العشرة بالمعروف

أسامة محمد موسى
1438/02/10 - 2016/11/10 11:47AM
العشرة بالمعروف


أيها الإخوة الفضلاء ..
إن الرابطة الزوجية رابطة عظمى؛ صدرت عن رغبةٍ واختيار، وانعقدت عن خبرةٍ وسؤال وإيثار، عقدها مأمورٌ به شرعًا، مستحسنٌ وضعًا وطبعًا.
والأسرةُ –أيها الأحبة- هي اللبنة الأولى لبناء المجتمعات دينيًا وفكريًا وثقافيًا، فبصلاحِها تصلح الأوضاع، وبفسادها تفسدُ الأخلاق والطباع، ركناها وقائداها زوج وزوجة، يجمع بينهما ولاءٌ ووفاء، ومودةٌ وصفاء، وتعاطفٌ وتلاطف، ووفاقٌ واتفاق، وآدابٌ وحسن أخلاق، تحت سقف واحد في عيشةٍ هنية، ومعاشرة مرضية.
وإننا حين نتحدثُ عن الأخلاق، وأن الأممَ تنهضُ بالأخلاق، وبذهاب الأخلاقِ تنهدمُ الأمم والحضارات، فإن العشرةَ بالمعروف مع الزوجة والأهل ألصقُ الأخلاقِ ببناء الأمم، فعندما تنهدمُ اللبنة الأساسية في المجتمع فإن الأمة تكون في خطرِ التفكك ومهب ريح الزوال! هل تعلمون أن نسبة الطلاق في بلدنا في العام الماضي تجاوزت الخمسة وعشرين بالمئة؟! أي في كل أربع عقود زواج ينفصمُ منها عقد ؟! عقد الزواج الذي سمّاه الله في كتابه بأنه ميثاق غليظ ينفصمُ بهذه السهولة بسببِ عشرةٍ فاسدة أو خُلُقٍ سئ أو كلمة جارحة أو معاملةٍ صعبة.. إن نبيّنا ﷺ الذي هو خيرُ البشرِ أجمعين يقول: "خيرُكُم خيرُكم لِأهْلِهِ ، وَأَنَا خيرُكم لِأَهْلِي" أحلى من الشَّهد، وأرقُّ من الديباج والحرير، إنهُ خلُقُ النبيّ وكفى .. فإن أردت أن تزنَ أخلاقك وتعاملَك وخيريّتك فإياكَ أن تنظر إلى حالكِ في المسجد! أو أن تقيس على تعاملك في الوظيفة! بل قِس نفسك بتعاملك مع أهلك، بتعاملك في بيتك، فبهذا تظهرُ خيريّتُك وتعرفُ حقيقة أخلاقك..
يا عبدَ الله .. إنك إن وصّاكَ رجلٌ يعزّ عليكَ وصيةً ثم مات، فإنك تجهدُ نفسك لإنفاذِ وصيته لمحبتكَ له .. والنساءُ -يا عباد الله- وصيةُ رسول الله ﷺ .. ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: "واستوصوا بالنِّساءِ خَيرًا، فإنهُنَّ خُلِقنَ مِن ضِلَعٍ، وإنَّ أعوَجَ شَيءٍ في الضِّلَع أعلاه، فإن ذهبْتَ تُقيمُه كَسَرْتَه، وإن تَرَكتَه لم يزَلْ أعوَجَ، فاستوصوا بالنِّساءِ خَيرًا" وإن الله عز وجلّ أمرَ بعشرتهن بالمعروف فقال: "وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهنّ فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيرا"
فهل أنفذتَ وصيةَ رسولِ اللهِ؟ وهل استوصيتَ بزوجتِك خيرا؟ هلمّ بنا لننظرَ إلى تعامل سيدِ ولدِ آدمَ مع زوجاته .. لقد كان رسول الله ﷺ يحمل همّ دعوته، وينشغلُ بالمغازي والحروب، ويفكّر في عداوة المنافقين والمتربصين، ومع كل هذه المشاغل فإنه كان لا ينسى زوجاتِهِ يومياً من عطفِه ورعايتِه ومودته .. فمن حسن عشرته ﷺ أنه يجلس مع زوجاته كل يوم يلاطفهن ويحادثهن، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله ﷺ إذا صلى الصبح جلس في مصلاه وجلس الناس حوله حتى تطلع الشمس ثم يدخل على نسائه امرأةً امرأةً،(لهُ تسعُ زوجات ويدخل عليهنّ امرأةً امرأة) يسلم عليهن، ويدعو لهن، فإذا كان يوم إحداهن كان عندها .. ففي كلّ يومٍ مع أول النهار له مرورٌ على كل زوجة من زوجاته للسلام عليها والدعاء لها..
