العشر الأواخر من رمضان
مبارك العشوان 1
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أَمَّا بَعْدُ: فَـ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } آل عمران 102
عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَا بِإِدْرَاكِ الشَّهْرِ، ثُمَّ تَوَالَتْ نِعَمُهُ تَعَالَى فَبَلَّغَنَا هَذِهِ العَشْرَ.
البَارِحَةُ أَوَّلُ لَيَالِيهَا، وَيَومُنَا هَذَا أَوَّلُ أَيَّامِهَا؛ وَهِيَ عَشْرٌ مُبَارَكَةٌ؛ لَيْسَ فِي العَامِ لَيَالٍ مِثْلُهَا.
فَنَحْمَدُ اللهَ وَنَشْكُرُهُ، وَنَسْأَلُهُ تَعَالَى العَوْنَ وَالتَّوفِيْقَ.
هَذِهِ العَشْرُ - وَفَّقَكُمُ اللهُ - مَوسِمٌ كَرِيْمٌ، وَمَغْنَمٌ عَظِيْمٌ، وَفُرْصَةٌ ثَمِيْنَةٌ؛ يَنْبَغِي تَمْيِيْزُهَا عَنْ غَيْرِهَا بِمَزِيْدٍ مِنَ الاِجْتِهَادِ؛ كَمَا كَانَ نَبِيُّنَا عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُمَيِّزُهَا.
تَقُولُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: ( كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ، مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَتَقُولُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: ( كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ العَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ ) رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
فَلْنَحْرِصْ - وَفَّقَكُمُ اللهُ - عَلَى عَشْرِنَا؛ بِأَنْ نُحْيِيَ لَيَالِيْهَا؛ بِالعِبَادَةِ؛ نُحْيِيْهَا بِصَلَاةِ اللَّيلِ؛ فَصَلَاةُ اللَّيْلِ مِنْ أَفْضَلِ القُرُبَاتِ؛ وَقَدْ أَعْظَمَ اللهُ تَعَالَى الجَزَاءَ لِقُوَّامِ اللَّيْلِ؛ قَالَ تَعَالَى: { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ، فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } السجدة 16 وَقَالَ تَعَالَى: { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ، كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } الذاريات 15 - 18
لِنُجَاهِدْ أَنْفُسَنَا عَلَى قِيَامِ هَذِهِ اللَّيَالِي كُلِّهَا، وَلَا نُفَرِّطْ فِي لَيْلَةٍ مِنْهَا، وَلْنَتَوَاصَ بِالقِيَامِ، وَلْنُوقِظْ لَهُ أَهْلَنَا.
وَفِي إِيْقَاظِ الأَهْلِ لِصَلَاةِ اللَّيْلِ: اِقْتِدَاءٌ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ؛ حَيْثُ كَانَ يُوقِظُ أَهْلَهُ.
وَفِيْهِ تَعَاوَنٌ عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى.
وَفِيْهِ إِحْسَانٌ إِلَى الأَهْلِ وَالأَوْلَادِ بِتَرْبِيَتِهِمْ عَلَى الطَّاعَاتِ.
وَفِيْهِ تَحْصِيلٌ لِدَعْوَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ بِالرَّحْمَةِ لِلرَّجُلِ وَالمَرْأَةِ يُوقِظُ بَعْضُهُمَا بَعْضًا لِصَلَاةِ اللَّيلِ: ( رَحِمَ اللَّهُ رَجُلاً قَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّى وَأَيْقَظَ امْرَأَتَهُ فَإِنْ أَبَتْ نَضَحَ فِي وَجْهِهَا الْمَاءَ... ) الخ رواه أبو داود وقال الألباني حسن صحيح.
لِنَحْرِصْ - وَفَّقَكُمُ اللهُ - عَلَى القِيَامِ، مَعَ الإمَامِ حتَّى يَنْتَهِي؛ سَوَاءً صَلَّى إِحْدَى عَشْرَةَ أَوْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ أَوْ أَكْثَرَ مِنَ ذَلِكَ.
قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً بِصَحَابَتِهِ حَتَّى ذَهَبَ شَطْرُ اللَّيلِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، لَوْ نَفَّلْتَنَا بَقِيَّةَ لَيْلَتِنَا هَذِهِ، قَالَ: ( إِنَّهُ مَنْ قَامَ مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ ) رواه الترمذي وأبو داود وغيرهم وصححه الألباني.
عِبَادَ اللهِ: تَحَرَّوا - رَحِمَكُمُ اللهُ - لَيْلَةَ القَدْرِ فِي عَشْرِكُمْ؛ فَقَدْ: ( كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلى الله عَلَيهِ وسَلمَ يُجَاوِرُ فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ وَيَقُولُ: تَحَرَّوْا لَيْلَةَ القَدْرِ فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ ) رواه البخاري.
احْرِصُوا عَلَى قِيَامِهَا؛ فَفِي الحَدِيثِ المُتَّفَقِ عَلَيهِ: ( مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ )
أُخْفِيَتْ هَذِهِ اللَّيْلَةُ عَنِ العِبَادِ لِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ وَاللهُ عَلَيمٌ حَكِيْمٌ. نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يُبَلِّغَنَا هَذِهِ اللَّيْلَةَ، وَأَنْ يُوَفِّقَنَا لِقِيَامِهَا إِيْمَانًا وَاحْتِسَابًا، وَيَغْفِرَ لَنَا ذُنُوبَنَا.
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ العَظِيمِ وَنَفَعَنَا بِمَا فِيهِ مِنَ الآيِ وَالذِّكْرِ الحَكِيمِ، وَأَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ الجَلِيلَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمْ.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ مِنَ الِاجْتِهَادِ فِي هَذَا الشَّهْرِ، وَفِي هَذِهِ العَشْرِ: كَثْرَةُ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ؛ وَقَدْ كَانَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَلْقَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، فَيُدَارِسُهُ القُرْآنَ.
