الْعَشْرُ الأَوَاخِرُ مِنْ رَمَضَانَ
سعود المغيص
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً.
أَمَّا بعدُ فيا عباد الله :
اتقوا الله تعالى واعلموا أن المُؤْمِنُ الصادِقُ الحريصُ، كُلَّما تَقَدَّمَت بِه الأيامُ، زادَ اجْتِهادُه، فَتَجِدُهُ في آخِرِ الشَّهْرِ أَكْثَرَ طاعَةً مِن أَوَّلِه، لِأَن هذا هو هديُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
لَقَدْ مَضَى أَكْثَرُ شَهْرِ رَمضان، ونَحْنُ في العَشْرِ الأخيرةِ مِنه، وفِيها مِن الخَيْرِ والفَضائِلِ ما لا يَخْطُرُ بِبالِ أَحَدٍ، فَإنَّ مِن رَحْمَةِ اللهِ بِنا، أَنَّ فَضائِلَ شَهْرِ رَمضانَ لا تنقَضي، ولِذلكَ خَصَّها النبيُّ صلى الله عليه وسلم بِالمَزيدِ مِن العَمَل، قالت عائِشَةُ رضي الله عنها: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العَشْرُ شَدِّ مِئزَرَه، وأحيا ليله، وأيقظ أهله ) أَي أَن اجْتِهادَه يَتَضاعَف، وقِيامَه يَكُونُ أَطْول، ولا يَقْتَصِرُ الأَمْرُ على نَفْسِه، بَلْ يَأْمُرُ أَهْلَه أيضاً بذلك.
وهذا مِن التَدَرُّجِ في التَعَبُّدِ والتَبَتُّلِ والإقبالِ على اللهِ ، فإِنَّ العَبْدَ في أَوَّلِ الشهرِ يَنْقَطِعُ بالصيامِ عن المَلَذَّاتِ المُتَعَلِّقَةِ بِفُضُولِ الطعامِ والشرابِ والجِماعِ، والكلامِ المُحَرَّمِ، فَيَتَحَصَّنُ قَلْبُهُ بِذلك مِن الصَّوَارِفِ الشَّهْوانِيَةِ التي تُعِيقُ القَلْبَ عن سَيْرِهِ إلى اللهِ والدارِ الآخِرَةِ، حتى إِذا تَهَيَّأَت النَّفْسُ واسْتَعَدَّت، انْتَقَلَتْ في العَشْرِ الأواخِرِ إلى مَرْحَلَةِ أُخْرَى تَتَعَلَّقُ بِحِمايَةِ القلبِ مِن شَواغِلِ الدنيا، وشَواغِلِ الصُّحْبَةِ والجُلَساء، وذلك بالانقِطاعِ والتفَرُّغِ شِبْهِ التامِ بالصلاةِ والقرآنِ والدعاءِ وسائِرِ الأذكارِ، سواءً كان ذلك بالاعتكافِ أو غَيْرِه. فما ظَنُّكم بِمَن كانت هذه حالُه، كيف سَيَكونُ قَلْبُه في رمضانَ وبَعْدِ رَمضان؟!
ومِمَّا يَحُثُّ العَبْدَ على مَزِيدِ الاجتِهادِ، أَنَّ فيها لَيْلَةَ القَدْرِ التي عَظَّمَ اللهُ شأْنَها بِأُسْلُوبٍ يَجْعَلُ صاحِبَ القَلْبِ الحَيِّ لا يَتَرَدَّدُ في الحِرْصِ وبَذْلِ الأسبابِ، فقال: ( وما أدراك مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ). أي فإن شأنَها جَلِيلٌ، وقَدْرَها عظيم. فهي الليلةُ التي نزلَ فيها القرآن، وتُقَدَّرُ فيها مَقادِيرُ السَّنَة، كما قال تعالى: ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أمْرٍ حكِيم ). والملائِكَةُ فيها أَكْثَرُ مِن الحَصَى، وأَكْمَلَ اللهُ فَضْلَها بِقَولِه: ( لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّن ألف شَهْرٍ )، والمُرادُ بالخَيْرِيَّةِ هُنا: ثَوابُ العملِ فيها، وما يُنَزِّلُ اللهُ تعالى فيها من الخيرِ والبركةِ على هذه الأُمَّة. وهذا مِمَّا تَنْدَهِش له العُقُولُ، حَيْثُ مَنَّ اللهُ على هذه الأُمةِ بِلَيلةٍ يَكونُ العملُ فيها يُقابِلُ ويَزِيدُ على عَمَلِ رَجُلٍ اسْتَمرَّ في العبادةِ ألفَ شَهْرٍ، أَيْ ثلاثا وثمانين سنةً وأربعةَ أشهر. فَيا لَه مِن فَضْلٍ لا يُحْرَمُه إلا مَحْرُوم.