وفي آخر النهار –بعد العصر- كان يجالس كل واحدة منهن جلسةً يحادثها فيها، ويلاطفها ويقبِّلها، كما أخبرت عائشةُ رضي الله عنها، وتخيلوا ما في ذلك من تأنيسٍ لهن، وتطييبٍ لقلوبهن، فكان نساؤه لا يفقدنه بل يرينه في كل يوم. إنه الخلُقُ العظيمُ الذي مدحه به ربُّ العزة فقال: "وإنك لعلى خلق عظيم" فأينَ هذا ممن يهجر زوجتَه ويتركها الأيام والليالي، بل الشهور ؟ ومن الناسِ من يجالسُ أصحابه كل يوم، ويسهر معهم إلى وقتٍ متأخر حتى إذا عاد إلى بيته كان قد استفرغ جميع طاقته، وقد نام أهلُه، فيهوي بنفسه على فراشه جثة هامدة.. وقد تجد بعض الرجال يأتي من العمل وفي يدِه بعضُ الأوراق لينهي ما تبقى له من العملِ في البيتِ، أو يجلسُ على التلفاز لا يبالي بزوجته وأبنائه، أو يقضي وقته بتقليب الصفحات على الجوال .. وهذا من سوء الطباع وسوء العشرة التي يبدأ بها الزوج فإن ضجرت زوجته وساءت أخلاقها معه بسببه رفع عليها سيف الطلاق والفراق مدّعياً أنها سيئة الخُلُق وقليلةُ الاحترام ولا يدري أنه هو الذي أهمل عاطفةَ زوجته وأساء عشرتها ..
كان رسولُكم وحبيبُ ربكم ﷺ يُظهر حبّه لزوجته أمام أصحابِه ولا يخجلُ من ذلك ففي الصحيحين أن عمرو بن العاص سأل النبي ﷺ: أيّ الناس أحبُّ إليك؟ فقال: "عائشة" فقال: من الرجال؟ قال:"أبوها" أما في واقعنا فتجدُ بعضَ الرجال من يعاشرُ زوجته السنين الطوال دون أن يصارحَها ذاتَها بحبه له، أو قد يعتبره عيباً ، أو قد يستحي من ذلك .. إن زوجتَك يا أخي قد تعلمُ بحبّك لها، لكنها تحبّ أن تسمع ذلك ولو أسمعتها ذلك في كلّ يوم فإنها لن تملّ بل وتشعرُ بأنك أعطيتها شيئاً ثميناً، وكم من النساء من انحرفنَ لأنهنَ يسمعنَ الكلام المعسول من الذئاب البشرية ! كذلك الاتصالُ بزوجتك في أثناء عملك قد لا يكلفك دقيقة واحدة، جرّب واتصل معها فقط لتسألها عن حالها وحالِ أولادها وتُسمعها الكلام الجميل دون أن تسألها عما أعدّت للغداء، أو تحاسبها على أعمال المنزل، تعبّدِ الله بذلك وأنت مأجورٌ إن شاء الله..
