رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَإِذَا هو يقولُ: اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ، اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ، قالَ: فألْقَيْتُ السَّوْطَ مِن يَدِي، فَقالَ: اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ، أنَّ اللَّهَ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ علَى هذا الغُلَامِ ، قالَ: فَقُلتُ: لا أَضْرِبُ مَمْلُوكًا بَعْدَهُ أَبَدًا. [وفي رواية]: فَسَقَطَ مِن يَدِي السَّوْطُ مِن هَيْبَتِهِ.)
تأمل هذه الحادثة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأل أبا مسعود عن سبب ضرب الخادم، فقد يكون تجاوز أو أخطأ في عمله، بل نهاه مباشرة وخوفه بالله، وذلك أنه لا يجوز ضرب الخادم ولا إيذاءه حتى ولو أخطأ في أمر، فحرمته "أعني ضربه وإهانته" كحرمتك، فلا يجوز لك الاعتداء عليه أبداً.
هذا شيء من التوجيه النبوي في التعامل مع الخدم والعمال، أما التطبيق العملي النبوي، فهو ما روى البخاري في صحيحة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (خَدَمْتُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ، فَما قالَ لِي: أُفٍّ ، ولَا: لِمَ صَنَعْتَ؟ ولَا: ألَّا صَنَعْتَ.)
عشر سنوات، مر على النبي صلى الله عليه وسلم فيها فرح وحزن، وسرور وغضب، ورخاء وشدة، ليست بيوم أو يومين أو شهر أو شهرين حتى يتصنع فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم حسن التعامل مع خادمه، بل كان هذا هو نهجه صلى الله عليه وسلم طوال حياته، فليس لعاملك أو خادمك شأن في ما يمر بك من خطب، حتى تكلفه أن يتحمل سوء معاشرتك.
هذا جانب من رعاية الإسلام للخدم والعمال، وصور من حياة القدوة والأسوة العظيم الرحيم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم { لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ }
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني واياكم بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ولسائر الأمة، فاستغفروه وتوبوا إليه، إن ربي رحيم ودود.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وإخوانه.
أما بعد:
أيها المؤمنون: من حكمة الله أن جعل الناس متفاوتين في أعمالهم، وسخر بعضهم لخدمة بعض، قال تعالى (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ۚ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا ۗ وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ)، قال بعض أهل التفسير: (هم بنو آدم جميعا، هذا عامل هذا، ورفع هذا على هذا درجة، فهو يسخره بالعمل، يستعمله به)
وتسخيره بالعمل لا يعني إهانته، بل حث الإسلام على إكرامه والإحسان إليه، وحذر النبي صلى الله عليه وسلم من مغبة سوء معاملة الخدم والعمال والموالي، وأنها من الظلم الذي هو من كبائر الذنوب.
وبعدُ عباد الله .. ولما طال الزمن بعد عهد النبي صلى الله عليه وسلم وقل وازع الدين عند بعض الناس، كان لابد للناس من وازع يردعهم، ونظام يوجههم، ووعظ يذكرهم، فكان من الأنظمة التي رسمتها الدولة – وفقها الله – وأقرتها، نظام العمل، وقد ساوت في فقراته بين المواطن وغير المواطن، ورسمت خارطة طريقه في مئتين وخمسة وأربعين مادة، كانت كفيلة بحفظ حق العامل المواطن وغير المواطن، والمحافظة على حقوقه منذ ارتباطه بالعمل وحتى خروجه منه، مروراً بالمرتبات وحفظ حقه فيها وإجازاته وساعات عمله وسفره وعودته وتغيير طبيعة عمله، بل لم تغفل جانب المرأة والظروف الحمل والولادة والرضاع وما يتعلق بها، في نظام شامل تام يبين حرص هذه البلاد على نصرة الضعيف، وحفظ حق العامل، وردع الظالم والمتسلط، ومهما كان هنالك من حالات شاذة، أو قصص واهية، فهي لا تمثل المجتمع، ولا تشكل صورته.
ولزاماً على المرء أن يتحرى المصداقية فيما يسمع وينقل، فقد روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كَفَى بالمرءِ كذِبًا أن يحدِّثَ بِكُلِّ ما سمِعَ).
ثم أعلم يا صحاب العمل، ويا من سخر الله لك العمال والخدم، أن الله أقدر عليك منك على عاملك وخادمك، فأتق الله فيه، وتذكر قول معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما لما قال: (إنِّي لأستَحي أن أظلِمَ مَن لا يجِدُ عليَّ ناصِرًا إلَّا اللهَ)، وأحذ الظلم ومغبته، فهو سبب لزوال المال، وحلول النقمة والوبال.
هذا وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال: ({إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}.
المرفقات
1724971606_خطبة العمال والخدم .. قبل وبعد مبعث سيد الأُمم 26-02-1446هـ.docx
1724971622_خطبة العمال والخدم .. قبل وبعد مبعث سيد الأُمم 26-02-1446هـ.pdf
1724971622_خطبة العمال والخدم .. قبل وبعد مبعث سيد الأُمم 26-02-1446هـ نسخة الجوال.pdf