العشر الأواخر من رمضان ... مناسبة للجوال

د. ماجد بلال
1443/09/20 - 2022/04/21 14:57PM

خطبة العشر الأواخر من رمضان

ماجد بلال، جامع الرحمن بتبوك 21/9/1443ه

ها قد أقبلت أعظم الليالي على الإطلاق، وأعظم ليالي رمضان على الإطلاق، العشر الأواخر من رمضان، التي كان النبي e يجتهد فيها ما لا يجتهد في غيرها، وسر الاجتهاد في العشر الأواخر هو ليلة القدر العظيمة، أرأيتم الكنز الثمين الذي يبحث عنه كل أحد، أرأيتم الوصفة العجيبة التي تبحث عنها الحسناوات، أرأيتم الخلطة السرية والمكون السري الذي يبحث عن الطهاة، أريتم سر النجاح والتميز الذي يبحث عن التجار، هي ليلة القدر السر العظيم والوصفية العجيبة والمكون السري والكنز العظيم الذي يبحث عنه السائرون إلى الله سبحانه وتعالى، {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)}، هذه الليلة العظيمة التي من أجلها كان e يجتهد اجتهادا عجيباً لا يجتهد مثله طوال أيام السنة، ماهي أشغالك يا عبد الله؟ هل أنت قائد دولة مشغول بأمور دولتك؟ هل أنت قائد جيش مشغول به؟

نبينا محمد e كان قائد ورئيس دولة المسلمين، وكان e قائد الجيش والمسؤول الأول عن الفتوحات الإسلامية، وكان e القاضي الذي يحكم بين الناس بالعدل، وكان e المفتي الذي يعلِّم الناس أمور دينهم وعباداتهم، وكان e رب الأسرة، ومع ذلك كله إذا دخلت العشر شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ، لم  يكن e ينشغل بشيء غير العبادة، ما هو إلا الدعاء والذكر والصلاة والتسبيح والركوع، والسجود، وقراءة القرآن، ومناجاة الله سبحانه وتعالى والتضرع بين يديه والبكاء ورجاء رحمته سبحانه، والاستعاذة من ناره، التذلل لله سبحانه وتحقيق معنى العبودية لله سبحانه في هذه العشر المباركات.

 وإن من أفضل أعمال العشر طول القنوت (وهو طول القيام)، عَنْ جَابِرٍ t قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ e: «أَفْضَلُ الصَّلَاةِ طُولُ الْقُنُوتِ» فكلما كان القيام أطول، والقراءة فيه أكثر، كان ذلك أفضل عند الله سبحانه وتعالى  صحيح مسلم (1/ 520)، فقد ثبت عنه e أنه قرأ البقرة والنساء وآل عمران في ركعة واحدة، وهذه ليست للأئمة ولا للمساجد وإنما هي للإنسان في بيته أو في معتكفه اذا يصلي لوحده يطوّل من الصلاة ما شاء.

لذلك جاء الترغيب الشديد في قيام رمضان وقيام ليلة القدر، قال e: (مَنْ ‌قَامَ ‌لَيْلَةَ ‌الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) متفق عليه، وكما قال الله (ليلة القدر خير من ألف شهر) أي الصلاة في ليلة القدر خير من الصلاة في 83 سنة، الله أكبر، نسأل الله من فضله، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة: 4] .

وأمر النبي e المسلمين بتحريها والبحث عنها وتحصيل فضلها والاجتهاد بالعبادة فيها، شفقة منه e على هذه الأمة لمَّا كانت أعمارها قصيرة عوضها الله عز وجل بهذه الليلة خير من ألف شهر فقال e من حَدِيث عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ e قَالَ: (تَحَرُّوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْوَتْرِ مِنَ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

وختم الله آيات الصيام في سورة البقرة بقوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186] إشارة وحثاً على هذه العبادة العظيمة ألا وهي الدعاء، وأرشد النبي e إلى أفضل دعاء في هذه الليلة فعن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَرَأَيْتَ إِنْ وَافَقْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ؛ مَا أَقُولُ؟ قَالَ: قُولِي: (اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي) رَوَاهُ التِّرمذِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، فعلى المسلم الاجتهاد في الدعاء في هذه الليالي الشريفة، فالدعاء دليل على عبودية المسلم لربه وانقياده له، وترك الدعاء فيه تكبر عن الله سبحانه وتعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِين} [غافر: 60]، وليكن لسان حالنا كما قال موسى عليه السلام: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِير} [القصص: 24]

اجتهد انت وأولادك واهل بيتك ورغبهم في طاعة الله، وتضرع إلى وقل بلسان حالك ومقالك اللهم إني فقير إلى عفوك ومغفرتك، اللهم أني فقير إلى غناك وفضلك، لا غنى لي عن رحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهما أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك

بارك الله لك ولكم في القرآن العظيم .....