كان النبيّ ﷺ يقبّل أزواجَه قبل خروجِه من البيت، وكان يضعُ فمَه على الموضِع الذي تشربُ منهُ عائشة فيشربُ منه إظهاراً للمودة والمحبة، وكان يتسوّك بالسواكِ الذي تسوكت به زوجتُه وقد فعلَ ذلك في يومِ وفاته ﷺ فجمعَ بين ريقهِ وريقِها في آخر يومٍ له في الدنيا، وكان يتكئ في حجرِها وهي حائض فيقرأ القرآن، وكان ينامُ على فخذها بأبي هو وأمي، حتى إنه توفّي وهو مستندٌ على صدرِ حبيبتِه عائشة صلوات الله وسلامُه عليه .. أينَ أصحابُ الشاعرية، وأين أهلُ الغرامِ، وأين مدّعي الحبّ من هذا الحبّ الطاهر النقيّ الذي يكونُ في أرقى أحواله مع الزوجةِ التي تعاشرُك في بيتك..
كان يدلّل حبيبته عائشة فيرخّم اسمها، فقال لها يوماً: "يا عائش، هذا جبريل يقرئكِ السلام" ويناديها أحياناً فيقول: "يا حميراء" وهو لونها المشرب بحُمرة، وكانت إذا مرضت يمسحُ على موضع الألم بيده اليمنى ويرقيها، ولما أرادت زوجتُهُ صفية أن تركب البعير جلسَ ووضع لها ركبته، فوضعت رجلَها على ركبتِه الشريفة لتصعد عليها وتركب، ولم يخجل من ذلك أمام الناس وهو خيرُ الناس! ولما حجّ بنسائهِ كان جملُ صفيَة من أحسنِ المراكب ومع ذلك عندما أسرعَت القافلةُ برَكَ جملُها فبكتْ رضي الله عنها، فلم يقلل من شأنها لبكائها لسببٍ بسيط إنما أتى وجعلَ يمسحُ دموعها بيده، ما أجمله من تقدير لعواطف الزوجة، ومراعاةٍ لمشاعرها، فلا تشعر المرأة أبداً أنها لوحدها، ومنّا وللأسف من تتعرض زوجته لمشكلة حقيقية وأعباءٍ كبيرة في تربية الأولاد ورعاية البيت ويأتي الزوج ويسخرُ منها ويستهزئ بتفكيرها ..
نبيُّكم ﷺ عندما رأى الحبشة يلعبون بحرابهم في مسجده نادى حبيبته عائشة فقال: "يا عائشة تعالي فانظري" فجاءت ووضعت ذقنها على منكب رسول الله ﷺ وهو يسترها بردائه .. إننا نحتاجُ إلى معهدٍ يدرّسُ حسنَ معاملة سيدِ ولدِ آدم لزوجاته، فكان يخيطُ ثوبه في منزله ويحلبُ شاته بيده ويخدمُ نفسَه، وكان في بيته يكون في مهنةِ أهلِه فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة، وكان إذا دخل بيتَه بدأ بالسواك فلا يشمّ أهلَه منه إلا الرائحة الطيبة ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما: (إني لأحب أن أتزيّن للمرأة كما أحب أن تتزيّن لي المرأة لأن الله يقول: "ولهنّ مثلُ الذي عليهنّ بالمعروف")
ثم إن نبيّنا ﷺ كان وفياّ مع زوجته بعد أن تموتَ عنه، فكان كثيراً ما يثني على زوجته خديجة رضي الله عنها أمام نسائه، فكنّ يعاتبنَه أحياناً ويغرنَ منها فيردّ عليهم ويقول: "إني رزقتُ حبها" إنه الحبيبُ الوفيّ الزكيّ ﷺ، وكان يذبح الشاة ويقطّعها ثم يبعثُ باللحم إلى صدائقِ خديجة وفاءً لها، فتقول له عائشة: كأنهُ لم يكُن في الدنيا امرأةٌ إلا خديجةُ، فيقول : ( إنها كانت، وكانت، وكان لي منها ولدٌ ) .فجميعُ أولادِهِ منها إلا إبراهيم فكان من جاريته مارية رضي الله عنهنّ جميعاً .. وخلّقَنا بأخلاقِ نبينا ﷺ
الخطبة الثانية ..
أما بعد: فصلى اللهُ على من قال: "أكملُ المؤمنين إيماناً أحسنهم خُلُقاً، وخياركم خياركم لنسائهم خُلُقا" ليس خيارُكم لنسائهم متعة، ولا أكثركم معها سياحة، ولا أكثركم أخذها للمطاعم الفارهة .. إن زوجتَك يا عبدالله أكثرُ ما تحتاجه منكَ هو خلُقك الحسَن معها .. لذلك عندما طاف بآلِ محمدٍ نساءٌ كثيرٌ يشتكون أزواجهنّ –أي من الضرب- فقال عنهم: "ليس أولئك بخياركم"
عبادَ الله.. وكما أن حسنَ العشرة وحسنَ الخلُق مع الزوجةِ وصفٌ لخيار الناس، فكذلكَ المرأةُ المسلمةُ عليها أن تعرف حقّ زوجِها عليها الذي اختصرَه النبي ﷺ لإحدى النساء فقال لها: " فانظُري أينَ أنتِ منهُ ؟ فإنَّما هوَ جنَّتُكِ ونارُكِ"
علّم ابنتَك أيها الأب، وأيها الوليّ، قل لها: يا ابنتي كوني لبعلك أرضاً يكُنْ لكِ سماءً، وكوني له مِهاداً يكن لكِ عماداً، وكوني له أَمَةً يكن لكِ عبداً، تعهدي وقت طعامه والزمي الهدوء عند منامه؛ فإن مرارة الجوع مَلْهبةٌ وتنغيصَ النومِ مغضبةٌ ..
عليكِ أن تطيعي أمره بالمعروف، فإن كان النبي ﷺ قد نهى المرأة أن تصوم صيام التطوع وزوجها شاهدٌ إلا بإذنه، فكيف بباقي شؤونها في دخولها وخروجها وسائر أمورها، وقد وصف الله عز وجلّ الزوجَ بالسيّد في كتابه فقال: "وألفيا سيَدها لدى الباب" ويكفي أن طاعتَها لزوجِها سببٌ في دخولها الجنة لقول النبي ﷺ: " إذا صَلَّتْ المرأةُ خمسَها، وصامَتْ شَهْرَها، وحفظَت فَرْجَها ، وأَطَاعَتْ زَوْجَها ، قيل لها : ادْخُلِي الجنةَ من أَيِّ أبوابِ الجنةِ شِئْتِ" ولذلك عندما سئل النبي ﷺ: أيّ النساء خير؟ قال: " الذي تسرُّهُ إذا نظَرَ وتطيعُهُ إذا أَمَرَ ولا تخالِفُهُ فيما يكرَه في نفسِهَا ومالِهِ"
ولتحذرِ المرأةُ من أبواقِ الإعلامِ والرّجلاتِ المنافقات الذين يزينونَ لها طلب الخُلعِ والطلاق لأتفه الأسباب فإنه أمرٌ عظيم لقول النبي ﷺ: " أيُّما امرأةٍ سألَت زوجَها الطَّلاقَ من غيرِ بأسٍ فحرامٌ عليْها رائحةُ الجنَّةِ"
عباد الله .. إن الأخطارَ المحدقة بالأمة كثيرةٌ جداً وليست كلها من أعداء الله إنما بعضُها من عند أنفسنا، وهدمُ الأسر من أكبر أسبابِ ضعف الأمة وتفككها وطمعِ أعدائها بها ..
الدعاء ..



المشاهدات 1113 | التعليقات 0