العفو والصفح
إبراهيم بن سلطان العريفان
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، مجيب الدعوات، رفيع الدرجات، وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، رافع السماوات، ومنزّل الآيات، إلهنا وخالقنا ورازقنا، وليس لنا رب سواك. اللهم أنت أحق من ذُكر، وأحق من عُبد، وأرأف من ملك، وأجود من سُئل، وأوسع من أعطى. أنت المَلِكُ لا شريك لك، والفَرد لا نِدّ لك، كل شيء هالك إلا وجهَك، لن تطاع إلا بإذنك، ولن تُعصى إلا بعلمك، تطاع فتشكر، وتُعصى فتغفر، وتكشف الضر، أقرب شهيد، وأدنى حفيظ، حِلْتَ دون النفوس، وأخذت بالنواصي، وكتبت الآثار ونسخت الآجال. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
( أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ).
إخوة اٌيمان والعقيدة ... من منا لا يسعى من أجل عفو الله ومغفرته ومحبته، فمن أراد ذلك فعليه بالعفو والصفح للناس والتسامح لمن أساء إليه، قال تعالى ( َإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) وقال ( فَمَن عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ) وقال ( وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ) هذه الآية نزلت في الصدِّيق، حين حلف ألا ينفع مِسْطَح ابن أثاثة بنافعة بعدما قال في عائشة ما قال. فلما أنزل الله براءةَ أمِّ المؤمنين عائشة، وطابت النفوس المؤمنة واستقرت، وتاب الله على مَن كان تكلَّم من المؤمنين في ذلك، وأُقيم الحدُّ على مَن أُقيم عليه، وكان الصديق رضي الله عنه معروفًا بالمعروف، له الفضل والأيادي على الأقارب وغيرهم. فلما نزلت ( أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) قال الصديق: بلى، والله إنَّا نحبُّ - يا ربنا - أن تغفر لنا. ثم رَجَع إلى مسطح ما كان يصله من النفقة، وقال: والله لا أنزعها منه أبدًا، في مقابلة ما كان قال: والله لا أنفعه بنافعة أبدًا، فلهذا كان الصديق هو الصديق رضي الله عنه وعن بنته.
يا لها من عظمة! الصديق يعفوا عن من؟! يعفو عن من خاض في عرضه بعد أن تاب إلى الله، بل ويرجع من جديد يتصدق عليه، يا له من عفو! إنه عفو العظماء، فماذا نقول لأنفسنا ونحن لا نسامح في الشيء اليسير من الأذى الذي لا يكاد يُذكر.
فالعفو أيها المؤمنون بابٌ رفيع للفوز بالجنان ونيل رضا الرب الرحمن، قال الله ( وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) وقال رسول الله ﷺ ( مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ، دَعَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رُؤوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ حَتَّى يُخَيِّرَهُ اللَّهُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ مَا شَاء ).
عباد الله ... أهل العفو هم الأقرب لتحقيق تقوى الله جل وعلا ( وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ) العفو والصفح باب عظيم من أبواب الإحسان ( فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) هذه هي العزة يا باغي العزة، وهذه هي الرفعة يامن تنشدها ( وما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلاَّ عِزًّا، وما تواضَعَ أحدٌ للهِ إلا رفعَه ) فالعفو لا يزيد صاحبه إلا عزاً ورفعةً وسموَّ قدرٍ في الدنيا والآخرة.
لما عفوت، ولم أحقد على أحدٍ **** أرحت قلبي من غم العداوات
إني أحي عدوي عند رؤيته **** لأدفع الشر عني بالتحيات
وأظهر البشر للإنسان أبغضه **** كأنما قد حشى قلبي محبات
عباد الله ... فمن عفا عفا الله عنه، ومن صفح صفح الله عنه، ومن غفر غفر الله له ( وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ) فهؤلاء سجيتهم وخُلُقهم وطبعهم تقتضي الصفح والعفو عن الناس، ليس سجيتهم الانتقام من الناس.
لقد كان النبي ﷺ قد بلغ القمة، والدرجة العالية في العفو والصفح، كما هو شأنه في كلِّ خلُقٍ من الأخلاق الكريمة، فكان عفوه يشمل الأعداء فضلًا عن الأصدقاء. فقد كان ﷺ أجمل الناس صفحًا، يتلقى من قومه الأذى المؤلم فيعرض عن تلويمهم، أو تعنيفهم، أو مقابلتهم بمثل عملهم، ثم يعود إلى دعوتهم ونصحهم كأنما لم يلقَ منهم شيئًا، بهذا الأدب أنزل الله عليه ( فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ) ثم أنزل الله عليه ( فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) فكان يقابل أذى أهل الشرك بالصفح الجميل.