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى عِظَمِ نِعَمِهِ وَاِمْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ لَا شريكَ لَهُ، تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وَأَشَهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدَهُ وَرَسُولُهُ، وَخَلِيلَهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمَاً كَثِيرَاً. أمَّا بَعْدُ..

 

فَاتَّقُوا اللهَ - عِبَادَ اللهِ - حَقَّ التَّقْوَى، وَاسْتَمْسِكُوا مِنَ الْإِسْلَامِ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، وَاعْلَمُوا أَنَّ أَجْسَادَكُمْ عَلَى النَّارِ لَا تَقْوَى.

 

عِبَادَ اللهِ، وَمِنَ الْأُمُورِ الَّتِي يُسْتَحَبُّ لِلْمُسْلِمِ عَمَلُهَا فِي هَذِهِ الْعَشْرِ؛ الْاِعْتِكَافُ فِي الْمَسْجِدِ، وَسُنِّيَّةُ الْاِعْتِكَافِ فِيهَا؛ لِزِيادَةِ فَضْلِهَا عَلَى غَيْرِهَا مِنْ أَيَّامِ السَنَةِ. وَالْاِعْتِكَافُ: لُزُومُ الْمَسْجِدِ لِطَاعَةِ اللهِ تَعَالَى، وقد ورد الاعتكاف في كتاب الله تعالى وأنه من العبادات المقصودة في المساجد {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125]، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَعْتَكِفُ هَذِهِ الْعَشْرَ، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِى سَعِيدٍ أَنَّهُ اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأُوَلَ ثُمَّ الْوَسَطَ، ثُمَّ أَخْبرَهُمْ أَنَّهُ كَانَ يَلْتَمِسُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، وَأَنَّهُ أُرِيهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، وَقَالَ: (مَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعِيَ فَلْيَعْتَكِفْ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَعَنْ عَاِئَشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَاهُ اللهُ تَعَالَى، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ)، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. يعتكف e وهو أكثر الناس شغلاً ما يصلح الأمة، ومع ذلك كان إذا دخل العشر اعتكف واجتهد في العبادة e.

قَالَ اِبْنُ رَجَبٍ رَحِمَهُ اللهُ: "وَإِنَّمَا كَانَ يَعْتَكِفُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا العَشْرِ التِي يَطْلُبُ فِيهَا لَيْلَةَ القَدْرِ: قَطْعًا لِإِشْغَالِهِ، وَتَفْرِيغًا لِلَيَالِيهِ، وَتَخَلِّيَاً لِمُنَاجَاةِ رَبِّهِ وَذِكْرِهِ وَدُعَائِهِ، وَكَانَ يَحْتَجِرُ حَصِيرًا يَتَخَلَّى فِيهَا عَنِ النَّاسِ، فَلَا يُخَالِطُهُمْ، وَلَا يَشْتَغِلُ بِهِمْ".

وَقَالَ العلماء لمن أراد اعتكاف العشر يَدْخُلُ الْمُعْتَكِفُ الْمَسْجِدَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ الْيَوْمِ الْعِشْرِينَ

وَيُسَنُّ لِلْمُعْتَكِفِ الْاشْتِغَالُ بِالطَّاعَاتِ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ الْجِمَاعُ وَمُقَدِّمَاتُهُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ﴾ [البقرة: 187]، وَلَا يَخْرُجُ الْمُعْتَكِفُ مِنَ الْمَسْجِدِ إِلَّا لِحَاجَةٍ لَا بُدَّ مِنهَا، ولا يجوز الاعتكاف لمن كان مشغولاً بفرض كخدمة والدين ليس عندهما غيره، أو يخاف أن يضيع أولاده أو كان مشغولاً بعمل يحتاجه المسلمون، وهو مأجورٌ بنيته إن شاء الله تعالى.

ومن فوائد الاعتكاف صفاء الذهن واقباله على كتاب الله سبحانه وتعالى وتدبره وتأمله والتفكر في معانيه وآياته {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل: 1 - 6] .

صلوا وسلموا ......

المرفقات

1650553016_خطبة العشر الاواخر من رمضان ماجد بلال.docx

1650553022_خطبة العشر الاواخر من رمضان ماجد بلال.pdf

المشاهدات 857 | التعليقات 0