العُدَّةُ لِذي القِعْدةِ 1444/11/6ه

يوسف العوض
1444/11/05 - 2023/05/25 09:51AM

الخطبة الأولى

عبادَ اللهِ : يصطفي اللَّهُ مِنْ خَلْقِهِ ما يشاءُ {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ}، فاصطفى مِنَ الملائكةِ رُسلاً ومن النَّاسِ، واختارَ من الكلامِ ذِكْرَهُ، ومِن الأرضِ بيوتَه، واجتبَى مِن الشُّهُورِ رمضانَ والأشهرَ الحُرُمَ، وقد كانت الجاهليَّةُ تَزيدُ في الأيّامِ وتؤخِّرُ اتِّباعاً لهواها، فكان صيامُهم في غيرِ مِيعادِه، وحجُّهم في غيرِ زمانِه، وتفضَّلَ اللَّهُ على هذه الأمَّةِ بِبِعْثةِ نبيِّنا محمَّدٍ ﷺ، وقد اسْتَدَارَ الزَّمَانُ كما كانَ، ووقعت حَجَّتُه في ذي الحِجَّة، وقال في خُطبتِه: «إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ» (متفق عليه)، فاستُوفي العددُ، وصحَّ الحسابُ، وعادَ الأمر على ما سبقَ من كتابِ اللَّهِ الأولِ، وقالَ سبحانه: ( إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ) أي: فلا تَظْلِمُوا أنفسَكم في هذه الأشهرِ المُحَرَّمَة، لأنها آكدُ وأبلغُ في الإِثمِ مِن غيرها، كما أنَّ المعاصي في البلدِ الحرامِ تُضَاعَفُ، لقولِ اللهِ تعالى: ( وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ )، وكذلك الشهرُ الحرامُ تُغَلَّظُ فيه الآثامُ ، وقال ابنُ عباسٍ رضي اللهُ عنهما في قوله: ( فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ) أي: في كُلِّهِن - في كُلِّ أَشْهُرِ السنةِ - ثم اختَصَّ من ذلك أربعةَ أشهر, فجعلهُن حراماً وَعَظَّمَ حُرُمَاتِهِن, وجعلَ الذنْبَ فيهِن أعظمَ، والعملَ الصالحَ والأجرَ أعظمَ.

عبادَ اللهِ : ومِنْ هذِه الأشْهُرِ المُحَرَّمَةِ المُعَظَّمَةِ شَهْرُ ذي القِعْدة, وسُمِّيَ شَهْرُ ذي القِعْدة: لأنَّ العرَبَ تَقْعُدُ فيه عنِ القتالِ, ويَلْزَمُ الناسُ فيه رحالَهُم استعداداً للحجِّ ، وقَدَ تَمَيَّزَ شهرُ ذي القِعْدَةِ بِبَعْضِ الخصائِصِ التي تَخْفى على بعْضِ المُسْلمين:

أولُها: أنَّهُ أولُ الأشهرِ الحُرُمِ الأربعة, وهي: " ذو القِعْدَةِ وذو الحِجَّةِ ومُحَرَّمُ, ورجبُ ".

الثاني: أنَّه مِن أَشْهُرِ الحَجّ, وهي: شوالُ, وذو القِعدة, وعَشْرٌ من ذي الحِجة ، فلا يَجُوزُ لأحدٍ أن يُحْرِمَ بالحجِّ في غيرِها, قال ابنُ عمرَ رضي اللهُ عنهما: " أشهُرُ الحجِّ: شوال, وذو القعدة, وعَشْرٌ مِن ذي الحجة ".

الثالث: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم اعتمرَ أربَعَ عُمَر, كُلُّها في شهرِ ذي القعدة. قالت عائشةُ رضي اللهُ عنها: " ما اعْتَمَرَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ إلا في ذي القِعْدَة ".

فالعمرةُ الأولى: عُمْرةُ الحُدَيبِيَة, عِنْدما صَدَّهُ المُشركونَ وحالُوا بَينَه وبين الوصولِ إلى البيت، وأنزلَ اللهُ في ذلك سورةَ الفتحِ بِكمالِها، وأنزلَ لهم رُخْصةً: أن يذبَحُوا ما مَعَهُم من الهَدْيِ, وكان سبعين بَدَنَةً، وأن يَتَحَلَّلُوا مِنْ إحرامِهم، فَعِنْدَ ذلك أمَرَهُم رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم أن يَحْلِقُوا رؤوسَهم ويَتَحلَّلُوا، وكان ذلك في السنةِ السادِسةِ من الهجرة. وفي هذه العُمْرَةِ, وقَعَ الصُّلْحُ المَشْهورُ بين النبيِّ صلى اللهُ عليهِ وسلم, وكفارِ قريش- وهو صُلْحُ الحُدَيْبِيَة - وعَرَفَ الناسُ بِسَبَبِ ذلكَ أحكامَ الاحصار، وهو المقصودُ في قولِهِ تعالى: ( وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ).

والعمرة الثانية: عُمْرَةُ القضاء, وكان ذلك في السنةِ السابِعةِ من الهجرة.

والعمرةُ الثالثة: عُمْرَةُ الْجِعْرانَةِ عامَ الفتح, أي في السنةِ الثامنةِ من الهجرة, عندَما قَسَمَ غنائِمَ حُنين.

والعُمْرَةُ الرابعة: التي كانت مع حَجَّتِه, وإن كانت وقَعَت في شهرِ ذي الحِجَّة, لكنه عقدَها في آخرِ شَهْرِ ذي القِعدة, وكان ذلك في السنةِ العاشرةِ من الهجرة.

الخطبة الثانية

عبادَ اللهِ : مِنْ لَمْ يَعْرِفْ شَرَفَ زَمَانِهِ فَسَيَأْتِي عَلَيْهِ وَقْتٌ يَعْرِفُ ذَلِكَ ، حِينِ يَقُولُ : { يَا لَيْتَنِي قَدَّمَتْ لِحَيَاتِي } وَقَالَ تَعَالَى : { حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لِعَلِي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكَتُ كِلَا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمٍ يَبْعَثُونَ } . فَاَللَّهَ اَللَّهَ فِي اِغْتِنَامِ وَقْتِكَ ، وَالْحِرْصِ عَلَى مَوَاسِمِ اَلْخَيْرِ ، فَإِنَّ اَلثَّوَّاءَ قَلِيلٌ ، وَالرَّحِيلَ قَرِيبٌ ، وَالطَّرِيقَ مُخَوِّفٌ ، وَالِاغْتِرَارَ غَالِبٌ ، وَالْخَطَرَ عَظِيمٌ ، وَالنَّاقِدَ بَصِيرٌ ، وَاَللَّهَ تَعَالَى بِالْمِرْصَادِ ، وَإِلَيْهِ اَلرُّجُوعُ وَالْمَآبُ ، { وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ اَلْأَوْفَى } وَقَالَ تَعَالَى : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } .

المشاهدات 1923 | التعليقات 0