وهذا الأُسْلُوبُ يَبْعَثُ الأَمَلَ حتى في قَلْبِ المُقَصِّرِ والمُفَرِّطِ، الذي فاتَه الاجتِهادُ أَوَّلَ الشَّهْرِ، عِنْدَما يَأْتِيهِ الشيطانُ لِيُقَنِّطَه، ويُشْعِرَهُ بِأَنه فاتُهُ كُلُّ شَيء. فَيَعُودُ له الأمَلُ مِن جديد، فَيَشَمِّرُ مَع إخوانِه المؤمنين، لِيَلْحَقَ بِرَكْبِهِم ويَكونَ معَهُم.
فَيا عِبادَ اللهِ: إنها عَشْرُ لَيالٍ أو تِسْعٌ، فاغْتَنِمُوها، وأَرُوا اللهَ مِن أَنْفُسِكُم فيها خَيرا.
أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية :
الْحَمْدُ للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ تَعْظِيماً لِشَأَنِهِ، وَأشهدُ أنَّ مُحمّداً عَبدُهُ وَرسولُهُ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ تسليماً كثيراً .
أَمّا بَعدُ فيا عباد الله :
إيَّاكُم والتفريطَ فِيما بَقِي مِن لَيالِي هذا الشهر، وتَزَوَّدُوا مِن الأعمالِ الصالحةِ والمُحافظةِ على صلاةِ الليل، واجْعَلُوا ذلك سَبَبًا لاستِمرارِكم على صلاةِ الليلِ بَعْدَ رمضان.
واجتهِدُوا في الدعاءِ لأنفسِكم بِالمَغْفِرةِ والرحمةِ والقَبُول، وأَكْثِرُوا مِن الدعاءِ أَنْ يَنْصُرَ اللهُ بلادنا ويحفظها من كل مكروه ، وأَكْثِرُوا مِن الدعاءِ لإخوانِكم المسلمين في كل مكان .
واحرِصُوا يا عبادَ اللهِ على حَثِّ أولادِكُم ونسائِكُم على الصلاةِ والعبادةِ في هذه الليالي فَإِن مِن الاجْتِهادِ الذي كان يَفْعَلُه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم هو إِيقاظَ أَهْلِه في هذه الليالي. ومَن كانت مِن نِسائِه حائِضاً فَلْيُخْبِرْها أَن الخَيْرَ لَيْسَ مَقْصُورًا على الصلاة. وَلْيَحُثَّها على كَثْرَةِ الذِّكْرِ والاستغفارِ، والدعاءِ وقراءَةِ القرآن. فإن الحائضَ أو النُّفَساءَ وإِنْ كانت لا تَمَسُّ القُرآن، لكنها تَقْرأُ عَن ظَهْرِ قَلْبٍ أَوْ تَلْبَسُ اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَأَهْلِ بَيْتِهِ الطَّاهِرِينَ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَعَنِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ، وَعَنِ التَّابِعِينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنَّا مَعَهُمْ بِمَنِّكَ وَإِحْسَانِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَاخْذُلْ مَنْ خَذَلَ الدِّينَ، وَاجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا مُطْمَئِنًّا، وَسَائِرَ بِلاَدِ الْمُسْلِمِينَ.
اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَانْصُرْ جُنُودَنَا، وَأَيِّدْ بِالْحَقِّ إِمَامَنَا وَوَلِيَّ أَمْرِنَا، اللَّهُمَّ وَفِّقْهُ وَوَلِيَّ عَهْدِهِ إِلَى مَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَوَاصِيهِمْا لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَجَمِيعَ وُلاَةِ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ يَا رَبَّ الْعِالَمِينَ.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ نَعِيمًا لَا يَنْفَدُ، وَقُرَّةَ عَيْنٍ لَا تَنْقَطِعُ، وَلَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ الْكَرِيمِ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ؛ فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ.
وَصَلَّى اللهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.