ولقي الرسول ﷺ من يهود المدينة أنواعًا من الخيانة فأنزل الله عليه ( وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) فصبر الرسول ﷺ عليهم وعفا وصفح، قال أسامة بن زيد رضي الله عنهما: كان رسول الله ﷺ وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب، كما أمرهم الله ويصبرون على الأذى. وتقول عائشة رضي الله عنها: ما ضرب رسول الله ﷺ شيئًا قط بيده، ولا امرأةً ولا خادمًا إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه، إلا أن ينتهك شيء من محارم الله تعالى، فينتقم لله عزَّ وجلَّ.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنت أمشي مع رسول الله ﷺ وعليه برد نجراني (عباءة) غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه جبذة - أي جذبه جذبة قوية - حتى رأيت صفح عنق رسول الله ﷺ قد أثَّرت بها حاشية البرد من شدة جذبته ( تركت الجذبة علامة على عنق الرسول) فقال: يا محمد أعطني من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه فضحك ثم أمر له بعطاء.
العفو والصّفح - عباد الله - هما خلُقُ النبيّ ﷺ فأين المشمِّرون المقتَدون؟! أين من يغالِبهم حبُّ الانتصار والانتقام؟! أين هم من خلُق سيِّد المرسَلين؟! سئِلَت عائشة رضي الله عنها عن خلُق رسولِ الله ﷺ فقالت: لم يكن فاحِشًا ولا متفحِّشًا ولا صخَّابًا في الأسواق، ولا يجزِي بالسيِّئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح. وصدق الله العظيم ( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ).
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
معاشر المؤمنين ... اتقوا الله عز وجل، ولا تفوتوا على أنفسكم محبة الله وعفوه وصفحه وغفرانه بأن تتخلقوا بخلق العفو والصفح والتسامح. فهذا شهر شعبان قد ذهب ثُلْثُه – والثُلْث كثير - قال رسول الله ﷺ (يطَّلِعُ اللهُ إلى خلقِه في ليلةِ النِّصفِ مِن شعبانَ فيغفرُ لجميعِ خلقِه إلَّا لمشركٍ أو مشاحنٍ ) فنقِّ قلبك من الشرك وشوائبه، ومن الشحناء والخصومة، فإن شرها عظيم، ووبالها يعم ولا يخص.
فللأسف أن تقع المشاحنات والخصومات ... لا أقول مشاحنات بين الشركاء أو الجيران بل والله بين الأشقاء، بل بين الابن وأبيه، والرجل وأمه، مشاحنات ومرافعات وقضايا.
أين هؤلاء جميعاً من قول النبي ﷺ ( تُفتَحُ أبوابُ الجنَّةِ يومَ الاثنينِ، ويومَ الخميسِ ، فيُغفَرُ لِكُلِّ عبدٍ لا يشرِكُ باللَّهِ شيئًا ، إلَّا رجلًا كانت بينَهُ وبينَ أخيهِ شحناءُ، فيُقالُ: أنظِروا هذَينِ حتَّى يصطلِحا ، أنظِروا هذَينِ حتَّى يصطلِحا ، أنظِروا هذَينِ حتَّى يصطلِحا ).
معاشر المؤمنين ... إن فضل الله عز وجل جد واسع، وهو عظيم، فتفقد قلبك، وراجع توحيدك، ونق قلبك نحو إخوانك، ولا تبيتن الليلة وبينك وبين مسلم خصومة أو شحناء عسى الله عز وجل أن يغفر لنا ذنوبنا جميعًا.
اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمُشرِكين، ودمِّرْ أعداءَ الدين، وانصُرْ عبادَك المُوَحِّدين، واجعلِ اللَّهُمَّ هذا البلدَ آمنًا مُطمئِنًا، وسائرَ بلاد المسلمين، يا ربَّ العالمين،
اللَّهمَّ آمِنَّا في أوطانِنا، وأصلحْ أئمتَّنا ووُلاةَ أمرِنا، اللهمَّ وفِّقْهُم لما فيه صلاح الإسلامِ والمُسلمين، اللَّهمّ وفِّقْ إمامَنا وسائر أئمّة المسلمينَ ,اللهم وفق خادم الحرمين لكل خير، وكن له عونًا في كل ما أهمه، اللهم وفقه للصواب فيما يقول ويفعل وارزقه الصحة والسلامة والعافية، اللهم وفقه لمراضيك وجنّبه نواهيك إنك على كل شيء قدير (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ).
عباد الله: صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه