العذراء في مصر والزهراء في العراق

العذراء في مصر والزهراء في العراق لشريف عبد العزيز


ذكر ابن الأثير وابن كثير في أحداث سنة 398 هجرية، أن الحاكم بأمر الله الفاطمي بتخريب كنيسة القيامة في بيت المقدس، وذلك بسبب البهتان الذي يتعاطاه النصارى في أعيادهم من النار التي يحتالون بها علي العوام، والتي يوهمون جهلتهم أنها نار نزلت من السماء، وإنما هي مصنوعة من البلسان في خيوط الإبرسيم، والرقاع المدهونة بالكبريت بالصنعة اللطيفة التي تروج علي الطغام، ويروجون علي العوام أنها صور العذراء والقديسين والمسيح،فافتتن بهم خلق كثير من أهل بيت المقدس والشام، ثم قال ابن كثير بعد ذكر الخبر : ومازال النصارى حتى الآن يفعلونها عند الموضع نفسه، أي حتى سنة 765 هجرية .
الأقليات وصناعة الأوهام
ففي الوقت الذي فيه الجدل محتدما في مصر علي خلفية شائعة ظهور السيدة العذراء عليها السلام فوق أبراج الكنائس بالوراق وشبرا، تعلن مصادر صحفية عراقية أن عدة حالات لظهور السيدة الزهراء رضي الله عنها وعليها السلام، قد سجلت في محافظة بابل العراقية، وشهدها العشرات من أبناء الطائفة الشيعية، وانتشر الخبر في أرجاء العراق كلها .
فما سر التوافق الغريب بين الحادثتين علي الرغم من تباعد البلاد، واختلاف العقائد ؟
السر وراء التوافق بين نصارى مصر وشيعة العراق هو فكر الأقليات الموتورة التي تحمل إرثاً تاريخياًَ من العداوة التي تحتاج من وقت لآخر لما يغذيها وينفخ في أورها، ويؤجج نارها، ليبقيها حية متقدة في قلوب أتباعها، فالأقليات دائماً ما تبحث عن ما يعضد موقفها المخالف للسياق العام للأوطان التي تعيش فيها، فالأقلية تختلف عقائدياً وفكرياً وربما عرقياً مع الأغلبية، وهذا الاختلاف يورثها ضعفاً وانكفاءً علي الذات، وهذا العقلية دائماً ما تبحث عن الكرامات والمعجزات التي تضمن السيادة الفكرية علي عقول الأتباع حتى لا ينساقوا مع الاتجاه الغالب الذي عادة ما يقوي أقوي صوتاً وأجرأ في طرح أفكاره ومعتقداته، ويمتلك الأدوات التي تمكنه من نشر ما يريد وحجب ما يريد [ علي فرض وقوع ذلك فعلاُ في بلاد الإسلام خاصة مصر ] ومن ثم فإن الأقليات عادة ما تفشل في نشر أفكارها وعقائدها وتواجه تآكلاً في مجموعها عبر السنين، وهذا ثابت تاريخياً وحالياً، فلا توجد أي أقلية علي وجه الأرض صمدت أمام تيار الأغلبية وبقيت حية عبر السنين من غير تناقص واضمحلال غير المسلمين الذين إذا كانوا أقلية في بلد ما فإنهم بما يملكونه من منهج سديد ودين صحيح وعقيدة سوية، يتمكنون من البقاء والنمو والازدهار حتى يصبحوا هم الأغلبية لكثرة من يضم إليهم ويتبع دينهم .
العذراء في مصر
نصارى مصر يواجهون أزماتهم الداخلية الكثيرة والمتزايدة مثل خلافة البابا شنودة والصراع بين القساوسة علي من يخلفه، وملف الانقسام الذي أحدثه القس المنشق ماكسيموس الأول والذي تبعه زيادة عن مليونين من نصارى مصر، ومعركة التنصير المتبادل بين الإنجيليين والأرثوذكس، والملف الثقيل المؤرق للأعداد المتزايدة من المهتدين للإسلام، والذي بلغ حسب آخر الاحصائيات 6000 مهتد سنوياً، أضف لذلك الصدامات الطائفية التي تحدث من وقت لآخر والتي تزايدت حدتها في الآونة الأخيرة بعد الشعور بالقوة قليلاً لدي الأقلية النصرانية نتيجة بعض المكاسب السياسية التي حصلها عليها من جراء استعداء العالم الخارجي علي الحكومة المصرية، هذه الأزمات الثقيلة والملفات الملتهبة لم تعد يجدي معها الإستقواء بأمريكا والاتحاد الأوروبي، ومن ثم بدأت فكرة البحث عن معجزة وكرامة، ولم يجد نصارى مصر أفضل من مسألة ظهور العذراء لتكون طوق النجاة لشعب الكنيسة الذي يعان يمن أزمات طاحنة، لذلك تهافتت أعداد كبيرة منهم علي مسرح الحادث المفبرك، وفي مشاهد مؤثرة أجهش الكثير بالبكاء، وهتفوا بأقوال من عينة : السيدة راضية عنا، البركة حلت علينا، إحنا صح وغيرنا لا، الخير جانا وحيانا، وهكذا من الأقوال التي تصنف في خانة استرواح القلوب المهمومة ونفث الصدور المكبوتة .
العجيب في الحادثة ليس في توافد الأعداد الكبيرة لمسرح الحادث المفبرك، ولكن في تواجد أعداد كبيرة من المسلمين الذين دفعهم حب الفضول لرؤية الأمر، واستغلال النصارى للأمر في تصوير أن الحادث قد أثر في نفسية المسلمين وصدقوه وافتتنوا به، علي الرغم من عدم تسجيل أي دليل علي ما ذهب إليه النصارى، بل جاءت الحادثة المفبركة لتواجه عاصفة من المعارضة القوية خاصة من جانب الكنيسة الإنجيلية التي وصفت الأمر بأنه نوع من الدعاية الرخيصة التي تقوم بها الكنيسة الأرثوذكسية كما صرح بذلك القس صفوت البياضي زعيم الإنجيليين في مصر، وسخر القس صفوت من أمثال هذه الحوادث وقال بلهجة ساخرة : لماذا لا تظهر العذراء إلا علي أبراج كنائس الأرثوذكس فقط ؟ ولماذا لم يظهر المسيح نفسه ؟ وبلغ به الإنكار أن وصف الحدث بأنه خرافة تضحك بها الكنيسة علي البلهاء، في حين وصف رفيق حبيب الناشط والمفكر القبطي الحادثة بأنها تكريس لأزمة متأصلة في المجتمع القبطي الذي يبحث عن دعم معنوي وروحي مستمر لمواجهة أزماته المتعددة، وفي لافتة نادرة أعرب وسائل الإعلام المصرية عن تشككها في صحة الخبر، وظل الأرثوذكس في صمت رهيب تجاه الاتهامات الإنجيلية، حتى عودة البابا من رحلة العلاج من بالخارج، وكان رده بالغ القسوة خاصة ضد القس صفوت البياضي، حيث وصفه بالمعقد فاقد الإيمان، ووصف منكري الحادثة بأنهم لا يؤمنون أصلاً بالعذراء التي لا تظهر إلا لمن ترضي عنه .
الزهراء في العراق
الأمر في العراق لا يختلف كثيراً عن نظيره في مصر، فعلي الرغم من أن الشيعة يشكلون نسبة كبيرة من تركيبة الشعب العراقي، وعلي الرغم من مقاليد الحكم في العراق بأيدي الشيعة الذين تعلقوا بأذيال الاحتلال وساروا في ركاب دباباته حتى انتزوا علي كرسي السلطة بالعراق، إلا أن فكر الأقلية الموتورة ما زال يعشش في عقول أبناء الطائفة الذين ظلوا لمئات السنين لا يغادرون خانة المحكوم، وعقائدهم التي تصورهم في صورة المظلومين الذين سلبت منهم حقوقهم، وتضطرم أنفسهم بالحقد والحسد علي حكامهم من أهل السنة، ويتحينون الفرصة لتفريغ شحنات السنين الطويلة علي من وصفهم بالظالمين لآل محمد .
شيعة العراق الذين يشكلون قرابة ال40% من سكان البلد المحتل، ما زالوا أسري للأوهام والخرافات التي تحتل مساحة كبيرة من دينهم وعقائدهم،وهذه الخرافات تحتاج علي الدوام من يؤججها ويبقيها قيد الحياة بشتى الأساليب، لذلك فخرافة ظهور الزهراء عليها السلام ورضي الله عنها، ترتبط عند الشيعة بالمناسبات الدينية في عقائد الشيعة، فالشيعة الآن يدعون ظهورها قبيل قدوم المناسبة الكبرى في دين الشيعة وهي مناسبة كربلاء والتي قام علي أكتافها معظم خرافات وأوهام الدين الشيعي، والتي يبالغ الشيعة في تعظيمها، وتشكل عقل ووجدان كل شيعي علي وجه الأرض، فليس مستغرب أبداً أن تكون حادثة ظهور الزهراء قبيل العيد الكبير عند الشيعة وهو عيد كربلاء .
وبجانب التأكيد علي حيز الخرافة في دين الشيعة، فأن للشيعة أهداف أخرى من الترويج لهذه الحادثة منها خداع البسطاء والعوام من مسلمي العراق الذين تبهرهم أمثال هذه الأساطير، خاصة والعقل الجمعي العراقي يقبل مثل هذه الخرافات، أي أن نشر الدين الشيعي علي أجندة الحادثة، ومنها أيضا استغلال الحادثة سياسياً في موسم الجدل المحتدم حول قانون الانتخابات، للتأكيد علي وقف الزهراء بجانب الشيعة المظلومين، وهذا ظاهر في تصريحات المعلقين الشيعة علي الحادثة والذين اعتبروها نصراً من السماء ومن آل محمد لأتباع آل محمد المظلومين عبر السنين .
ولعل القاسم الأكثر وضوحاً فيما أقدم عليه نصارى مصر وشيعة العراق أن كلا الفريقين يميل في معتقده لتقديس الذوات والأشخاص ، والميل نحو تجسيم الذات الإلهية في أشخاص بعينهم، والغلو في بعض المخلوقات حتى رفعوهم لمرتبة المعبود من دون الله عز وجل، فالنصارى يغالون في المسيح وأمه عليهما السلام،حتى عبدوهم من دون الله عز وجل، والشيعة يغالون في علي رضي الله عنه وذريته من بعده، حتى أسبغوا عليهم صفات لا تليق إلا بالله عز و جل .
والذي نعتقده أن مريم العذراء وفاطمة الزهراء رضي الله عنهما وعليهما السلام هما أنقي البشر وسيدتا نساء العالمين يقيناً، وهما أسمي وأطهر وأعلى من كل هذه الخرافات والأوهام والأباطيل التي لا تروج إلا على الجهال والمغفلين .

المصدر: مفكرة الإسلام
المشاهدات 1931 | التعليقات 0