أَكْثِرُوا مِنْ قِرَاءَةِ القُرْآنِ وَتَدَبَّرُوهُ؛ فَفِيهِ صَلَاحُ القُلُوبِ، وَطَهَارَتُهَا، وَبِهِ أُنْسُهَا وَسَعَادَتُهَا: { الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } الرعد 28
يَقُولُ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ: فَلَا شَيْءَ أَنْفَعَ لِلْقَلْبِ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِالتَّدَبُّرِ وَالتَّفَكُّرِ.
أَكْثِرُوا ذِكْرَ اللهِ تَعَالَى؛ اِلْزَمُوا الاِسْتِغْفَارَ؛ فَبِهِ تُرفَعُ الدَّرَجَاتُ، وَتُمْحَى الخَطِيْئَاتُ؛ قَالَ تَعَالَى: { وَمَنْ يَعْمَلْ سُـوءاً أَوْ يَظْلِـمْ نَفْسَهُ ثُـمَّ يَسْتَغْفِـرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيمـاً } النساء 110
أَكْثِرُوا الدُّعَاءَ، وَتَخَيَّرُوا جَوَامِعَهُ، وَإِيَّاكُمْ وَالاِعْتِدَاءَ فِيْهِ.
أَلِحُّوا عَلَى اللهِ، اُدْعُوهُ تَعَالَى يَسْتَجِبْ لَكُمْ؛ سَلُوهُ تَعَالَى يُعْطِكُمْ، اسْتَهْدُوهُ يهْدِكُمْ، استَطْعِمُوهُ يُطْعِمْكُمْ، استَكْسُوهُ يَكْسُكُمْ، استَغْفِرُوهُ يغْفِرْ لَكُمْ، ادعُوهُ تَعَالَى فِي سُجُودِكُم: فَـ ( أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ... ) رواه مسلم.
اِسْتَغِلُّوا طُولَ السُّجُودِ بِكَثْرَةِ الدُّعَاءِ، وَطُوْلَ الرُّكُوعِ بِتَعْظِيْمِ المَولَى جَلَّ وَعَلَا، وَادْعُوا اللهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ.
عِبَادَ اللهِ: وَمِنَ الاِجْتِهَادِ فِي العَشْرِ: الاعتِكَافُ؛ وهوَ لُزُومُ المَسْجِدِ لِطَاعَةِ اللهِ تَعَالَى، وَهُوَ سُنَّةٌ ثَابِتَةٌ؛ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ( يَعْتَكِفُ العَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حتَّى تَوَفَّاهُ اللهُ، ثُمَّ اعتَكَفَ أزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ ) متفق عليه
وَيَشْتَغِلُ المُعْتَكِفُ بِالطَّاعَاتِ، مِنْ ذِكْرٍ وَدُعَاءٍ وَقِرَاءَةٍ وَصَلَاةٍ، وَنَحْوِهَا، وَيَتْرُكُ مَا لَا يَعْنِيهِ.
وَمَنْ أرَادَ اعْتِكَافَ العَشْرِ؛ بَدَأ اعتِكَافَهُ لَيلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَخَرَجَ لَيْلَةَ العِيْدِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَقْرَأَ فِي أَحْكَامِ الاِعْتِكَافِ وَآدَابِهِ، وَيَلْتَزِمَهَا.
عِبَادَ اللهِ: وَقَدْ أَدْرَكْتُمْ هَذَا الشَّهْرَ وَلَمْ يُدْرِكْهُ الكَثِيْرُ؛ وَأَدْرَكْتُمْ هَذِهِ العَشْرَ وَلَمْ يُدْرِكْهَا كَثِيْرٌ؛ فَإِنَّهَا مَغْنَمٌ عَظِيْمٌ فَاغْتَنِمُوهُ، وَفُرْصَةٌ ثَمِيْنَةٌ فَلَا تُضيِّعُوهَا، وَتِجَارَةٌ رَابِحَةٌ فَتَنَافَسُوا فِيْهَا.
ثُمَّ صَلُّوا وَسَلِّمُوا - رَحِمَكُمُ اللهُ - عَلَى مَنْ أَمَرَكُمُ اللهُ بِالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيهِ؛ فَقَالَ سُبْحَانَهُ: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا }الأحزاب 56
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإسْلَامَ وَالمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ وَانْصُرْ عِبَادَكَ المُوَحِّدِينَ، اللَّهُمَّ وَعَلَيكَ بِأَعْدَئِكَ يَا قَوِيُّ يَا عَزِيزُ.
اللَّهُمَّ أصْلِحْ أئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، اللَّهُمَّ وَفِّقْ وُلَاةَ أمْرِنَا لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، اللَّهُمَّ خُذْ بِنَوَاصِيهِمْ لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى، اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا وَإِيَّاهُمْ لِهُدَاكَ، واجْعَلْ عَمَلَنَا فِي رِضَاكَ، اللَّهُمَّ مَنْ أَرَادَنَا وَدِينَنَا وَبِلَادَنَا بِسُوءٍ فَرُدَّ كَيْدَهُ إِلَيهِ، وَاجْعَلْ تَدْبِيرَهُ تَدْمِيرًا عَلَيهِ، يَا قَوِيُّ يَا عَزِيزُ.
عِبَادَ اللهِ: اُذْكُرُوا اللهَ العَلِيَّ الْعَظِيْمَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ وَلَذِكْرُ اللهِ أكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.
المرفقات
1650474751_العشر الأواخر من رمضان 1443.pdf
1650474771_العشر الأواخر من رمضان 1443.docx